الفلسفي والعلمي في الكون والزمن

عندما يجري الحديث عن الفيزياء يتجه التفكير فوراً إلى الذرة والسلاح النووي مما يعني أن الإنسان العادي يربط في لا وعيه بين تأثير هذا المجال العلمي وتبعاته الخطيرة على البنى السياسية والعسكرية في العالم ويتناسى أو يغفل عن دور الفيزياء المعاصرة في تحقيق المنجزات العلمية والتكنولوجية المعاصرة مثل نظام تحديد العناوين والرصد بواسطة الأقمار الصناعية GPS والقنوات التلفزيونية الفضائية والانترنيت والهاتف المحمول والحاسوب المتطور، أي في المجالات الصناعية والتكنولوجية. بيد أن الغالبية العظمى من الناس ما تزال غارقة في نمط التفكير والعقلية التقليدية التي لا تتقبل بسهولة الأفكار الجديدة المبنية على الحقائق والاكتشافات العلمية التي تنجزها العلوم الطبيعية اليوم، لا سيما في البلدان التي يهيمن عليها نمط التفكير الديني الثيولوجي والأفكار الفلسفية الكلاسيكية والتقاليد والأعراف الاجتماعية والتفكير الجمعي المحلي. والحال أن الفيزياء المعاصر تتعاطى مع مفاهيم جوهرية مثل فكرة الواقع وحقيقة الزمان والمكان، مما يمكن أن يقودنا إلى مواجهة بين أفقين متمايزين، التقليدي المتشبث بالماضي، من جهة، والمعاصر المتطلع إلى المستقبل، من جهة أخرى.
أعتقد أن أفضل طريقة لمعالجة مشاكل الفيزياء المعاصرة، وعلى راسها الفيزياء الفلكسة والكوزمولوجيا، تتمثل في عرض تاريخ المسالك التي اتخذتها النظريات الفيزيائية، وأهمها نظرية النسبية لآينشتين ونظرية الكم أو الكوانتا، التي وضع اساسها بلانكفي السنة الأولى من القرن المنصرم، القرن العشرين. ومن الجدير بالقول أن ميكانيك الكم أو الكوانتا ، رغم كونه لايمثل سوى جزء صغير جداً من العلم الحديث، هو الذي أنتج التغيرات الأكثر عمقاً وجوهرية وبفضله تطورت الفيزياء النووية بشقيها المدني والعسكري استناداً إلى تجهيزات ومعدات مختبرية غاية في الدقة والتعقيد والكلفة، تتطلبها الأبحاث في مجال الفيزياء النووية والفلكية. بيد أن العلماء لايستطيعون مخاطبة الجمهور العريض بلغة العلم الجافة المليئة بالمعادلات الرياضية والتخاطب بالمصطلحات والمفاهيم العلمية البحتة، فهم مرغمون على التبسيط والتحدث بلغة مفهومة يستوعبها العامة تتناول مداركهم للحياة والواقع المتخمة بالمعتقدات الروحية والدينية الغيبيةوالباحثة عن الأصل والعلة الأولى .فلا يمر مؤتمر علمي مكرس لعلم الكونcosmologie ، يكون مفتوحاً للجمهور العريض وليس للنخبة العلمية المتخصصة فقط، إلا ويطرح فيه سؤال يتوج باقي الأسئلة ألا وهو: " أين الله من كل ذلك؟" وينتظر الجمهور من العالم المحاضر جواباً شافياً، أو على الأقل معرفة ما إذا كان هذا العالم المحاضر مؤمناً بالله أم لا. وفي أغلب الأحيان يتملص العالم المحاضر من هذا الفخ الذي يتوقعه قبل البدء بمحاضرته، على غرار العالم الفرنسي الشهير الماركيز بيير سيمون لابلاس Le Marquis Laplace Pierre Simon عندما سأله الإمبراطور نابليونNapoléon معقباً على بحث لابلاس العلمي حول الكون الذي قدمه لنابليون عندما سأله هذا الأخير :" وأين الله من كل ذلك؟ فأجاب لابلاس:" ياسيدي لست بحاجة إلى هذه الفرضية Hypothèse . إن مثل هذا الرد لا يدل على تصريح علني بالإلحاد كما يعتقد كثيرون بل هو مجرد اعتراف باللاأدريةagnostique وإن هذا النوع من الأسئلة لا يقع في نطاق الحقل العلمي البحت. فعلم الكون يكتفي بإعادة تشكيل وترتيب الأحداث في الماضي والحاضر في التاريخ الكوني Histoire Cosmique. انطلاقاً من الملاحظات والمشاهدات والرصد والتجارب المختبرية والنماذج النظريةModèles théoriques المفترض بها أن تقدم أفضل تصور ممكن للكون المرئي في إطار نماذج البغ بانغ ـ الإنفجار العظيم Big Bang وتحاول أن تقترب أكثر ما يمكن من الظروف التي سبقت ظهور المكانespace والزمانTemps والمادةMatière إبان وقوع حدث عممextrapolé في الماضي ألا وهو حدث الإنفجار العظيمBig Bang .
