الفلسفة المثالية ومشكلة الشر

تلخيص لموضوع للمثالية - هنتر ميد - بتصرف

تعد المثالية من أكثر الفلسفات شيوعا في العالم وأهمها فقد ظلت قائمة وراسخة بوصفها التراث الارستقراطي في الفلسفة فوجد أنصارها أوسع استجابة ممكنة وكما أن الفلسفة عموما ليست بالموضوع الهين كما يعتقد البعض أو كما يتناقشون فقد يغتر الباحث بتلك الأسئلة والحجج التي يقدمها ظانا انه ثبت مذهبه من خلال تقديم أسئلة بلا أجوبة ويرد على طروحات المثاليين ويصفها بأنها ساذجة ، صحيح أن الفيلسوف كما يقولون هو هادم اللذات الذي يحطم كل حل يبدو قريبا بقوله ... (نعم ولكن...) أو من( جهة أخرى ....)، أو يصفونه بالرجل الذي يسأل دائما السؤال المقبل ... لكن كما توضح عبارة هاملت المشهورة (في السماء والأرض يا هوراشيو أمور تزيد عن ما تحلم به فلسفتك ).
فإن الفلسفة والتي هي علم معقد نوعا ما تحاول أن تدمج جميع العلوم والدراسات وتلخصها في ذاتها .
تعود أسباب انتشار المثالية في العالم إلى الأسباب الآتية :
- وجود نقاط اتصال بينها وبين الأفكار والآراء المسيحية وذلك بسبب الموقف التفاؤلي من الحياة والعالم والذي تطمح إليه العقلية الغربية.
- تعاليمها تلقى استجابة من العقل والعاطفة معا .
- اعتناق كبار الفلاسفة والمفكرين لها .
- اعتناق السلطات الرسمية – تاريخيا- لها .
الآراء الرئيسية لها
- الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية أو روحية .
- الكون تجسد للذهن أو الروح .
- إذا أردنا معرفة طبيعة الواقع يجب أن لا نبحث في العلوم الفيزيائية بل يجب أن نستخدم العقل والفكر وكل الأفكار والقيم الروحية لدى الجنس البشري ، فالعلم وان كان يقدم صورة صحيحة جدا كما يبدو لنا ولكن تلك الصورة تكون فقط في حدوده الخاصة كما أن تلك الصورة ناقصة لان العلم يحذف جميع الاعتبارات المتعلقة بالقيمة بل لا يعترف بأهم شيء في الكون وهو الشخصية ، فهو يتجاهل أهم عنصر في التجربة أو المعرفة وهو الذهن أو الأنا المجرب فالعلم إذن يشوه طبيعة الأشياء وكما أن كل إدراك أو معرفة يقتضي ذاتا عارفة والتي ينكرها المذهب الطبيعي ويقلل من أهميتها ومع ذلك فان المثالية تعتبر أن تلك الذات هي مصدر كل طبيعة بل مصدر كل وجود ولذا فان كل مذهب لا يجعل الذات العارفة دعامة رئيسية ينبغي أن يقدم صورة ناقصة إن لم تكن باطلة .
إن مثل هذا الكون الذي يكون فيه لب الحقيقة ذهنيا أو روحيا لا ماديا هو نظام وثيق الصلة بالإنسان وأعماله وأمانيه ومثله العليا فهو عالم يقدم للفرد تأكيدا بأن له رسالة وبأن الكون يعطف على جهوده في سبيل تحقيق هذه الرسالة،فهي التي تجعلنا نرى العالم كمكان نستطيع العيش فيه بعلاقة وثيقة بيننا وبينه فهو ملائم لنا عقليا وعاطفيا لكونه مرتبطا بمصدر الذهن أو الروح .
إن الإنسان ومن خلال نشاطه العقلي يقترب كل الاقتراب من تلك الفاعلية الشاملة التي تشكل الكون فإذا شئنا أن نعلم ما يكمن في قلب العالم فعلينا أن نتأمل داخل أنفسنا ففي نفوسنا وأذهاننا ودواخلنا نجد أوضح تعبير لتلك الفاعلية الشاملة. إن استخدام الذهن والواقع يجعل المثالية أكثر جاذبية .
لما كان هذا الكون تجسدا لهذا الذهن المطلق فلنا أن نتوقع أن تتكشف بيئتنا الطبيعية عن نفس خصائص النظام والأحكام والمنطق ونكتشف أيضا أن الكون يتسم بالمعقولية لأن هذا الكون لما كان من خلق العقل الشامل فمن الطبيعي أن تكون المعقولية متغلغلة في تركيبه الأساسي كما نفترض بأن في أذهاننا البشرية قدرة على التفاعل مع العالم الذي نعيش فيه.
التمييز بين المظهر والحقيقة
لما كان الكون معقولا ومفهوما فلا يمكن أن يكون فيه اضطراب أو لا معقولية أو تنافر فالذهن يعمل في كل أرجاء الكون.
غير أن اتصالنا اليومي المباشر بالعالم المحيط بنا يكشف لنا عن أمر واقع لا تكاد تربطه صلة بهذا الغرض النظري الجريء ذلك أن الحياة تبدو في نظر الإنسان مزيجا من الاضطراب والنظام والتدهور والحرب والسلام والجوع والوفرة والانتصار والهزيمة والإحباط والألم فمهما كانت حياة أي فرد فينا منتظمة إلا أنها تكشف عن جوانب كثيرة من المعاناة والتجارب القاسية التي يبدو أن ليس لها هدف أو معنى ، حتى أكثر أجزاء طبيعتنا معقولية وهو ذهننا يخفق في تحقيق الشرط النظري فخبرته في التبرير لأفعال أنانية أو شهوانية لا تقل عن خبرته في الاستدلال العقلي ونحن لا نكون مخلوقات عاقلة إلا في أوقات قليلة منتظمة والحياة لا تعود محتملة عند أكثرية البشر الذين لا يحول بينهم وبين الانتحار إلا الأمل بغد أفضل ولذلك تطرح المثالية مبدأ المظهرو الحقيقة و
يؤكد المثالي على مدى الخلط بين المظهر والحقيقة وأنه يقع إما نتيجة للإهمال في الملاحظة أو لعدم الكفاية في التفكير وكثيرا ما نخدع ونتصور بأننا قد تغلغلنا إلى باطن الشيء وأدركنا حقيقته ثم نجد هناك مظهرا أعمق للحقيقة ونظل نسير هكذا حتى يتكون لدينا سلم كامل من الحقائق التي تشكل حقيقة أعمق غير أن هذا السلم ينطوي ضمنا على نقطة نهائية من نوع ما تجعلنا نسأل : ما الحقيقة النهائية ألا يجوز أنها شيء يختلف تماما عن المظهر السطحي للأشياء كما هي .
وتقوم المثالية على إجراء تمييز أعمق وأجرأ بكثير وهو التمييز بين العالم التجريبي القابل للملاحظة وبين الحقيقة غير التجريبية ومعنى ذلك أن المثالي على استعداد لأن يضفي على شيء ليس غير ملاحظ فحسب بل غير قابل للملاحظة قدرا من الحقيقة يفوق ذلك الذي ينسبه إلى العالم المادي على الرغم من المقولة التي تقول بأن الأشياء المادية أكثر الأشياء التي نعرفها حقيقة وتضفي تلك الجرأة قدرا من الجاذبية والسحر للمثالية .


