فقه التعصب" أو "الدوغمائية"

كم نحن بحاجة للارتباط بالدراسات الإنسانية الحديثة، وعلوم المجتمع، التي قطعت شوطا، وبمسافات كونية، عن الدراسات التقليدية التي لازالت مؤسساتنا العلمية ترزح تحتها، وتنتج عبر إطاراتها المستهلكة، بدون أي استشعار بعدم الكفاية وعدم جدوى ذلك أمام المأزق الفكري المعاش.

ففي "علم نفس الاجتماع" مثلا:- كانت مجهودات الأمريكي – البولوني الأصل- " ميلتون روكيتش" واضحة و مميزة في العمل تجاه كشف آليات "التصلب العقلي" وهى دراسات تلقفها الفرنسي "جانبيير ديكونشي" كما يذكر "محمد أركون" ، في كتابه "الفكر الإسلامي: قراءة علمية" (1) فلقد نجم عن هذه الدراسات الناشطة والمستمرة حتى الآن عدة مفاهيم غيرت النظرة بصورة لافتة إلى الوقائع الثقافية و يمكننا رصد بعضها هنا:-

فأولا:- انتقل الحديث المبتذل عن التطرف و المتطرفين إلى حديث عن التصلب العقلي كحالة ثقافية عامة، وليس موقف فردي، وشخصي، هذا الأمر يبدو مفيدا ضدا على أسلوب "الصحافة المصرية"(2) والتي صبغت الخطاب العربي بصبغتها، وأصبحت المنابر الثقافية أشبه بصحف الإثارة بدلا من الطرح العقلي المتزن، والنقد الجاد بل "والمحترم".

ثانيا:- مثلما ساهمت تلك الدراسات في إبراز "حال الثقافة" مقابل مفهوم "حال الفرد أو الأفراد"، فهي كذلك تساهم في تعميم النظرة بل شموليتها بدلا قصرها بتيار معين أو خطاب محدد، وان كان الصدام مع السلطة السياسية، والنخب المثقفة:- قد ساهم في بلورة "وعي مجاني وغير دقيق" مفاده أن "التعصب، التصلب، التطرف، هي سمات خاصة بالتيار الديني، "الإسلامي" وبالأخص "براياته وأعلامه ذوي الاهتمامات و المشاريع السياسية"، وبالتالي فان هذه الدراسات هي إحدى وسائلنا لإثبات أن ذلك لا يقتصر على أحد "مسيحيين"، يهود، ماركسيين، قوميين، جهويين، طائفيين، ومسلمين كذلك، بل وحتى النخب الحاكمة السياسية.

ثالثا:- عبر ما تقدم، يتغير مجال الحوار و فاعليات الخطاب من التوجه إلى "من لا يريد" " ومن يتبع الهوى" "وقوى الظلام" الخ... إلى خطاب من لم يستوعب، أو على الأقل لا يستطيع ذلك، لظروف ثقافية واجتماعية وتاريخية أو نفسية "شخصية" كذلك. ونذكر هنا بما سبق الإشارة إليه في مقالنا المسلسل "ثقافة العنف" من فصل ثقافة القرآن بين خطاب الإقناع وخطاب البيان، وسوف يرد لاحقا ما يؤكد استنتاجاتنا، أو يمهد السبيل لأخرى لم نوردها أو لم نتعرف عليها .....

مواصفات التصلب العقلي "الدوغمائية" (3)

... إذا ما أردنا السير قدماً نحو المزيد من الحقائق ربما الموجعة، وبيان الحقيقة ليس إلا " إظهار ماهو موجود " فربما من الأفضل أن نترك المصطلحات و الكلمات والألفاظ السارية و المستعملة ، لكي لا نقع في حبائل مضامينها، و معانيها ، وتأثيراتها النفسية ربما ، لذا فلن نعود إلى لفظ " التعصب مثلاً لإرتباطه دائماً بسياق عام و مستمر على آليات الخصام والسباب و الاتهام والإدانة.