إن الصيغة الرياضية mathématiqueلهذا الحدث ـ اي الفرادة ـsingularité ، حيث إنحناءة الزمكانcourbure de L’espace-temps ، تكون لا نهائية infinie ، وتنطوي على بديهية علمية تقول أن الانفجار العظيم لا ينتمي إلى المتغير الهندسيvariété géométrique للزمكان، وبالتالي لا يعتبر الكثير من العلماء الانفجار العظيم حدثاً وإنه لم يقع أو لم يحدث بالصورة التي قد يتخيلها الناس، ومن هنا فهو يفلت من حقل نظرياتنا الافتراضية. لا ينبغي أن نرى في هذا المصطلح الغامض وغير القابل للاختراق وسبر أغواره وكشف سره مجازاًmétaphoriquement مرادفاً لعملية الخلقcréation أو صنواً أو تجلياً لتفكير الله pensé de Dieu حسب تعبير بعض الكتاب. فعلم الفيزياء لا يعمل على كشف مساهماتattributions أو نوايا الخالق بل يوفر وسيلة لفهم الطبيعة والسيطرة عليها من خلال اكتشاف قوانينها المسيرة لها وذلك عبر سيطرتنا على الأحداث والظروف وفق رغباتنا وتمنياتناnous souhaits .
بيد أن هذا لا يمنع من طرح سؤال كوزمولوجي أصيل وهو:" هل للكون المرئي أو المادة المكونة له بداية أو أصل زمني origine temporelle ؟ مع الأسف الشديد حولت هذه المسألة العلمية الشائكة، وبطريقة مشوهة ومزيفة fallacieuse et déformé ، إلى مشكلة خلق وخالق، أي مشكلة روحانية، ثيولوجية، وجودية، غيبية، ماورائية وميتافيزيقية. وإن هذا الانزلاق الخطير يستند على فكرة الخلق وبالضرورة إلى تدخل عامل خارجي agent extérieur أو علة من خارج العالم الفيزيائي cause externe. لذلك استغلت المؤسسات الدينية هذا اللبس، إذ أن نموذج الانفجار العظيم وفرضه لوجود بداية للكون المرئي في زمن محدد في الماضي، توحي لأول وهلة بوجود عملية خلق على يد خالق وبسبب ذلك جاءت ردود فعل عكسية معارضة لهذه الفرضية أو النموذج من قبل علماء مرموقين من جراء الانحرافات الميتافيزيقية لأنصار نموذج البغ بانغ ومحاولات التجييرrécupération التي قام بها الثيولوجيين les théologiens ورجال الدين لهذا الموضوع. وسرعان ما تعدت الاعتراضات الإطار العلميcontre versé le cadre scientifique وانحرفت به إلى ما عرف بالجوانب والملامح الفلسفية aspects philosophiques والدينية religieux للانفجار العظيم - البغ بانغ.
كان العالم الفيزيائي الشهير الكسندر فريدمانAlexandre Friedman من أوائل من صاغ بعبارات نسبوية relativistes مفاهيم الكون المتمددunivers en expansion والفرادة الكونيةsingularité cosmique ، ولم يمنع نفسه من أن يرى في هذا الحدث تبعات وإسقاطات ميتافيزيقية في الحديث عن خلق العالم من لا شيء. وفي مذكراته نعثر على مسودة لم تنشر وقد ضاعت أصولها، تحمل عنوان :" عملية الخلقcréation ، لا أحد يعرف ما هو مضمونها ولكن من المحتمل أن فريدمان ، الذي كان مؤمناً متحمساً، قد طور فيها وجهة نظر فقهية ثيولوجية théologique أكثر مما هي علميةscientifique في حين تعمد العالم والراهب البلجيكي جورج لوميتر Georges Lemaitre، المبتكر الثاني لفرضية الإنفجار العظيم، وضع فصل حاد وراديكالي بين العلم والدين مؤكداً بأننا لا يمكننا أبداً إختزال الكائن الأعظم" الله" في خانة فرضية علمية. ورغم ذلك لم يحمه موقفه من شكوك آينشتين Einstein حيال موضوعيته بخصوص هذه المسألة، أي مسألة الخلق الرباني المستقل والمباشر كما ورد وصفه في الكتب الدينية المقدسة كسفر التكوين.
