خمسة قرود، لماذا يؤمنون؟



الذى يدفع الإنسان للإيمان بكيانات وهمية غير متحققة وكيف له أن يحمل على عاتقة حمولة هائلة من الخرافات والغيبيات لا يوجد أى دليل عليها , بل لا يدرك حتى ماهيتها و كينونتها ورغماً عن ذلك يتعصب لمعتقداته وخرافاته ليصل به الحال إلى نفوره ونبذه بل كراهيته لمن يحمل خرافات غير خرافاته .!
ما الذى يشكل الضمير - وكيف يتبلور ليأخذ محددات معينة ؟ .. ولماذا ينتاب الإنسان وخز الضمير عندما يمارس سلوك يلفظه مجتمعه؟
بالطبع هناك مناخ عاطفي حاضن يدفع الإنسان للإيمان يستمده من الوسط والبيئة الحاضنة له ليرث ثقافة محاطة ومسيجة بالعاطفة .. ولكن العاطفة ليست فقط الكفيلة بتحصين الإيمان وإبقاء مفرداته داخل النفس البشرية بل هى مجرد مناخ دافئ يحتضن الخرافة برفق وحب , لذا يبرز منهجية فكر وسلوك يمارس ترويض العقل وتثبيت الخرافة .

نحاول فى هذا البحث رصد السبل الذهنية التى يتحايل بها الإنسان لقبول أفكار ميتافزيقية ليخلق منها القدرة على الإعتقاد لتجد لها سبيلاً فى داخله تصل لحالة من اليقين والحماس الغريب .

فى إحدى مراكز البحث الأمريكية تم إجراء تجربة علمية بغية دراسة ماهية السلوك ومحدداته فتم إحضار خمسة قرود ووضعها داخل قفص , ثم تم تعليق حزمة من الموز بأعلى سقف القفص فى منتصفه , ووضع تحتها سلم حتى تتمكن القردة من تسلقه , لنجد قرداً من المجموعة يعتلي السلم محاولاً الوصول إلى الموز وما أن إقترب ليناله حتى قام المشرفون على التجربة بتسليط رشاش من الماء البارد على القردة الأربعة الباقين فأثار فزعهم ورعبهم .. بعد قليل حاول قرد آخر أن يعتلي نفس السلم ليصل إلى الموز وتم تكرار نفس السيناريو بإغراق القردة الباقين برش الماء البارد عليهم , ليتكرر هذا المشهد عدة مرات عند كل محاولة لأى قرد بصعود السلم والإقتراب من الموز.. لم يستمر هذا السيناريو كثيراً لنجد أن القردة تحاول منع أى قرد من محاولة إعتلاء السلم للوصول إلى الموز خوفاً من الماء البارد ولتستسلم جميعا فى النهاية لحالة العزوف من الإقتراب.

المشهد الثانى فى التجربة هو إخراج قرد من الذين شهدوا رش الماء وإستبداله بقرد آخر جديد لم يعاصر مشهد الماء البارد المصاحب لصعود السلم والإقتراب من حزمة الموز , فسرعان ما يُقدم هذا القرد الوافد الذى لا يحمل خبرة الأذى التى تحل بالقردة حال الصعود لتسلق السلم ونيل الموز , لنجد القردة الأربعة تَهب لمنعه عند محاولته التسلق ولا تتوانى فى مهاجمته ليتعلم هذا القرد الجديد أنه لو حاول تسلق السلم وقطف الموز سينال علقة ساخنة من باقى المجموعة .

يتم إخراج قرد أخر وإستبداله بقرد جديد ليتكرر نفس المشهد بإقدام الوافد الجديد على تسلق السلم بغية الإقتراب من الموز لتنهال عليه المجموعة بالضرب ويشاركها القرد الوافد فى المشهد الأخير بل يضرب بحماس بالرغم أنه لم يعاصر رش الماء البارد ولا يدرى لماذا ضربه رفاقه فى السابق !! - ولكنه تعلم فعلا إشتراطياً أن الإقتراب من السلم وتسلقه عمل محفوف بالمخاطر ويعنى الضرب.