في كتاب " سيكولوجية الإنسان المقهور " لا يبتعد مؤلفه " د.مصطفى حجازي " عن " روكيتش و ديكونشي" في أن التصلب العقلي أو الدوغمائية تتمثل في " عدم القدرة على تغيير الحكم أو الرأي في الوقت الذي تتطلب فيه الشروط الموضوعية ذلك "ويسمى مجازي" وذلك بنقد القدرة على السلوك الاستراتيجي ثم يتغير سياق التعريف من الحديث عن الحالة الجزئية "حكم، رأي، وجهة نظر" إلى وصف آلية التفكير ونمط التعامل مع المشكلات الفكرية والأيديولوجية .. فيضيف كذلك:-

وعدم القدرة على إعادة تركيب حقل معرفي ما، حيث توجد فيه مجموعة من الحلول لمشكلة واحدة وذلك للوصول إلى حل بأقصى فعالية ممكنة.
نلاحظ أن الحديث – كما ذكرنا سابقاً – يتناول الأمر من باب عدم القدرة وليس عدم الإرادة ، بغض النظر عن كون القدرة وانتسابها في طور الإمكان أم لا!!! وهذا أمر يدفع إلى إعتماد نظام معرفي وتربوي جديد و مغاير، و معاصر، طالما أن المشكل في صميم البناء المجتمعي و مؤسساته المنوط بها " التكوين والتقويم" من أسرة إلى مدرسة إلى نادي، إلى جمعية ثقافية .... الخ.

و "المضحك المبكي" أن الجمود في الرأي "والموقف" أو عند طريقة التفكير والنظر إلى الأزمات لا يختلف من قضية الإسلام والعلمنة أو مواجهة إسرائيل وأمريكا أو هزيمة وفوز المنتخب الوطني لكرة القدم، أو التهليل أو المعارضة لصدور رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر.... ولاحظ ذلك في الإذاعات " مرئية ومسموعة" وفي خطبة الجمعة، وتعليقات الصحف ومقالات المجلات، وحكايا "المرابيع" والدواوين، وأينما كان (4).

ولا شك أن ما سبق من تعريفات لا يعد كافيا لبيان "الثقافة المغلقة " الدوغمائية وثمة عناصر خمسة" 5 عناصر " مفترضة كضابط معرفي للأوضاع العقلية المتصلبة أو "الدوغمائية" ... هذه " الخماسية" تتضح أهميتها ليس في بيان حال " العقلية الدوغمائية" فقط، بل كذلك تبين كيف تزداد حدة التصلب في هذه العقلية، أي كيف تكون أحداها أشد مراساً من الأخرى.
وقبل ذلك يلاحظ المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري ، أن التطرف أو ما يسمى كذلك عبر كل التاريخ، هو محاولة تصحيح داخلية، وليست موجهة للخارج بحال، أي أن حركة موجهة داخل نفس الجسم وليس إلى النقيض أو الضد المقابل لهذا الجسم و البنية ، لاحظ مثلاً الانشقاقات داخل "المنظومة الماركسية " تروتسكي، النموذج الصيني ... الخ من حيث كونه لا يتقدم بنقد جديد للنظام الرأسمالي "الليبرالي" بل ينقد الآليات والمفاهيم الماركسية نفسها. ونرجو أن لا نضطر كثيراً للأمثلة الإستشهادات الواقعية "كي لا نساعد على تبرئة أحد، أو نساعد أحدهم على إزاحة النقد منه إلى جهات أخرى" (4)
خماسية الثقافة "الدوغمائية" (5)



“تأكيد الانفصال – تعميق التناقض – شمولية الرفض – تغليب الهامشيات – الاتجاهية الصارمة"