في سنوات الخمسينات من القرن العشرين المنصرم استخلص عالمان في انجلترا وهما إدوارد ميلن Edward Milne وإدموند ويتاكير Edmund Wittaker تداعيات conséquences ثيولوجية خطيرة hasardeuses من الكوزمولوجيا النسبية الآينشتينية cosmologie relativiste كما فعل نفس الشيء البابا بي الثاني عشرPie XII في 22 نوفمبر سنة 1951 مستغلاً نظرية أو فرضية الانفجار العظيم لدعم تأكيده أمام أكاديمية الفاتيكانAcadémie pontificale ليثبت وجود خالق للكون من خلال تصريحه:" يبدو في الحقيقة أن العلم اليوم يعود القهقري لملايين من القرون، وقد نجح في أن يكون شاهداً على هذا العزم أو القرار الطوعي الرباني Fiat Lux الأصلي أو الأساسي initial، أي لتلك الحقبة التي انبثق فيها الكون cosmos من بيد يدي الله الخالق بفعل إرادة ربانبة". إلا أن العالم لوميتر أصر على أن تبقى نظريته الكونية خارج أي مسألة ميتافيزيقية أو دينية إذ أن لهذا التجيير المسيحي لفرضية البغ بانغ الانفجار العظيم تبعات وتأثيرات كارثية كما كان الحال في الاتحاد السوفيتي إبان العهد الستاليني حيث كانت العقيدة الرسمية تقول أن الكون لا نهائي في المكان والزمان وبالتالي وجهت أصابع الاتهام لكوزمولوجيا البغ بانغ cosmologie de Big Bang باعتبارها انعكاسreflet لنزعة مثاليةidéaliste برجوازية رجعية . وقد أبدى العلماء الروس في ذلك الوقت اشمئزازهم من الانخراط في دراسات كوزمولوجية من هذا النوع. حتى أن مثقفاً علمياً ذو تأثير كبير على الثقافة العلمية باعتباره رئيس تحرير المجلة العلمية ذائعة الصيت وهي مجلة الطبيعةNature وهو جون مادوكسJohn Maddox قد صرح أن كوزمولوجيا الانفجار العظيم غير مقبولة فلسفياً لأنها تبرر وجهات نظر أنصار عملية الخلق الإلهيles créationnistes .
أغلب الأدبيات المكرسة لموضوع الكون والفلسفات التي تتعاطى مع موضوع الكوزمولوجيا تقع في سوء فهم وخلط دائم في تفسير السؤالين الخطيرين التاليين: هل للكون الفيزيائي المرئي أصل زماني؟، وإذا كان الجواب بالإيجاب فماذا تقول لنا الكوزمولوجيا الفيزيائية بهذا الصدد؟ وثانياً :" ماذا يقول لنا العلم الحديث بهذا الشأن؟؟ السؤال الأول علمي قح حتى لو كانت بعض الإجابات ليست كذلك. أما السؤال الثاني فهو ليس علمي بتاتاً بل يتضمن نفحة فلسفية ـ دينية ـ ثيولوجية . فمسألة الخلق تختلف وتتميز عن مسألة الأصل question d’origine الزماني والمكاني . فليس لأن معرفة الأصل علمياً غير ممكنة في الوقت الحاضر نكون مضطرين لطرح قضية الخلق الإلهي. فعدم القدرة للتوصل علمياً لمسألة الأصل تترجم حقيقة أنه حتى بوجود أفق لمعارفنا الرصدية ومشاهداتنا connaissances observationnelles فإنه يوجد أفقhorizon لمعرفتنا النظرية . لقد اعتقد علماء الفيزياء في الماضي، في سنة 1830، أن علم إسحق نيوتن قادر على كشف ماضي وحاضر ومستقبل الكون وبإمكانه الإجابة على أي سؤال، لكنهم كانوا مخطئين بالطبع . وحتى في زماننا الحالي، وبالرغم من كل التقدم العلمي والتكنولوجي، ما تزال توجد حدود جوهرية للعلم حيث أن البشر لا يكتفون بالمعرفة بل يبغون الوصول إلى اليقين كما قال برتراند رسلBertrand Russel . الأمر الذي بات جلياً اليوم هو أن الكون المرئي بدا أكثر غرابة وغموضاً أكثر فأكثر كلما تقدم العلم في مجال علم الكونيات وكشف حقائق جديدة تستدعي مراجعة جوهرية كاملة لتصوراتنا ومفاهيمنا عن