جذور القلق الوجودي ومعناه

عرف الإنسان طوال تاريخه ثلاث ايديولوجيات أو فلسفات هيكلت سلوكه. فإنسان ما قبل التاريخ نشأ في الطبيعة نشأة حيوانية. وكان فكره –إن كان له فكر- مهموما بتلبية حاجاته العضوية، بحيث يمكن أن نقول إن فلسفة إنسان ما قبل التاريخ أي منهجه في السلوك هو البحث عن الغذاء والكساء والمأوى دون أن يكون هو واعيا بما يطلب . فوضعيته كالوضعية التي نشهدها عند الحيوان أو الرّضيع.
لم يرتق الإنسان إلى الوعي بذاته إلا بعد تجربة طويلة. هذا الوعي بالذات شكّل نقطة التحوّل الجذرية في حياة الإنسان وبه دخل الإنسان في مرحلة ثانية. فما معنى الوعي بالذات؟ ذلك يعني أن الفكر التفت إلى نفسه وأدرك أنّه موجود من بين الوجودات. هذا الفكر أصبحت له هو نفسه حاجات تضاهي أو تفوق حاجات الجسد. من بين هذه الحاجات الرّوحية: الحاجة إلى المعرفة والفهم، إلغاء الحيرة والسؤال، إثبات الذات، التخلّص من الدهشة والتناقض ولهذا يقول أرسطو ومن قبله أفلاطون إن الدهشة منطلق الفلسفة. فما كان الإنسان ليكون إنسانا لو لا المعرفة وما كانت لتكون هناك معرفة لولا الوعي. إذا يمكن القول إن فلسفة هذه المرحلة هي البحث عن الحقيقة كحاجة روحية يطلبها الوعي.
وظلّت العلوم والفلسفات تتطوّر وهي تعبير عن تطوّر الإنسان إلى أن وصلنا إلى المرحلة الثالثة. فما هي ملامح فلسفة الإنسان المعاصر؟في هذه الفلسفة لم يعد الإنسان يبحث عن الإشباع [إشباع الجسد بالغذاء وإشباع الروح بالحقيقة] بل أصبح مشاكسا لهذا العالم الذي يوجد فيه وبالتحديد مشاكسا لمعقولية هذا العالم. الإنسان في الفترتين السابقتين مندسّ في العالم يبحث عن المصالحة مع الطبيعة. في المرحلة الثالثة أصبح يقف ندّا لهذا العالم. لقد وصل الإنسان المعاصر إلى حدّ التساؤل هل تستحقّ هذه الحياة أن نحياها؟ [راجع ألبار كامي: أسطورة سيزيف] وفي هذا السؤال هناك ترفّع على هذا العالم. لقد أصبح الإنسان يعتقد أنّه هو الذي يشرّف الحياة بوجوده وليس العكس ولذلك لا بدّ أن يخضع وجوده في هذه الحياة لقراره. فقد يكون في وجوده ما يشوّه سمعته ويحطّ من قيمته. عندما يرفض شوبنهاور أن تكون التلبية الكلية للغرائز تؤدّي إلى الكمال أوالسكينة ويصوّر الإنسان على أنّه يدور في حلقة مفرغة، فهذا إتّهام لنظام العالم. و أن يدعو إلى نفي إرادة الحياة فهذا تشريع بديل مناقض للحياة ومحاولة لإصلاح معقولية فاسدة. فلسفة شوبهاور هي فلسفة الإدانة. إدانة أدّت به إلى التشاؤم. والواقع أنّه محقّ في ذلك فلن يتفاءل إلا شخص ساذج لم يدرك حقيقة الوضع الإنساني. لمّا جاء نيتشه وجد أن باب التطاول على معقولية العالم وإدانة نظامه مفتوحا، فصرخ "إن الله قد مات"هبّوا إلى تلبية غرائزكم واستمتعوا بما لذّ وطاب. لقد مات الحارس أو الجلاّد أو الرقيب [الإله]. وهذا ما إصطلح على تسميته بعودة المكبوت. والواقع أن فلسفة نيتشه –وأقول هذا بكلّ تواضع- هي نشاز في الفلسفة المعاصرة. ففلسفة شوبنهاور-و هي أرضية فلسفة نيتشه- هي ثورة روحية، ثورة فكر متشائم، مهزوم، عاجز عن التأقلم مع الواقع. فما هو الحلّ الذي جاء به نيتشه لهذا المشكل؟ الحلّ هو أن نلبّي صوت الطبيعة فينا. هل كان شوبنهاور عاجزا عن تقديم هذا الموقف؟ أبدا، ولكنّه كان يبحث عن حلّ أرقى، حلّ يشرّف الإنسان. صحيح أن جذور فلسفة شوبنهاور هي بحث في الغرائز واللذّة ولكن هدفها كان ساميا: هو الظفر بالسكينة. وواضح أن هذا الهدف هو هدف روحي. الحلّ الذي جاء به نيتشه للمشكل الذي طرحه شوبنهاور لا يتلاءم مع جذور المشكل، لأنّ نيتشه عاد بالإنسان إلى المرحلة الحيوانية وكأنّه ردّ فعل على حرمان عمّر قرونا أو إنتقام من الجلاّد [الإله]. وإذا أردنا أن نبحث عن عذر لنيتشه في دفاعه الأهوج عن الغريزة، يمكن أن نقول إن نيتشه أدرك عظمة الإنسان وأنّه إله هذا الكون وبالتالي لا يمكن أن تقف الحواجز في طريقه. إن الإنسان المعاصر لم يعد قادرا على العيش مع القيود و المحرّمات فهذا لا يليق به. فدعوة نيتشه للعودة إلى الغرائز ليست مبنية على إحتياج وإنّما على كبرياء. وإنتهاكه للمحرّمات ليس لرغية فيها بل ليشعر أنّه يملأ وجوده كما يريد،وأنّه سيد هذا العالم.
فهل أشعرت الإطاحة بالقيم وإحياء المكبوت وقتل الإله، الإنسانَ بقيمته وجلبت له الطمأنينة؟ الحاصل هو عكس ذلك. فالإنسان المعاصر ألغى الإله ليحلّ محلّه، فلا هو استطاع أن يكون إلها ولا هو قادر على إحياء صورة الإله في نفسه. يمكن القول إذا أن جذور القلق الوجودي عند الإنسان المعاصر يعود إلى تطوّر وعي عظّم نفسه، ورأى أنّه لا يمكن أن يكون قد خلق ليعبد إلها ولكن مع موقفه ذاك، لم يقبل أن يكون العالم قد وُجد صدفة، وأن العالم بدون إله لا معنى له، من هنا كانت أزمته.