الوجه الفلسفي للحقيقة : معاني وخصائص أولية


محمد المصباحي
مقدمة
بالرغم من أن لفظة الحق والحقيقة تعني في معناها الرئيسي في اللغة العربية الثبات[1]، فقد تعددت صورها، وتطورت معانيها، إلى درجة يصعب معها الإحاطة بها وحصر المعاني التي تلازمها أو تقتضيها، كما يصعب الإلمام بكل النظريات والتيارات الفلسفية والعلمية التي ظهرت لتفسيرها وتأويلها.
إن الإحساس بتعدد صور الحقيقة وتطور النظر إليها، عبر رؤى العالم المختلفة أو عبر المذاهب والتيارات الفكرية، لم يكن ممكنا في الفلسفات الكلاسيكية والوسطوية[2]. وقد كان تكاثر مذاهب الحقيقة ومقتربات النظر إليها في الأزمنة الأخيرة نتيجة للتقدم الذي حصل في الميادين اللسانية والمنطقية والمعرفية والأخلاقية، ونتيجة للاختلاف بين التيارات الفلسفية في النظر إليها، من وضعية وتجريبية وتأويلية وبراجماتية وأونطولوجية[3].
إن وجود نظريات ومفاهيم متعددة مختلفة للحقيقة يعني أن ليس هناك إجماعا بين الفلاسفة حول مضمونها، أو المعايير التي تقاس بها. هذا علاوة على الاتجاهات الفلسفية التي تشك في وجود الحقيقة أصلا، وفي مقدمتها فلسفة نيتشه والفلسفات المتفرعة عنها. لقد حصل تطور كبير في مفهوم الحقيقة، فبعد أن كانت تدل على الوجود أو على المطابقة معه، وعلى الذات والماهية، وبعد أن كانت الحقيقة وليدة الحد والبرهان في مقابل الجدل والخطابة، صارت حقيقة اليوم تنأى بنفسها عن شيئية الوجود وصرامة البرهان، مقتربة بذلك من الحقيقة الخطابية التي تعتمد على الحوار بين الآراء. لقد صار من الصعب الآن القول بأنه يمكن الوقوف على واقعة بريئة عن أي تأويل ذاتي، حقيقة في ذاتها بعيدة عن أي إضافات أو تكييف ثقافي معين. كما جرت إعادة النظر في مفهومي التماسك المنطقي والمطابقة الميتافيزيقية بين الذات والموضوع.
وبغض النظر عن الذين شكوا في موضوعية الحقيقة، أو الذين رفعوا شعار موت الحقيقة، وبحثوا عن أصولها في الأساطير والخيالات والأوهام والكذب والرغبات والمصالح الفردية أو الاجتماعية، فإن الحقيقة تبقى لها قوة موضوعية، ولها قابلية للتواصل معها والاتفاق حولها. وبالرغم من أن معظم الفلسفات المعاصرة كفت عن الإيمان بوجود حقيقة منزهة عن الأغراض والمصالح والإيديولوجيات والثقافات، وتوقفت حتى عن اعتبار الوجود الخارجي، مستند الحقيقة، عرَيّ عن التأويلات والثقافات، فإنها لم تقوض وجودها، وإنما عملت على تدقيق الوسائل للوصول إليها وتصورها.
وقد جرى تقسيم التصورات الكبرى لطبيعة الحقيقة في تاريخ الفكر الفلسفي عدة تقسيمات، فمنهم من ذهب إلى أن هناك ثلاثة تصورات أساسية للحقيقة: التصور الأونطولوجي، والتصور المعرفي، والتصور العملي التوافقي[4]. ومنهم من يقسمها إلى تصور دلالي وتصور معرفي. ويتكلم هابرماس عن ثلاث تصورات للحقيقة، فالحق بالنسبة إليه هو القول الذي يمكن أن يُبَرَّر ضمن وضع قولي مثالي، وعند (Puntam) هو القول الذي يمكن أن يبرَّر ضمن شروط إبستيمولوجية مثالية، وعند أبل (Appel K.) هو الذي يكون موضوع اتفاق استدلالي داخل جماعة تواصلية مثالية، في حين اعترض (Peirce) على شروط التبرير المثالية لأن المسافة بين الحقيقة والقابلية للإثبات (assertabilité) المبرر مسافة كبيرة جداً[5]، وهناك من يرى بأن الحجاج هو السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة، لأننا لا نملك أي مدخل مباشر لشروط الحقيقة المجردة عن كل تأويل[6].