الكون. خاصة فيما يتعلق بالمادة السوداء matière noire والطاقة المعتمة énergie sombre حيث ماتزال ماهية كل منهما مجهولة رغم دورهما الجوهري في عمل الكون وصيرورته واستمراره في البقاء. فالمادة المجهولة في الكون تشكل نسبة 85% بالمائة من مكونات مجرتنا درب التبانة على سبيل المثال وهي نفس النسبة تقريباً في باقي مجرات الكون المرئي أي أن المادة المرئية تمثل 15% من مكونات كوننا المرئي. كرست عالم الفلك الأمريكية فيرا روبن Vera Rubin حياتها لمراقبة مجرة آندروميدا Andromède الأقرب إلى مجرتنا درب التبانة La Voie lactée بعد أن قدمت أطروحتها للدكتوراه عن توزع المجرات في الكون المرئي سنة 1955 وماتزال إلى يومنا هذا وهي في عمر 83 عاماً من أجل تفسير ظاهرة شخصتها عبر سنوات طويلة من الرصد والمشاهدة والتصوير منذ سنة 1967 إلى يومنا هذا حيث لاحظت هذه العالمة أن مجرة آندروميدا لا تتنقل وفق ما يفرضه قانون الجاذبية أو الثقالة la loi de la gravitation فالمنطق يقول لنا أن السرعة التي تدور فيها النجوم حول مركز مجرة ما يتناقص حسب المسافة التي تفصلها عن المركز كما هو الحال مع كواكب نظامنا الشمسي لأن قوة الجاذبية أو الثقالة بين جسمين تنقص كلما ازدادت المسافة بينهما. بعبارة أخرى إن تجمع النجوم الكثيف في مركز مجرة ما يمارس قوة ثقالة أضعف على النجوم البعيدة المتواجدة في أطراف المجرة مما يعني أن سرعات تلك النجوم يجب أن تكون أبطأ من سرعات النجوم القريبة من المركز. والحال أن ما شاهدته ورصدته فيرا روبن فيمجرة آندروميدا مختلف عن هذه البديهية النظرية فالنجوم الواقعة في أقصى أطراف مجرة آندروميدا تدور بسرعات هائلة لا تقل سرعة عن النجوم الواقعة في مركز المجرة كما لو أنها تخضع لقوة ثقالية أخرى . ولتوضيح سر هذا اللغز استخدمت العالم الأمريكية المذكورة جهزاً متطوراً صممه زميلها العالم كنت فورد Kent Ford وهو سبكترومتر spectromètre فائق الحساسية والدقة قادر على تحليل كافة مناطق المجرة وبدفة لا متناهية وذلك من خلال تكثيف الإشعاعات الضوئية الكترونياً مهما كانت ضعيفة. ومن ثم يقوم الجهاز بتفكيك تلك الإشعاعات الضوئية إلى طيف لوني spectre de couleurs يسمح بحساب وقياس سرعات النجوم أياً كان موقعها حيث كلما ابتعد النجم عنا مالت أشعته إلى اللون الأحمر أكثر فأكثر.وبفصل المعطيات التي تجمعت لدى العلماء توصلوا إلى حساب الكتلة الضرورية اللازمة لمجموعة امن النجوم لنشر هذه القوة الجاذبة الهائلة force d’attraction وجاءت النتائج مذهلة ومحيرة وغير متوقعة إذ صار يتوجب على مجرة آندروميدا أن تحتوي على عشرة اضعاف ما لديها من مادة أكثر مما أظهرته الصورة المسجلة من جراء الرصد والمشاهدة ، من هنا اقترح بعض العلماء فرضية وجود مادة غامضة ومجهولة وغير مرئية تخرج عن نطاق الرصد والمراقبة هي التي تشكل 85% من محتويات مجرة آندروميدا وقد سميت هذه الأخيرة بالمادة بالمادة السوداء matière noire أو المادة الداكنة أو المعتمة matière sombre ويقابلها بالانجليزية Dark matter وهناك من يسميها المادة الخفية أو غير المرئية matière invisible. وإلى جانب لغز المادة السوداء جاء لغز غامض آخر طرح تحدياً إضافياً على علماء الفيزياء وأرغمهم على مراجعة نظرياتهم. ففي سنة 1998 اكتشف فريقان من العلماء حقيقة علمية هزت أركان المسلمات العلمية السائدة حتى ذلك التاريخ. من