-(1)تأكيد الانفصال " أو الحجز والفصل" بحيث كلما كانت الثقافة أكثر قدرة على تكوين حواجز معتمة وسميكة بينها وبين الثقافات والأفكار الأخرى فأنها بالتالي تكون أكثر انغلاق و دوغمائية، ولكي يتأكد الانفصال تلجأ الى أربع آليات "4 " لتطبيق ذلك وهي :-
أ- التشديد على أهمية الخلاف :- بحيث لا تسمح بالقول بأن هذا الخلاف عرضي أو طارئ بل هو دائما جوهري، حتى وإن لم يظهر أساساً ما هو الأصلي والثانوي داخل الثقافة نفسها، فتكاد قيمة الفكرة أو النظرية مستقاة أساساً من قدرتها على مواجهة أضدادها لا من إعتبار آخر.
ب- عدم قبول بل ورفض أي حجة أو دعوة التقريب أو التوفيق بين العقائد المتبناة و المرفوضة. فمجرد التفكير في ذلك خيانة وتقاعس ونكوص....الخ.

ج - إنكار أو التقليل من أهمية أي دليل أو إمارة أو قرينة تظهر وتقلل من أهمية العقيدة والفكرة، فالقوادح التي تظهر لا تقابل بعلمية بل تحتقر و تهمّش.


د - القدرة على التعايش مع التناقضات الموجودة داخل البناء الفكري لتلك الثقافة، لكيلا تخسر التمايز عن الغير الذي يضمن فقط تماسكنا بأي شكل كان.

(2)تعميق التناقض :- فالبناء الفكري يكون مغلقاً و دوغمائياً "متصلباً " كلما كان أقدر على إبراز التناقض مع غيره فهو دائما يسعى لأن:-

أ- يظهر خطأ المقابل بأي شكل كان وبآليات برجماتية، سجالية أو ربما غير منظمة عقلانياً.

ب- يبرز ديمومة وحيوية اليقين بالتفرد والصواب والحق، ورمي المقابل بالخطأ و الباطل.
مع ملاحظة أن المجال غالباً ما يكون بين " العقائد المقبولة والمرفوضة" نظام الأيمان ونظام اللايمان، ؟؟ وإخفاء الصورة الاجتماعية أي عدم ظهور الأسماء والشخصيات والزمان والمكان . فالمواجهة "فوق تاريخية دائماً" وهي كذلك لأن ارتباطها بزمان أو مكان يجعلها طارئة وظرفية. وثمة إمكانية ولو مبدئيا لتجاوزها بينما هي دوغمائياً :- "عميقة، أبدية، شاملة"

(3) شمولية الرفض:- الدوغمائية تكون أعمق كلما كان الرفض والإدانة شاملة ليس للمخالفين فقط، بل لعدم الموافقين، وغير المشابهين وبالتالي: كلما زادت سلة المحذوفات و أمتلأت بالأفكار و الأضداد و كلما كانت تلك الثقافة أو التشكيل المعرفي الفكري أكثر دوغمائية. و علينا إضافة النظر إلى أن آلية الرفض لا تتلخص في عدم القبول المحض، بل غالباً في إلباس المرفوضات زياً متشابهاً، فهي الظلمات، الباطل، الظلامية، اللاعلمية، الخ....
(4)تغليب الهامشيات اليقينية:- في كل المبادئ والأفكار والنظم المعرفية تمت نقاط تعتبر بمثابة " النواة المركزية" ، أو " مركز الثقل" ، ويرتبط بذلك مجموعة من الأفكار المساندة أو المنبثقة، و المترتبة كنتائج لهذه " العقيدة المركزية" ، ونلاحظ دائما انه كلما كانت الثقافة أكثر تركيزاً على الأفكار المساندة أو الثانوية " وهي هامشية مقارنة بالنواة المركزية، لكنها بالنظر للواقع الصراعي تغدوا أساسية، فالعقلية المتصلبة دائما ما يكون الغالب على خطابها و ممارساتها ما هو في الأساس هامشياً، لكنه يغدو أكثر من مركزي وصميمي بغير ما دافع عقلاني أو نقدي جاد ومتماسك فمن السهل أن يتحول الثانوي والهامشي إلى مركزي وجوهري، طالما أن أهمية المقولات والمفاهيم غير مكتسبة من ذاتها، بل موقف الضد و المقابل دائما هو الذي يحدد أهمية هذه الجزئية أو تلك