لن أهتم في هذه الورقة بتقديم تحليل مفصل للنظريات التي أنتجها تاريخ الفلسفة عن الحقيقة، ولا بتحليل إحدى تصوراها الكبرى، وإنما سأهتم، في لحظة أولى، بالوقوف على المعاني الأولية للحقيقة، وعلى الخصائص اللازمة لها أو التي تقتضيها، على أن أتتبع في لحظة ثانية حضور تلك المعاني في الحقيقة التي نحن بصددها، وهي حقيقة الانتهاكات في تاريخ المغرب المعاصر.
أولا: المعاني الأولية والخصائص الذاتية للحقيقة الفلسفية
في هذه الفقرة نود أن نفحص المعاني الأولية للحقيقة، واللوازم أو الخصائص الذاتية التي تترتب عنها.
1. المعاني الأولية للحقيقة الفلسفية :
أول أمر يصادفنا عند النظر في الحقيقة هو أن من طبيعتها الوحدة الموضوعية، وإلا لما كانت حقيقة ولما جرى الاتفاق عليها والتواصل بشأنها، أما تعددها فهو فقط من باب اختلاف جهات النظر إليها. غير أنه مهما تعددت معاني الحقيقة عبر تاريخ الفلسفة، فإننا نفرز ثلاثة معاني أساسية لها، هي الوجود والماهية والمطابقة :
1. منذ الحقبة اليونانية اعتُبرت الحقيقة مرادفة للوجود. فقد تصور كل من أفلاطون وأرسطو، وكذا معظم الفلاسفة المسلمين، أن الفلسفة هي معرفة الحقيقة، من حيث أن هذه الأخيرة مرادفةٌ للوجود[7]، في مقابل السفسطة التي كانت تبحث عن المنفعة والقوة، والجدل الذي كان يكتفي بالوقوف عند مرتبة الإقناع عن طريق الآراء والظنون. فقد عرّف ابن رشد الفلسفة بأنها العلم الذي « يفحص عن الحق بإطلاق »[8] ، أي عن الحق في ذاته، لا بجهة من الجهات، كما تفعل العلوم الجزئية التي تختص بحقيقة معينة، كالحقيقة الرياضية والطبيعية. ومن هنا يمكن ترجمة عبارة « محبة الحكمة » بمحبة الحقيقة غير المشروطة، أو بالمحبة غير المشروطة للحقيقة، أي أن محبة الفلسفة للحقيقة هي محبة مجردة ونزيهة لموضوع مجرد محايد.
إن دلالة الحقيقة على الوجود في الأعيان[9]، يعني أنها تطلق أولا في مقابل اللاحقيقة أي اللاوجود، وثانيا في مقابل الاستعارة والمحاكاة والخيال، بالرغم من ارتباطها، أي الحقيقة، بجملة من الاستعارات والأساطير المشهورة، كاستعارة النور، وأسطورة الكهف. غير أن الفلسفات الحديثة والمعاصرة، كما أشرنا، أضحت أميل إلى التخفيف من أواصر الصلة بين الحقيقة والوجود، في مقابل ربطها بالاستعارة والمحاكاة.
2. المعنى الأساسي الثاني للحقيقة هو الذي تكون به مرادفة للذات والماهية[10]. فحقيقة الشيء هو ذاته وماهيته، أي خصائصه الذاتية التي تجعله موجوداً[11]ً. والعبارة المتداولة بين الفلاسفة : "الأمر الذي يقال على الحقيقة" أو " المعنى الحقيقي"، هو الأمر الذاتي، أو ما هو بذاته وثابت في الشيء[12]، في مقابل المعنى العرضي أو المجازي[13]. وبهذا تكون الحقيقة هي معنى الشيء الذي به يكون وبمقتضاه يسير. إن ترادف الحقيقة والذات والماهية هو ما يفسر من جهة أخرى أن تكون التعاريف مرادفة للحقائق، من حيث أنها هي الأداة المنطقية للتعبير عنها[14].
ونشير في هذا الصدد إلى أن هيدجر نفسه ربط ربطاً ذاتيا بين الماهية والبحث الفلسفي عن الحقيقة. إذ ذهب إلى أن سؤال الفلسفة عن الحقيقة هو غير سؤال باقي العلوم والمباحث الأخرى، فالفلسفة لا تتساءل عن حقيقة هذا الفعل أو ذاك، عن حقيقة هذه اللوحة، أو هذا الرمز الديني، أو هذه الواقعة الاقتصادية، أو حقيقة هذا الفعل السياسي، أو القيمة الأخلاقية، الفلسفة تتساءل عن الحقيقة في ذاتها، الحقيقة بما هي حقيقة، أي عن ماهية الحقيقة، وهو المعنى الذي يصدق على كل الحقائق[15].