خلال دراسة انفجار النجوم البعيدة، ومشروع دراسة الانفجار السعري السوبر نوفا Supernova Cosmology Project الذي قادده عالم الكونيات ساول بيرلموترSaul Perlmutter، وبحث العالم آدام رايس Adam Riess حول السوبر نوفا High-Z Supernovae Search Team ، تم الاستنتاج العلمي القائل بأن أن تمدد وتوسع الكون l’expansion de l’univers تسارع accélérée خلال الخمسة ميليارات الأخيرة من عمره الكون المرئي، وهو الاكتشاف الذي أدى إلى منح العالمين الأمريكين المذكورين جائظة نوبل في الفيزياء سنة 2011. إن هذا التنامي المفاجيء للكون أرغم العلماء على إعادة النظر بش|أن ما يعرفوه عن مكوناته. فلا يمكن تفسير مثل هذا التسارع إلا بإدخال عامل جديد nouveau facteur لم يكن معروفاً من قبل وهو عبارة عن قوة غامضة force mystérieuse أعطاها العلماء إسم الطاقة السوداء أو المعتمة énergie noire ou sombre وبالانجليزية Dark energy وهي لاتقل غموضاً عن قرينتها المادة السوداء في طبيعة ماهيتها، واعتبروها المسؤولة الأولى عن التمدد والتوسع المذهل للكون المرئي حتى لو كانوا مايزالون يجهلون أين تختفي هذه الطاقة الغامضة ومن أين جاءت حيث ثبت بالحسابات النظرية أن هذه الطاقة تمثل ثلاثة أرباع الطاقة الموجودة في الكون وإن الربع الأخير موجود على شكل مادة وفق معادلة آينشتين الشهيرة الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء E=MC2 إذ أن المادة ليست سوى شكل من أشكال الطاقة ويبقى لغز المادة السوداء والطاقة السوداء قائماً إلى أجل غير مسمى ويأتي بعده اللغز الأهم في الكون المرئي ألا وهو لغز الزمان.
الزمان الكوني والزمان البشري:Le temps cosmique et le temps humain
قال أحد الحكماء أن أهم وأعقد كائن عضوي في الوجود هو العقل إلا أنه مايزال عاجزاً أمام لغز الزمان. كما سئل أحد كبار فلاسفة الدين المسيحي:" ماذا كان الله يفعل قبل خلق البشر، أجاب الفيلسوف ورجل الدين المسيحي الشهير:" أنه كان يعد جهنم لمن يطرح مثل هذه الأسئلة".
إن مفهوم الزمن في الفيزياء وعلم الكونcosmologie أمر معقد ومتطور دوماً. فما هو الزمان؟ لم يتمكن، لا الفلاسفة ولا العلماء ولا رجال الدين، من تقديم إجابة شافية وافية ونهائية على هذا السؤال. يمكننا أن نضع تحت المجهر مختلف الرؤى، وعدد كبير من المفاهيم والتعريفات الخاصة بالزمن وفق تعاطي رجال العلم معها عبر مختلف مراحل تطور العلوم والنظريات العلمية. فلقد تطور مفهوم الزمن علمياً منذ عصر نيوتن إلى عصر الكوزمولوجيا الحالي، مروراً بالمفهوم الآينشتينيEinsteinienne للزمان. يحضرني بهذا الصدد قول الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه حينما قال مازحاً :" هل ياترى لدى الزمان ما يكفي من الوقت؟".أي علينا أن نفرق بين الزمن والوقت . فغالباً ما يثير مفهوم الزمان الحيرة لدى البشر. ويتساءل كثيرون، أما كان من الأجدر والأبسط أن يتصرف الزمان على نحو بسيط كما هو حال المكان، ويصبح بإمكاننا وببساطة العودة إلى الوراء في الزمان وتصحيح خطأ ما أو اقتناص فرصة ضاعت علينا؟ ولماذا لانستطيع شراء قطعة من الزمان كما نشتري قطعة من المكان خاصة مع ازدحام المواعيد ومرور الوقت بسرعة مذهلة؟ الحقيقة المرة هي أن الزمان يتحكم بحياتنا. فكل شيء يسير بسرعة دون أن ننتبه أننا نستهلك المستقبل. وبعد أن يعصرنا الزمان ويرغمنا على الاستعجال يمر بنا وهو غير آبه، مستمراً في طريقه بالرغم من كل من يعتمد عليه. هذا هو إحساس كل واحد من البشر ممن يفكرون بالزمان ولو لبرهة قصيرة. ونتساءل لماذا يختلف الزمان عن المكان كما نعتقد، في حين أثبتت نسبية آينشتين أن الزمان ملازم للمكان ومندمج به وإن بإمكان أحدهما أن يتحول للآخر، أي أن يصبح الزمان مكان والمكان زمان؟