المشهد الثالث - تستمر التجربة بتكرار نفس السيناريو بإخراج قرد ممن عاصروا حادث رش الماء عند تسلق السلم والإقتراب من الموز ليتم وضع قرد جديد ليتكرر نفس الموقف ورد الفعل إلى أن نصل بإستبدال كل المجموعة القديمة ممن تعرضوا لرش الماء بقرود جديدة كل أفرادها لم تشهد رش الماء عند تسلق السلم لنجد أن القردة ستنهال ضرباً على كل من يجرؤ على الاقتراب من السلم وصعوده متوجها لحزمة الموز بالرغم ان الجميع لم يعاصروا الحدث . !! ..وتنتهى التجربة بإستسلام كل القردة لحالة من السكون وعدم الإقتراب . (راجع المصادر ادناه)


هذه التجربة تلقى الضوء على السلوك و ردود الفعل وكيفية تكوين السلوكيات والخبرات التى تشكل الوعى .. ويمكن أن نلاحظ مدى تشابهها مع السلوك الإنسانى ليس للتقارب بين الإنسان والقردة بيولوجياً وجينياً كون الإنسان ينحدر من أصول القردة لكن من تأمل السلوك الإنسانى الإجتماعى فى مجمله , فلن يخرج عن تشكيل السلوكيات والخبرات من مشاهد حياتية تم إستنتاجها كمسلك القردة فى تحاشى رشاش الماء , وإن إحتوى الوعى و الذاكرة الإنسانية على سعة كبيرة وهائلة من الخبرات والمشاهد بحكم تطوره ومرونته .

سأحاول من خلال تأملاتى أن أسقط التجربة على تعاطى الإنسان مع الإيمان لنتحسس كيف يتكون الإيمان والضمير , وكيف يتعصب الإنسان لسلوك ومعتقد لا يتلمس أى شئ من مفرداته سوى أنه سمع عن رش الماء البارد عند تسلق السلم .

المشهد الأول فى التجربة والذى يتم فيه إيذاء القردة بمجرد إقتراب أحدهم من الموز يعطى لنا معنى عن تكوين الإنطباعات الأولى للأحداث والأفكار عندما تكون مفرداتها مصحوبة بالمعاناة والألم .. فمعاناة القردة من رشاش الماء البارد والتى وجدت فيه صورة مؤلمة جعلتها تعزف عن تسلق السلم لتتشابه مع معاناة الإنسان من قسوة وألم الطبيعة مع عدم إدراكه سببها ليجعله يخلق فكرة النحس أو الخطيئة كإرتباط شرطى يكون مصاحب لجلب الألم والشر , ويتم هذا الأمر عبر الملاحظة أو إيجاد علاقة شرطية متوهمة بحثاً عن شماعة وسبب .. فكلما صادف الألم فى صورة معينة بحث عن سبب وربطه بفعل له او لغيره جلب النحس والشر المتمثل فى رشاش الماء , لذا عليه أن يكف عن فعل هذا الشر إلا وسيجلب الألم والمعاناة , وبما أن الفعل السلوكى دائم الإنتاج فستصبح معقولية فكرة السلوك السئ الجالب للشر قائمة .
لا تكون فكرة النحس والشر مقصورة على منهجية إنساننا القديم فمازلنا حتى فى عصرنا الراهن نتعامل مع الحظ والنحس والتشاؤم لتجد من يقول بأن يومه كان سيئا لأنه رأى فلان وان تجارته ومشاريعه كسدت من جراء الحسد أو أن خسارته وفشله لأن الله غاضب عليه .

بحث الإنسان عن الربط الشرطى بشئ محدد جاء من مراقبته وحالته النفسية ومزاجه العام وعلاقاته وصراعاته وتجاربه المحدودة المبنية على الملاحظة مع وعى معرفى يقترب من الصفر ومشوه فى الوقت ذاته لتقفز الأهواء والمصالح المادية لتحدد مسار التحريمات والتابوهات التى تجلب الشر , فلا توجد فكرة ولو خيالية أو غير منطقية ليس لها غايات ومصالح وحاجات على الأرض , لتستغل النخب والقوى المهيمنة فى الجماعة البشرية فكرة الإرتباط الشرطى لتسخيرها لخدمة رؤيتها وترسيخ وتأكيد وحماية مصالحها فتعلن مثلاً أن الشر الحادث هو نتيجة عدم الخضوع للإله الملك أو أن العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج تجلب الشر على الجماعة البشرية من غضب الإله الذى يحرك الطبيعة فينفخ مجلباً الأعاصير أو يدك الأرض بقدمه فينشئ الزلازل .. هى سوقت هذا من خلال رؤيتها ومصالحها الخاصة فطبقة الملاك تخشى على أملاكها من التبدد ويزعجها إختلاط الأنساب فزعمت أن الآلهة تنزعج من الممارسات الحرة حتى تحول أن يقترب أحد من أوانيها الجنسية لتضمن نقاءها .

