الدغمائية الفكرية لدى "الحداثيين" في تونس

الحداثة أو التقدم هي مجموعة من العوامل المادية المتلازمة التي يسعى الفرد إلى خلقها أو اكتشفها بهدف إحداث مناخ عيش أفضل و أكثر رفاهية. و عادةً ما تكون الحاجة هي الدافع الأساسي في السعي وراء هذا الهدف. و لكن لسائل أن يسأل هل يمكن أن تكون الحداثة غير مادية؟ بمعنى هل لنا أن نتكلم عن حداثة فكرية أو قيمية؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب الإشارة أولاً أن الحداثة المادية و الحداثة الفكرية هما قيمتان ليسا بالضرورة متلازمتان، بحيث يمكن أن يكونا متزامنتان و متلاصقتان بنفس المجتمع، كما يمكن أن تحضر احدهما و تغيب الأخرى. الحداثة الفكرية هي مجموعة المبادئ و القيم المنبثقة عادةً من الدين أو الموروثة من العادات و التقاليد أو العرف التي يرى فيها المجتمع الوسيلة المثلى لتنظيم العلاقات بين مختلف الأفراد بغية تحقيق أفضل سبل التواصل بينهم بمختلف شرائحهم. كما يصعب على اساسها تقييم مستوى تقدم أو تأخر مجتمع ما عن غيره. و على عكس الحداثة المادية المتميزة بتطورها السريع و المستمر فالحداثة الفكرية عادةً ما تكون ثابتةً بطيئة التحول. لأن ما يميز مجتمع ما عن غيره هي مجموع القيم و المبادئ التي يتبناها و يرى فيها عادةً وجوده و خصوصيته لذلك يكون تشبثه بها أشد و أشرس من أي مكتسب آخر. و محاولة التغيير أو التجديد في هذا المجال في الحقيقة هو ضرب من المستحيل خصوصاً في مجتمع مجموع قيمه و مبادئه ذات مرجعية دينية كمجتمعنا في تونس و ربما يعرض نفسه للخطر من حاول ذلك. و في هذا المجال أيضاً يمكن للدولة أن تتدخل عندما تشعر أن المبادئ و القيم المجتمعية داخلها مهددة أو مستهدفة. فمثلاً فرنسا "العلمانية" تتشدد في السماح في بناء مساجد على شكل العمارة الإسلامية حمايةً للمظهر المعماري لمدنها، كما أنها تمنع المسلمات من إرتداء النقاب في الأماكن العامة تحت دعاوي أمنية و حقيقةً حفاظا على المظهر العام في شوارعها، هذا إضافةً إلى منعها مؤخراً صلاة المسلمين خارج المساجد لضيقها أيام الجمعة سعياً منها لإخفاء كل مظهر يمت للإسلام بصلة. فلا تستغرب عزيزي الحداثي حينما تخرج عشرات المظاهرات في بلدك المسلم تونس إحتجاجاً و تنديداً بالمس من الذات الإلهية من قبل ما يسمى بوسيلة إعلامية، أو حينما يعتصم طلبةً في جامعةٍ ما عندما يشعرون أن حرية اللباس الجميع له فيها حق بإستثنائهم. و لا تعجب كثيراً حين تفرز صناديق الإقتراع غيرك و تقصيك من الحياة السياسية و أعلم أن الشعب وضع كيان ألهوية و كل ما يمت إليها بصلة في اولوياته خصوصاً عندما وجدها مستهدفةً من قبلك. أن تكون حداثياً في بلد مسلم هذا شيءٌ جميل و مرغوب فيه فالإسلام جاءنا بفكر سوي معتدل و حثنا على الرقي القيمي و المعرفي في جميع الميادين و المجالات فبإمكانك أن تبحث و تجتهد و تستنبط كل ما يمكنه أن يعود بالمنفعة و الفائدة على أخلاق المجتمع و سلوكيات افراده طالم أن اجتهادك لم يخرج عن الأسس القيمية المجمع عليها. أما أن تستورد فكراً و تحاول بشتى الطرق تحت دعاوى حرية الرأي و التعبير فرضه عنوةً على مجتمعٍ بأكمله دون مراعاة الخصوصيات الثقافية و التاريخية التي تميزه عن غيره فهنا تكون قد مارست ما يسمى بالدغمائية الفكرية على مجتمع أكثر وعياً و مسؤليةً منك فلفضك في أول فرصة اتيحت له.