المعتقد الديني والفكر العلمي

كان ثمة رجل يحب العلم ويحرص على تعليمه الى الاخرين , وراح شباب القرية يتوافدون عليه ويزداد عديدهم , الامر الذي اثار حفيظة رجل الدين واغاضه وهو يجد قلة زوار مجلسه يوما بعد اخر , وعبثا حاول ان يقنع الشباب بخطل ما كان يتعلمونه عند رجل العلم ذاك , وما ان وجد نفسه عاجزا من الاتيان بشيء يحد به من نشاط منافسه , حتى دعا الى اختبار يجري بينهما امام اهالي القرية ليحكموا بأنفسهم اي من الاثنين هو صاحب العلم والمعرفة , وحددا موعدا لذلك ... ويوم الامتحان قال رجل الدين للثاني , هلا كتبت لنا (( حية )) اي افعى فما كان من الرجل الا ان استل قلمه وكتبها , حينها قال رجل الدين ... لقد شاهدتم ما فعل الرجل والان سأقوم انا بالكتابة , فأخذ القلم ورسم حية , ولما كان اغلبية اهل القرية لا يقرأون ولا يكتبون اشاروا الى الرسم , وعبثا حاول البعض القليل ممن كان متعلما ان يفهم من عاد الى الحضيرة السابقة , بحقيقة الامر .




يوم بدأ الانسان الموغل في القدم , يتحسس الاشياء من حوله ويدركها ويعيها , راح يبحث عن فكرة نشوئها وتكوينها , وصار وهو في لجة بحثه وتأمله لما كان يراه من ظواهر مادية وطبيعية , يفسر كل شيء على ضوء فهمه لها , فهذه شجرة وتلك حجارة وهذا ماء ... غير انه ظل عاجزا عن الكثير من الظواهر الاخرى كالعواصف والا مطار , والليل والنهار ... ولم يكن امامه ازاء هذا العجز سوى ان ينسبها الى المجهول والغيب او القوى الخفية ... ومع مرور الزمن تحولت هذه القوى الى الهة , اغدقوا عليها هالة عالية من القدسية وصار لكل ظاهرة الاها وتخصصت في واجباتها , فهذا اله الخصب وذاك للمطر وغيره للموت ... واختلفت الطقوس من واحد الى اخر , وكذلك الفرائض التي تقدم اليها , وجائت الاساطير التي استمدت مادتها من هذه الالهة لتضيف اليها المزيد من الطاقات الخارقة وتفصل في معتقداتها وتضفي عليها صورا زاهية جميلة , ناهيك عن صفات الوسامة والاستقامة والمقدرة وكما يريدها الاخرون كنموذج لا يشوبه عيب او خطل , خلافا لالهة الشر التي تتصف بالعدوانية والشراسة والانتقام ... وقد تناغمت هذه المعتقدات مع انفعالات الانسان لا على الادراك الملموس والعقلي بل على اساس الايحاء والاعتقاد , كونها لا تمتلك ولا تعتمد البراهين والادلة , بل انها مجرد صيغ رمزية لا تخضع للاثبات والنفي بالتقصي العلمي والتحليل الفلسفي .

وما يجدر ذكره هنا ان الديانات التي تعاقبت مؤخرا , كاخر الاديان , استطاعت ان تضع حدا لفوضى كثرة الالهة وتعددها , حينما بلورت صورة قد تبدو متشابهة الى حد ما للرب , ونسبت اليه كل الظواهر الحياتية بدء من الخلق وانتهاء بالموت , ليحدوا بذلك ويوقفوا انتشار الكثير من المعتقدات الاخرى التي اعتمدت التمر الاها والشمس والقمر والحيوانات ...