الميثولوجيا الدينية حافلة بالفعل الشرطى الذى يربط بين المصائب والخطيئة فأسطورة الطوفان جاءت من فساد البشر وغضب الإله وكذلك سدوم وعمورة وكلما تجولنا فى التراث الدينى سنجد الكواراث والمصائب هى نتاج سخط الإله وغضبه من الشرور أو من يناصب مؤمنيه العداء ... ولا يكتفى التراث الدينى بإمدادنا بكم من الصور العقابية التى نالت البشر لإقترابهم من الموز ( الخطيئة ) بل يصاحبها تفسير بأن الأمراض والكوارث الطبيعية عقاب إلهى للإنسان على فعل الشر والخطيئة كما يبررون أعاصير تسونامى مثلا .. فهاهم البشر يصوب نحوهم رشاش الماء لأن فصيل منهم إعتلى السلم ليقترب من الموز ( الخطيئة ).

العقاب الذى يعاقب به الإنسان نتيجة إقترابه من السلم هو الخطية فى المنظور الميثولوجى الإنسانى , والخطية هنا تتسع دوائرها لتحتفظ بدرجة عالية من المرونة تتحمل مصالح وغايات نخبوية تريد الهيمنة والسيادة بجوار إحتضانها الساذج لتفسيرات ألم الطبيعة .. وأرى أن مصالح النخب هى الأساس فى تفسير الألم الطبيعى بل يمكن القول أن إيجاد تبرير ألم الطبيعة من الإله تأتى كتغليف وتمرير مصالح فردية تحركها السيادة والحاجة .

لا يكون ربط الإنسان الألم والمصائب التى تحل عليه من الخطيئة والسلوك السئ مقتصراً على الإنسان القديم بل لها حضور هائل فى ذهنية الإنسان المعاصر فنجد مثلا ربط المصائب والبلايا التى تحل بالابناء لأننا أطعمناهم بمال حرام دخل جوفهم فأصابهم بالأذى كإنتقام إلهى لأننا سرقنا ونهبنا وإرتشينا فقد سلط رشاش الماء البارد علينا وعلى من حولنا .. كما نلاحظ أيضاً تبرير كارثة تسونامى لأن بها منتجعات سياحية يُشرب فيها الخمر وتُمارس فيها علاقات جنسية حرة .

المشهد الثانى فى التجربة هو تكون الخبرة لتجد لها مفردة فى الوعى , فقد أدركت القردة من التجربة أن تسلق السلم والإقتراب من الموز سيواكبه رشاش الماء البارد لذا عندما حل عليهم قرداً جديد لم يشهد السيناريو السابق وإندفع ليتسلق السلم للحصول على الموز وجد الممانعة من رفاقه لدرجة التعدى عليه عند محاولة تسلقه السلم - وهنا أصبح لدى الجماعة ما يطلق عليه مفردات ثقافية بلورت خبرات ورؤى سابقة .
مشهد القرد المتحمس للنيل من القرد الصاعد للسلم بالرغم أنه لم يعاين مشهد رش الماء هو تعبير عن تأصيل الثقافة من خلال التلقين والتوصيات التى تم تصديرها وفرضها , فهكذا حال الإنسان الدينى فى كل مستويات تعصبه فهو لا يمتلك التجربة والمعاينة التى تجعله متحمساً لمفرادته التى إكتسبها من أسلافه فلا يدرك شيئا عن الإله كذات وكينونه ولا يمتلك أى معرفة توثيقية لما يحمله على عاتقه من خرافات وغيبيات وإفتراضات ولكن تجده متحمساً ليأخذ جانب التعصب والعنف !!.. هذا الحماس نتاج إكتسابه لمنهجية العصا ورشاش الماء البارد الذى سيلحق به ليتشكل لديه فوبيا تدفعه لممارسة العنف ضد الشطط الذى يراه .

هذا المشهد يجد تطابقه فى السلوك البشرى عندما تصاغ الممنوعات والتحريمات ويكون لها سطوة وسلطة لتنفيذها وتجد سبيلها كقانون فهذا الطفل القادم للحياة أو أى فرد فى الجماعة البشرية ليسوا أحرار فى إقدامهم على تسلق السلم والإقتراب من الموز فهذا سيضرنا بإلحاق الضرر بنا لذا يجب ان نعلمه ونصدر له خبراتنا حتى لو إستعملنا القسوة بأن الإقدام على الموز (الخطيئة ) هو جلب لرشاش الماء البارد ( غضب الإله وإنتقامه ) .. لذا سنجد التراث الدينى بمنهجه ومفرداته هو التلويح الشديد برشاش الماء سواء فى الحياة أو فى العالم الآخر المفترض للحيلولة دون إقتراب أحد من الموز وهو ما يطلق عليه التشريع لتسوق دائماً مقولة بأن الفعل الشرير ينزع البركة والسلام والخير من المجتمع .. ولنفهم معنى فكرة الوصاية بمن رأى منكم منكراً فليغيره بيده او بلسانه او بقلبه , وليؤكده هذا التاريخ الحافل من سطوة المؤسسات الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية فى مناهضة من يقترب من الموز ( الخطيئة ).