وقد حصر الفكر الفلسفي العربي القديم، المنتمي في عمقه للأفق اليوناني، طرق الوصول إلى الحقيقة في طريقين : طريق التعريف الذي يعطي ماهية الشيء وقوامه الداخلي، وطريق البرهان الذي يعطي لوازمه وأعراضه الذاتية. بعبارة أخرى يقود التعريف إلى تصور الحقيقة، في حين يُفضِي البرهان إلى التصديق بها، ولو أن الأساس الذي يقومان عليه واحدا، وهو التطابق والموافقة بين القول والوجود.
وقد تعرّض هذا التصور لانتقادات كثيرة من قبل الفلسفة المعاصرة، وكان من نتائجها أن تعددت طرق التحقق من الشيء أو التعرف على حقيقته: كالطريق الدلالي، والبرجماتي، والمعرفي (cognitive)، والحواري... هكذا تتطور طرق الحقيقة من البرهان واليقين إلى الخطابة والإقناع.
3. المعنى الرئيسي الثالث للحقيقة هو المطابقة، التي تكون بين القول - أو الحكم أو الاعتقاد - والشيء أو التجربة أو الحدث، الذي يشير إليه القول[16]. والحقيقة بهذا المعنى تقابل الكذب والخطأ الذي يفتقد إلى معيار المطابقة. وقد كانت المطابقة هي الموضوع الذي انقسم حوله الفلاسفة المعاصرون كثيراً. فقد رأى البعض أن المطابقة تكون بين الشيء ومعناه، وتسمى مطابقة أونطولوجية، والبعض الآخر رأى أنها تكون بين القول والشيء، وتسمى مطابقة معرفية. كما جرى الكلام عن مطابقة منطقية تقوم على معيار التماسك المنطقي، ومطابقة دلالية، ومطابقة إثباتية ومبررة...[17]. وبهذه الجهة تكون التيارات الفلسفية والمنطقية المعاصرة قد قدمت عدة بدائل لمعيار التطابق لقياس الحقيقة. وعلى سبيل المثال نشير إلى أن برتراند رسل يميز بين نظريتين للتطابق، النظرية "الإبستيمولوجية " والنظرية " المنطقية[18] ؛ كما يفرق هابرماس بين المطابقة والموافقة، « فأن يكون الأمر موافقا (concordance) للوقائع لا يستتبع بالضرورة أن يكون مطابقا لها (correspondance) »[19]. وعندما نفهم من الحقيقة أنها ذلك المحمول أو الصفة التي نصف بها قولا، فإننا نحدث نوعا من التساوي بين قول وشيء، أو بين محمول وموضوع. غير أن جل التيارات الفلسفية والفكرية المعاصرة، كما مر بنا، لم تعد تطمع في هذه المساواة، مفضلة في مقابل ذلك أن تنظر إلى الحقيقة باعتبارها ثمرة حوار قولي مستمر داخل جماعة معينة، لا سيما وأن التطابق بين الواقع والفكر يتم في داخل الإنسان، ويقوم به الإنسان بفضل حواسه وعقله.
2. الخصائص الذاتية للحقيقة
إن المعاني الأساسية السابقة للحقيقة تقتضي خصائص أو لوازم ذاتية لا تنفك عنها، نذكر من بينها أربعة خصائص:
1. الحقيقة والمعقولية. نعتقد أن المعقولية هي أبرز الخصائص الذاتية للحقيقة، فالقول بأن الحقيقة هي مطابَقة قول أو اعتقاد لشيء أو ظاهرة أو حدث، هو اعتراف بأن هذه الأمور معقولة، وبالتالي أن العالَم يحمل معنى في داخله يجعله قابلا لأن تتواصل معه الذات البشرية، عبر اتباع قواعد وشروط منهجية صارمة. إن هذا التواصل يفترض نوعا من التوافق القبلي بين العقل والواقع. لكن كانط قلب هذا التصور رأسا على عقب عندما أرجع المعقولية المشتركة بين الإنسان والعالم إلى الذات البشرية، فهي التي تُملِي معقوليتها على الطبيعة، مما يجعل الإنسان لا يدرك من الطبيعة إلا ما يضعه فيها، أو كما قال فيخته « إن هذا الشيء شفاف أمام عين عقلك، لأنه هو عقلك ». في حين رأت تيارات فلسفية أخرى بأن التماسك الاستدلالي هو الذي يضمن معقولية الحقيقة.