مما هو معروف ان الفلاسفة والعلماء استقوا مادتهم من الاساطير , فيما استمدت الاساطير , التي تعد من اهم المظاهر الثقافية الانسانية واول نتاج فكري ابداعي للبشرية , نظامها الخاص من الالهة والقوى الغيبية , وقد اعتمد العلم على تفسير كل شيء وفق نظام من المباديء والقوانين تقف الواحدة فوق الاخرى , بينما ترتبط الاساطير التي تمتعت بسطوة كبيرة فيما مضى , والتي يلعب الالهة وانصاف الالهة ادوارها الرئيسة , ترتبط بنظام ديني معين يهدف الى توضيح وشرح معتقداته وتكتسب من خلاله قدسيتها وسيطرتها المطلقة على ادراك ونفوس من اقتنع بها ... ايضا ان هذه الاساطير لما تزل الى يومنا هذا متماسكة رغم ان العلوم الحديثة استطاعت ان تحد من انتشارها وتركنها في بعض الاحيان على رفوف ضيقة وذلك من خلال الانجازات والاكتشافات العلمية الهائلة ... ولكن ورغم كل ذلك ظلت المعتقدات الدينية صامدة امام النقد العلمي والموضوعي والمنطقي , ولم تستطع الحضارات الانسانية وهي بلغت اوجها ان تقنع من اعتنقها بلا معقولية الكثير مما احتوتها هذه المعتقدات ذلك ان جميع الاديان تعاملت مع الانسان على ضوء الثواب والعقاب , اي هات وخذ , وعرف منظروها وواضعي مبادئها كيف يضعون يدهم على الجرح , حينما راحوا يوهمون اتباعهم بذلك الكم الهائل من الامتيازات اذا ما التزموا بنصوصها , مقابل عقوبات قاسية لمن انكرها وكفر بها , غير ان هذا لا يعني ان كل من امن بمعتقد معين كان خالص الايمان , فكثير منهم كان يقف مذهولا امام البراهين والادلة التي تدحض الكثير مما ورد في معتقده وتثبت زيفه وعدم مصداقيتها , رغم تحصين المعتقدات الدينية لنفسها واكتسابها مناعة تدحض به كل تفسير علمي من خلال نسب كل فعل او عمل او اكتشاف الى القدرة الربانية , عندما هيأت للانسان كل شيء بما في ذلك الابداع وسعة الفكر الذي قاده الى هذا الاكتشاف او ذلك المنجز , فالرب هو من اختار زيدا او غيره ليبدع ويكتشف ... ولي ان اشير الى اية في القرأن تقول (( وعلمنا الانسان ما لم يعلم )) واخرى (( ولا تنفذوا الا بسلطان )) وعندما نتأمل هاتين الايتين نجد من الصعوبة جدا ان نقف عند حدودهما , وحتى بعد الاف اخرى من السنين اذا ما جاء احدهم بعلم او بمنجز فما هو حسب اعتقاد المسلم , الا من عند الله ومن ذلك العلم الذي من الله به على عباده ... ولكي اكون اكثر قربا لما اريد ان اقوله , استشهد بما كنت قد قرأته قبل ايام من ان العلم الحديث توصل الى امكانية تخلص جسم الانسان من الشحنات الكهربائية الزائدة عن طريق وضع جبهته على الارض حيث ستتسرب هذه الشحنات الزائدة , فما كان من بعض المزايدين المسلمين الا ان هلل وكبر ذلك ان المسلمين يمارسون هذه العادة منذ اكثر من الف عام ولخمس مرات في اليوم الواحد ولاكثر من مرة خلال صلاتهم , عليه فلا جديد في هذا الاكتشاف فدينهم والنبي ما فعل ذلك الا لهذه الحكمة ... غير ان المنطق يرفض كليا هذه الحجة ذلك ان المسلم ما ركع الا مذلة لربه ولو كان النبي يعرف ذلك لاخبرهم ان ثمة حكمة فيزياوية تقف وراء هذه الركعة ... عموما ان المؤمن في اي معتقد , عادة ما يلزم ويجبر نفسه على الابتعاد عن كل ما يثير في دواخله الشكوك والظن , فهو اثم وسوف يسأل عنه ذات يوم ...

اذن فالمعتقد الديني , دون استثناء , يعتمد كما قلنا على صيغ رمزية اكتسبت من خلالها مناعة كبيرة امام النقد العلمي , وظلت الى يومنا هذا فاعلة ومؤثرة في مسيرتنا الحياتية رغم لا معقولية الكثير مما ورد فيها , فمثلا ان الكوارث الطبيعية التي حلت بقوم نوح وعاد وثمود وصالح ولوط ... والتي اودت بحياة الكثير منهم , يعتبرها الدين غضبا الاهيا وعقابا جماعيا لمن عصا اوامره وخرج عن جادة الصواب واقترف الاثام والمعاصي ... في حين ان للعلم رأي ووجهة نظر اخرى ومغايرة تماما لاسبابها , بل انه يثبت وبصورة لا تقبل الجدل بصحة وجهة النظر هذه من خلال التجارب والبراهين واختبارات صحة النظرية واثباتها , بل ان العلم تمكن من التوصل الى معرفة وتحديد الوقت الذي ستحدث به هذه الكوارث ...

وختاما فأن المعتقد الديني الذي اطاح ذات يوم بالفلسفة الاغريقية , وصموده القوي الى يومنا هذا امام التطور العلمي الهائل الذي يشهده العالم , لا اعتقد انه سيتمكن من مواصلة مشواره هذا وهو يجابه القوة الجبارة للتطور التكنولوجي العارم الذي راح يضع النقاط على الحروف ويفك الرموز ... فمن كان يعرف قبل حين ما في الارحام ... وما نشاهده من صحوة دينية في بعض الدول او هنا وهناك , لا ارى فيها سوى صحوة ربما ستكون الاخيرة , لتركن بعدها كل المعتقدات الدينية على ذات الرفوف التي تضم العديد من الحضارات الانسانية القديمة والثقافات التقليدية .

لؤي الخليفة