مشكلة الشر وجواب المثالي عليها: تعتبر مشكلة الشر كما يقال اصلب بندقة يتعين على أي مذهب مثالي كسرها لأنها تطرح في معرض التعارض ما بين الحقيقة والمظهر وتطرح المشكلة كالآتي : إذا كان الكون هو تجسد للذهن أو العقل فكيف تكشف لنا تجربتنا مما هو لا معقول ولا مفهوم وبين ما هو أليم والغاية العاقلة التي يفترض أنها تكمن وراءه ، فلو كان الله ذا قدرة شاملة وحكمة شاملة ولكن ليس ذا خير شامل لأمكننا أن نفهم وجود مثل هذا العالم الذي نعيش فيه بالفعل ولكن كيف نوفق بين وجود إله لا متناه وبين حقيقة الشر ، فإما انه لا يكترث وإما انه يكترث ولكن لا حيلة له وهناك احتمال ثالث هو أن تكون لديه الحكمة الضرورية اللازمة ولكن سلطته محدودة مما يجعله يعمل بالتدريج على محو الشر ولكن هذا بدوره يقتضي آمادا هائلة من الزمان .
يجيب المثالي المؤمن بأن المشكلة تقتضي بالضرورة تحليلا مطولا لطبيعة الإلوهية وللعلاقات بين الله والكون الذي خلقه ... ويكون أوضح جواب هو (أن زمان الله هو الأفضل) فهو يعلم ما يفعله وما هو أفضل لعالمه وكل المخلوقات فيه ومن المسلم أن أساليبه ليست أساليبنا وزمانه ليس دائما زماننا ولكن سيتضح في آخر المطاف عندما يكون كل شيء مفهوما وعندما نرى الأشياء على حقيقتها أن شكنا في عدم اكتراث الله أو عدم قدرته لا مبرر له وسنرى أن مظاهر الأشياء قد خدعتنا أما الحقيقة فبدت معقولة ومفهومة وخيرة ، فالمشكلة تلخصت بالتمييز بين المظهر والحقيقة .