إن إدراك أهمية التلازم بين المعقولية والحقيقة يصبح واضحا عندما نقف على المخاطر التي تنجم عن فصل أحدهما عن الآخر. ذلك أن الحقيقة عندما تتخلى عن مسعى المعرفة وتتخذ لباس العقيدة، أي عندما تقوم الحقيقة على أساس عملي وذاتي، لا على أساس برهاني موضوعي، فقد تتحول إلى حقيقة خاصة بجماعة معينة، وليست حقيقة عامة للجميع. ومن شأن هذا التصور العقدي للحقيقة أن يجعلها أداة للإقصاء، ورفض الاختلاف، بل قد يكون سببا للعنف والحروب. إذ عندما يؤمن أحدهم بحقيقة خاصة به أو بجماعته التي يؤسسها، فإنه يلغي حقيقة الآخر، اعتقاداً منه بأن الفضاء الواحد لا يسع إلا لحقيقة واحدة. وفي مقابل ذلك، عندما تكون الحقيقة ثمرة حوار بين المعقولية والعقلانية، بين العالَم والإنسان، وبين الإنسان والإنسان، فإنها تكون متسامحة في غالب الأحيان. هذا لا يعني أن الحقيقة عندما تتصف بالتسامح تتخلى عن صرامتها في مراعاة الشروط المنهجية والمعرفية للوصول إليها، وإنما يعني فسمح المجال لأن تكون للحقيقة عدة أصوات، وتسهيل الفرص للإنصات إليها والحوار معها[20]. إن الحقيقة التي تكون لصيقة بالعقل لا تقتل ولا تقصي، بل تحيي وتستقطب وتعطي الآخر حقه في التعبير عن أي رأي شاء في ظل الضوابط والقواعد المتوافق عليها. إن الحقيقة العقلية غالباً ما لا تكون منغلقة على نفسها، متشبثة بها، متشنجة حيال الغير، بل تكون حقيقة منفتحة حوارية متسامحة، لأنه، كما يقول أحد المفكرين « حينما لا توجد شراكة لا توجد حقيقة »[21].
ومن خلال ما سبق نفهم بأن كل عصر تميز بمعقولية ما، فالحقيقة عند اليونان كانت تدور حول معقولية الطبيعة، وفي العصور الوسطى حول معقولية الدين، أما في العصور الحديثة، وخصوصا بعد هيجل[22]، فقد وقع التركيز على معقولية التاريخ، وما يتصل به من مجتمع واقتصاد وسياسة. ومن الواضح أن الفكر المعاصر ركز نظره على الجانب المعقولي من الحقيقة، بدل جانبها الوجودي، عند النظر إلى إشكالية المطابقة.
2. موضوعية الحقيقة: إن قيام الحقيقة على الموضوعية معناه أن من شروطها أن تكون مستقلة عن آرائنا وظنوننا واعتقاداتنا وأهوائنا وانتماءاتنا الاجتماعية والعرقية، وإلا فإن أي ارتباط لها بعنصر من هذه العناصر يفقدها ماهيتها، ويقلبها إلى ضدها. وتعني الموضوعية كذلك أنه متى كان القول حقا، فهو حق دائما وبالنسبة للجميع[23]. بعبارة أخرى، إن كون الحقيقة موضوعية، أي مستقلة عن الشروط الخاصة لمدرِكِها، هو الذي يجعلها عامة وشاملة، حيث يدركها الجميع بنفس المضمون مهما اختلفت الثقافات والأزمنة. وهذا ما سبق أن عبر عنه ابن رشد بطريقته الخاصة عندما قال بأن الحق ليس من المضاف، أي ليس تابعا لمدركه. وحتى عندما يجري الكلام اليوم عن الشروط المثالية للبرهنة عليها وتبريرها، فإن هذه الشروط لا تنطلق بالضرورة من خصائص ثقافة ما، بل من شروط صورية ومسطرية عامة توجد في كل الثقافات، مما يضمن موضوعيتها[24]. من جهة أخرى، بالرغم أن الثورة الكانطية فتحت الباب واسعا أمام تكاثر التأويلات من النوع السفسطائي للحقيقة، أي التأويلات التي خففت من وطأة الموضوعية وقوّت جانبها الذاتي والنفعي والعملي، بردها إلى الشروط اللسانية والمعرفية والثقافية والرؤيوية للذات، فإنه لا يمكن نفي موضوعية الحقيقة تماما، وإلا لما جازت المحاورة والمقاولة بشأنها.
3. وحدة الحقيقة : إن الخصائص السابقة تقودنا إلى خاصية ذاتية أخرى للحقيقة، وهي استحالة أن تكون هناك حقيقتان أو أكثر لنفس الشيء الواحد، أو لنفس التجربة الواحدة. فالحقيقة من طبيعتها الوحدة لا للتعدد والاختلاف: فإذا كنا نختلف في الآراء والظنون، فإننا لا يمكن أن نختلف في الحقائق الطبيعية والهندسية والحسابية. وتبعاً لذلك، لا يمكن الكلام عن ازدواج في الحقيقة، كأن تقول إن هناك حقيقة للعامة وحقيقة للخاصة، كما شاع عن ابن رشد، إذ لو تعددت الحقيقة لانقلبت إلى آراء وظنون.