المشهد الثالث المتمثل فى إنصراف القرود عن الإقتراب من السلم والتعرض لأى قرد يحاول تسلقه والإقتراب من الموز بالرغم أن جميعهم لم يشهد حدث رش الماء بل وصل لكل واحد منهم عن طريق التاريخ وثقافة تمثلت فى تابو أخذ طريقه فى مفردات الوعى الشرطى ... هذا المشهد نجده ماثلاً أماما عيوننا فى شتى سلوكيات الإنسان ويتجلى بشكل قوى وواضح فى الميراث الدينى والإيمانى فالجميع محملون بمجموعة هائلة من التابوهات بعد أن تحول السلوك البدئى المتمثل فى شرط إستنتاجى من الأب الأول الذى كونه من وعيه الخاص وحظه المعرفى ولم يخلو من مصلحة وغاية بحثت عن تأصيلها وتكريسها لتتأطر فى تابو إلى الأحفاد , ومن هنا نشأ الحرام ليتم توريثه كخبرة تجد سبيلها فى النهاية كمفردة معرفية ثقافية مجردة أو ناموس كما يحلو لأصحاب الميثولوجيات تخلصت من تاريخ إنطباع تجربة الأب الأول لتصبح قيمة .

لو لم يوجد ألم ماكان هناك سلوك سواء إيجابي أو سلبي لأن الإيجاب والسلب سيكونان بلا معنى لإنتفاء السبب ووحدانية الحالة .. فمن رحم الألم نبنى رؤيتنا وتصورنا كمحاولة للخروج من دهاليز الألم .. والمحاولة هنا تعبر عن مستوى وعينا ومدى تطور فكرنا وحظنا من المعرفة ولكن فى كل الأحوال لن نترك أنفسنا أسرى داخل دوائر الألم نتجرعه فسنبحث عن طريقة للحل حتى ولو كانت واهية واهمة خالية من العقل والمنطق ولكنها وسيلتنا الوحيدة لتجاوز الألم أو محاولة تخديره .
هذه الرؤية يتم توريثها بفعلها الشرطى فكما أن القرود توارثت معرفة وخبرة بأن الأذى سيلحقها عندما تقترب من صعود السلم , فالإنسان صدر معرفته الأولى عن المرض والكوارث والمصائب لأجيال لاحقة بأنها محن وآلام نتيجة إنصرافنا عن الإله أو الطعن فيه أو هى نتاج أعمالنا الشريرة التى إرتكبناها , وحتى نتجاوز رش الماء علينا أن نعزف عن الخطية والذنوب ونتماهى فى تقديم العبادة والقرابين .

الإنسان أيضا يكون خبراته من المشاهدة بغض النظر عن أن الخبرة جاءت برؤية منطقية وعقلية متماسكة أم لا فهذا يتوقف على وعيه وحظه المعرفى ,, فهو يرى الطبيعة تزأر أمامه وتعلن عن غضبها بالأعاصير والفيضانات والزلازل والأمراض نتيجة إنصرافه عن تقديم القرابين , لذا تولد مفهوم الحرام من إقدام أحد من الإقتراب من السلم وتسلقه الذى هو الإتجاه نحو الخطيئة ليتم نهره وضربه ضرباً مبرحا لأنه سيجلب رش الماء الذى هو الكوارث الطبيعية أو المصائب التى تحل على الجماعة .. فلا تكون الخطيئة هنا حرية شخصية وفعل إنسانى يجنى هو ثمارها بل لعنة ستلحق بالجماعة من ممارسة تلك الخطيئة ولعل هذا يفسر تلك الحمية الغريبة الغير مبررة فى النفور الشديد من علاقة جنسية حرة أو أن تترك المرأة رأسها بلا حجاب أونقاب فهو موروث قديم أخذ المعنى ونسى أصل المشهد .. منظور يرى اللعنة ستحيق بنا من كوارث ومصائب من اجل هذه المرأة الزانية أو تلك التى تركت شعرها يتنفس هواء لنستدعى من الذاكرة مشهد الزلزال الذى أصاب مصر فى بداية التسعينيات عندما عزى الدعاة أسباب الزلزال بالغضب الإلهى لأن الكثير من نساء مصر لا يرتدين الحجاب لتنتشر حينها حمى إرتداء الحجاب خوفا من رشاش الماء .