>>>>> الحلول الرئيسة لمشكلة الشر <<<<<<

تتعدد التفسيرات لمشكلة الشر فهناك الموقف المتطرف الذي يقول بأن الشر موجود في أذهاننا الفانية ففي الذهن الإلهي لا يوجد إلا الخير المطلق وليس علينا إلا أن نمحو فكرة الشر من أذهاننا لكي نمحو تحقيق الشر .
- الموقف الثاني يعترف بحقيقة الشر ولكن يقال أننا لو نظرنا بمنظار طويل الأمد لأدركنا انه مهما تكن أصالة الألم والشقاء والحمق الموجود في العالم فان هذه الأمور تتناقص بالتدريج كما أن بإمكان الإنسان أثناء عملية التقدم في الحياة وباستخدام العقل والجهد الإنساني الخاص أن يمحو كثيرا من الشر وهذا يسمونه مذهب التحسن – جون ديوي- القائل بأن الأمور قابلة للإصلاح وهذا الاتجاه تدعو إليه الكثير من الكنائس المتحررة اليوم والتي تقول بأن الله بحاجة إلى مساعدتنا في الكفاح وبأن الحياة عبارة عن صراع بين الخير والشر.
يقول طاغور (ليس ثمة شرّ بذاته، فالشر هو جهل ونقص في المعرفة والوعي. إن تعلقنا بالجزء دون الكل يحجب عن بصيرتنا رؤيا وحدة العالم في قلب تعدده وتنوعه وثنائيته. "نحن نرى الشرّ متأصلاً لأننا نعطيه شكلاً ثابتاً، في حين أنه متحرك مع حركة الطبيعة. فحركة الموت والحياة حركة واحدة لا يكون فيها الموت حداً نهائياً." وضمن هذه الحركة الكلية، يتمثل الخير في تنبهنا للتوق العميق فينا ولمعنى وجودنا واتجاهه نحو الوحدة والحقيقة، ويكون الشرّ بالتالي عدم الاهتمام بهذا التوق وإسكاته والانصراف عنه).

ونعود إلى شيء من التحليل لمسألة الحقيقة والمظهر والتي نادى بها أفلاطون فهو يشيد مذهبه على أساس التقابل بين المظهر والحقيقة فالطبيعة لأي شيء هي الفكرة التي تتجسد في هذا الشيء هذه الفكرة أو الأفكار لها وجود مستقل وحقيقة ارفع بل إنها هي الحقيقة بعينها أما الأشياء المادية فتعكس أو تحاكي تلك الحقيقة القصوى والتي هي أنموذج أزلي ثابت وهكذا فإنه يوجد خلف تلك الأشياء المادية في حياتنا عالم مثالي من الأفكار أو الماهيات وتلك الحقيقة القصوى تستقر في مكان ما في السموات العليا وهذا المكان يشكل نظاما مثاليا للماهيات الأزلية ويطلق عليها أفلاطون اسم (المثل) أو (الصور) وليس المقصود بالصور عند أفلاطون هو الشكل الخارجي أو التخطيط العام للشيء بل المقصود هو التركيب الباطن أو الفكرة المحدودة الذي تتجسد في الشيء وبذلك تكون صورة البيت مثلا خطته أو تصميمه أو تنظيمه وهذا التصميم أو التخطيط يتكشف في اللوحات الهندسية أكثر مما يتكشف في المقاطع الجانبية أو حتى في الصورة الفوتوغرافية الكاملة للبيت ذلك أن الصورة الأفلاطونية هي دائما الفكرة غير الملموسة أو التصور الذي يتجسد جزئيا في الأشياء المادية ولكنه لا يمكن أن يتحقق فيها كاملا ولذلك فان أفلاطون يقول بأنه لا يوجد شيء مادي إلا وله صورة مناظرة له في عالم المثل أو الصور ، وقد دار الصراع في القرون الوسطى حول مشكلة وجود تلك الصور المستقلة موضوعيا في عالم المثل وخصوصا أن من أنكر وجود عالم الصور رد بقوله إن أي تصور ليس إلا اسما أي أداة مريحة نصنعها لكي تتيح لنا التعامل مع فئة معينة من الأشياء التي تدخل في نطاق تجربتنا ، ولنتصور مدى الصعوبة فيما لو مر بنا كلب أو حصان أو رأينا شجرة كل حين كم من الألفاظ المستقلة نحتاج للدلالة عليها ، غير أن أفلاطون يصر على رأيه ويرى بأن الفئة هي أكثر حقيقة من أفرادها والصور هي الحقيقة القصوى وان انعكاسات تلك الصور في حياتنا الواقعية تتصف بقدر محدود من الحقيقة لا تكتسبه إلا بالاستعارة .
والعلاقة بين الشيء المادي وصورته في عالم المثل هي ذات العلاقة بين المدرك الحسي والتصور الذهني فلو سألنا أحدا ما الذي يجعل الكتاب كتابا بوجه عام ، فهناك مئات الكتب ربما قد رأيناها ولكن في ذهن كل واحد منا فكرة عن الكتاب بوجه عام وهي التي تطرأ على الذهن فورا بعد استماعنا للسؤال.
ولذا فان المثالي يجد بأن أفضل سبيل إلى فهم الواقع هو استخدام العقل وتحليل أوجه نشاطاتنا الذهنية الخاصة فبنيان الواقع هو ذاته بنيان أذهاننا .

ويدور الصراع ما بين أتباع المذهب الطبيعي الذين يرون بأن الصورة التي تقدمها الحواس عن الأشياء هي صورة صحيحة في حدودها الخاصة على الأقل بينما يزدري المثالي الحواس والتجربة الحسية معتقدا أنها لا توصل إلى فهم حقيقة الأشياء كما ذكرنا سابقا فالحواس هي حجاب بيننا وبين الوجود( الحق) فهي فقط تنقل إلينا ما يحدث في عالم التغير أو الصيرورة.