5- الاتجاهية البالغة:- ( فانتازية المقصد) كلما أهملت الثقافة الحاضر، واتجهت بل بالغت في الاتجاه نحو ماضي سعيد، أو مستقبل وردي، كانت أكثر دوغمائية، فالزمن في الثقافات المصمتة والمغلقة، هو ما كان أو سيكون، لذا فالحاضر يفسر دائما إما بأنه انحراف عن ما سبق، أو قصور عن ما ينبغي أن يأتي!!!
و في الحالتين تهمل كل المبادرات العلمية التي تسعى لاستنطاق الواقع الراهن، والمكبل بكل القيود المعروفة أو المجهولة، ولن يكون مهما أن يقبل الواقع النماذج التاريخية " السابقة واللاحقة " طالما أننا نعتقد أن كل النماذج صحيحة.
فهذه العقلية الوثوقية " الواثقة دائماً" ، تتجه دائما عبر الزمان، لتفرغ المكان من أي دلالة أو معنى قد يعطلها أو يجعلها غير منطقية، فالماضوية والمستقبلية حال الهيمنة على الفكر، يتحولان إلى كوابيس تدفع إلى رفض كل دعوة إلى أننا لا نفهم الواقع بالدرجة الأولى.

هذه " الخماسية" أوردناها بتصرف " إلى حد ما " ، وأبتعدنا فيها عن التمثيل، فالأمثلة تؤدي إلى حالتين بحسب الصيغ الواردة من حيث تسليطها الضوء على هذه الحالة أو تلك، أي زيادة درجة انطباقها أو عدم انطباقها، فهي أما على " الأنا " أو "الآخر" والحالتين هما:-

أ- التأليب:- حيث يستشعر القاري أنه مقصود بذاته أو بأفكاره وقناعاته، فيتحول الخطاب إلى خصم، وبفقد أمكانية الإقناع أو حتى الشرعية من الآخرين. لذا نفهم أحياناً قسوة الردود، وحدة المناقشات، ليس لخطأ أو قصور فقط، بل كذلك للإحساس بأن ثمة رغبة في النيل منا، والانتقاص من مكانتنا.
ب- الإزاحة:- وذلك بأن يصير القاري إلى أسهل الحلول بوصف الغير بذلك، لترتاح " الأنا" ويتهم " الهو"، خاصة إذا كان المثال يبرز صورة الآخر أو يفهم من ذلك بصورة ما، ...من هنا فالأمثلة غير جيدة من هذا المنطلق بل تؤدي إلى عكس المطلوب في عديد المرات. رغم التسليم بأهمية الأمثلة في تقريب المطلوب.

لابدّ من الإشارة إلى أنه كلما كان التناقص بين الأفكار والواقع أعمق كلما كان المطلوب ضبط أكبر وقع أشد للنقد والمحاكمات العقلية. فمن شأن الثقافة المغلقة أن تجسّر الفجوة أبداً بين واقعها و تحليلها ليس بتحقير التفاوت بينها فقط، بل وإتهام من يعمل على عكس ذلك بالتواطوء والخيانة ..... ربما.

وأخيراً :- فإنه لابد من تسجيل الاعتذار، لغياب الإستشهادات المرجعية والإحالات الكافية، لعدم توفرها حالياً، وبالتالي عدم التمكن من الرجوع للمصادر المطلوبة بصورة دقيقة، عسى أن تتاح الفرصة في قريب الآجال.