مفاهيم الزمان Les concepts de temps
الزمن كما ندركه ونفهمه نحن البشر ونتعاطى معه كل يوم باعتباره الوقت الذي يمر علينا، يتميز بسيره الذي لا يقاوم وإن كان بصورة غير منتظمةirrégulière وإن هذا التقدم باتجاه واحد هو الذي يفصل أو يميزdistingue بين الماضي والمستقبل بوضوح. فلدى كل واحد منا ذاكرة وذكرى واضحة عن أحداث الماضي مما يجعلنا حساسين ومدركين لمفهوم المستقبل. فالماضي القريب جداً هو في الحقيقة مستقبل الماضي البعيد. وإن بعض الوقائع والأحداث، مهما كانت عادية وتافهة، إلا أن لها تأثيرات مباشرة مما يجعلنا نشعر وندرك علاقات السببيةcausalité ويحدونا للتفكير بأن تسلسل الحوادث يمكن أن يتكرر أو يحدث مرة أخرى إما بصورة متطابقة أو مختلفة بشكل طفيف.
كان موضوع الزمان من المحرمات لفترة طويلة لأنه بالضرورة سوف يتطرق لموضوع الله وهل إن هذا الإله قابع خارج الزمان أم داخله؟ وهل الزمان يسبق الوجود الإلهي إذا كانت هناك عملية خلق للوجود؟ وكثير ما طرح الفلاسفة السوفسطائيين في سجالاتهم السؤال المحرم والخطير وهو :" إذا كان الله هو الذي خلق الكون وما فيه فمن الذي خلق الله؟ وبرغم المحذورات والمحظورات الدينية لم يمتنع البشر عن التساؤل دوماً عن مفهوم الزمان الحقيقي، وتكون إجابة الإنسان العادي غير العالم أو غير المتخصص:" أن الزمان هو قياس للمدة أي قياس للتغيير ولما حدث ويحدث بين الماضي والحاضر والمستقبل. وفي هذه الحالة فإن الزمان مشخص من خلال دور الفعل النفسي ـ السايكولوجي للإنسان تجاه العالم المحيط به ويعتمد على الشعور بانقضاء المدة durée الذي يحس به الكائن البشري داخل وعيهconscience في حين يتمثل الزمان بالنسبة لعالم الفيزياء بأنه مجرد ثابتة محددة تتوقف عليها دالة رياضية من المتغيرات المستقلة paramètre أو معيار مفيد لوصف وشرح وتفسير تصرف أو سلوك المادة من المجال الميكروسكوبي اللامتناهي في الصغر إلى المجال الماكروسكوبي أو الكوزمولوجي اللامتناهي في الكبر. أما بالنسبة للفيلسوف فإن الزمن هو بالضرورة أعمق وأعقد بكثير مما يشعر به الإنسان وذلك بفضل التصور والتمثلreprésentation الذي يقوم به الإنسان تجاه الكون والمكانة أو الموضع والموقع الذي يحتله هو فيه ، بينما يعتبر عالم الاجتماع sociologue وعالم الانثروبولوجيا الأنسنة anthropologue أن الزمن ليس سوى وسيلة لقياس مدى تطور المجتمعات البشرية ويمكن لعالم الأحياء البيولوجياbiologiste وعالم طبقات الأرض الجيولوجيا géologue توسيع مفهوم الزمن وربطه بتطور الأنظمة الحياتية البيولوجية والجيولوجية أي بما يتعلق بعمر جسدنا البشري وعمر كوكبنا الأرض.
سنعرج خلال هذه الرحلة مع الزمان على مفاهيم، الزمان الذاتي والموضوعي، والزمان الخاص والعام، الزمان النسبي والمطلق، الزمان الحالي والقادم، الزمان المحلي والكوني، ، الزمان المنتهي واللامنتهي، الزمان المحدود واللانهائي، الزمان المعنوي والزمان الرياضي، ومفاهيم القبل والبعد والأثناء والخلال التي تتعلق بالوقت، الخ...