رؤية الفكر الديني اليهودي والمسيحي والإسلامى أن الكوارث التى تحيق بنا هو نتاج الشر والخطيئة تجد لها معنى فى جذرها البدئى , وأن مقاومة هذا الشطط هو واجب دينى حتى لا تحيق الكوارث بنا كفعل رش المياة على القرد المتسلق , وإن كنت أعزى أيضا سبب الحدة ودس الأنف فى سلوك الآخرين كرغبة فى ممارسة العنف سلوكاً وقولاً وفعلاً على الآخر لتحقيق رغبات عنيفة مُحتبسة تريد الحضور والفعل من خلال لذة الوصاية والإستبداد والعنف .

الإنسان كائن مبدع برجماتى قادر على توظيف الحدث , فرش الماء المؤذى لا يكون على فعل محاولة نيل الموز فحسب بل سيتم وضع قائمة من التحريمات والتابوهات تتوافق مع الظروف الموضوعية للمجتمع وسيوظف السادة التابو لخدمة مصالحهم وهيمنتهم وتكريس مشاريعهم وفقا لكل زمان فتتكون الشريعة التى تترجم كل التابوهات وتخلق الفوبيا حولها وتصبح أى محاولة للإقتراب من السلم هو الخطر والشؤم القادم .. فلا تقل أن هناك غيرة دينية تحركها ولا يمكن أن نختزل الأمور بالفهم الغير صحيح للأديان بل هى بكورية الفكرة الدينية والقدرة على حضورها و تطويعها .

هذا السلوك الإنسانى نسميه تكوينات ثقافية .. فالثقافة جاءت من تراكم خبرات سواء صحيحة أو فاسدة مرتبطة بصعود السلم والأذى الذى يلحق ببقية القرود مكون لفكرة مشروطة يتم توريثها لأجيال لاحقة .. فهكذا الإنسان يكون رؤيته وخبرته من خلال مشهد يفهمه بطريقته وفقا لحجم وعيه وحظه المعرفى ليعتبره بمثابة نظام سلوكى يتم توريث هذه الرؤية لأجيال لاحقة لم تعاين المشهد بل ورثت المعنى والرؤية من الأباء والأجداد .

الإنسان يحول تجربته لمعنى وقيمة تصل فى معظم الإحيان إلى التجريد والإختزال ويتم نسيان السبب البدئى الموضوعى الشرطى الخالق للفكرة الأم والمشكل لمكوناتها كما فى آخر مشهد لتجربة القرود الخمسة ..لتنفرد القيمة بذاتها كمفردة تتجمع مع مثيلاتها من القيم لتشكل الثقافة المهيمنة والتى تتمرر من خلال تأثير الأب والعشيرة على القرود الصغيرة ( الأطفال ) ... لذا يمكن تفسير تعنيف الإنسان لذاته عند فعل الخطيئة وحميته ضد سلوكيات الآخرين بالضمير , فالضمير ليست ذات منفصلة أو تكوين مادى بل هى مجمل التابوهات التى تكونت فى الذهنية الإنسانية منذ نعومة الأظافر لتشكل محددات كل من ينتهكها أو يتجاوزها يدرك أنه تعدى خطوط حمراء .

الإنسان يرث ويورث القيمة هنا كمعنى وموقف ويتم نسيان الظرف الموضوعى الخالق والمشكل لفكرة الأب الأول ولكن لابد لتوريث الفكرة أو أى فكرة فى الوجود أن تكون مصحوبة بالعصا ورشاش ماء البارد .. بغض النظر عن كون العصا ذو تفسير حقيقى ومتماسك أم لا , فلن تورث أى فكرة بل لن يكون لها أى وجود بدون تواجد منهجية العصا (الألم) , ولعل هذا يفسر تواجد الفكرة الدينية بأذهان البشر فى هذا الواقع المغاير الذى أدرك فيه الإنسان الكثير من الوجود , فهو ميراث فوبيا رشاش الماء الذى تحول من جهل الألم الأرضى إلى الجحيم الإلهى الذى مازال حاضراً لعدم تخطى مرحلة الفطام ... هى منهجية اللعب على الألم والعصا والشغف بالراحة وأكل الموز بدون رشاش ماء بارد .