في الفرق بين السؤال والمشكل

مقدمة إن المشاكل الفلسفية رغم بعدها النظري وحتّى الميتافزيقي تؤثر على حالتنا العملية. فالمواقف التي نتّّخذها من المسائل الدينية والسيّاسية، والحياتية عموما، تُؤثر على سلوكاتنا وتجعل منّا مؤمنين أو ملحدين، ملتزمين أو مستهترين، متفائلين أو متشائمين، ...وإذا لم يتخذ الفرد موقفا، يظل سلوكه متذبذبا، متناقضا. ولا سبيل لنا لإزالة الإشكال على المستوى العملي ما لم نُُزِلْ أوّلا الإشكال الذي نواجهه على المستوى النظري.
فبسبب هذه المشاكل في بعديْها النظري والعملي نسأل ونتفلسف. فالذات المتفلسفة تبدو إذا في وضعية غير مريحة لأنّها تعاني من التذبذب والجهل والدهشة. ولكن إذا إعتبرنا أن التفلسف بما هو طرح لأسئلة، ومعاناة لمشاكل، يفضح الذات السائلة ويكشف جهلها. فإنه من جهة أخرى علامة إيجابية لأنّ الذي يطرح السؤال يبحث عن إجابة ويروم التخلّص من الجهل، وسيلته في ذلك هي السؤال. فالسؤال هو الجسرالذي سينقله من الجهل إلى اليقين. فهو الخطوة الأولى في عملية البحث عن الحقيقة. هذه القيمة التي للسؤال هي التي جعلت هيدجر(1889-1976) يعتبر أن نقطة البداية في الفلسفة هي السؤال، لأنّ الذي لا يسأل هو شخص مغترب يأخذ الإيديولوجيا السائدة على أنّها مسلّمات بديهيّة.
وبالفعل لو عدنا لتاريخ الفلسفة لإكتشفنا أن الفلسفة لم تزدهر إلا في الفترات التي سُمح فيها بطرح السؤال. فما كانت الفلسفة اليونانية لتكون على ذلك المستوى الرفيع لو لم يعط سقراط السؤال مكانة هامّة في طريقة التوليد. بعد ذلك إنحطّت قيمة الفلسفة بمجيء الأديان، إذ إنحصر البحث عن الحقيقة في الكتب الدينية، ولم تزدهر الفلسفة من جديد، إلا مع ديكارت (1596-1650) الذي أرجع للفرد حقّه في الشكّ والتساؤل والهدم والبناء.
فلا جدال إذا في أن الفلسفة لا يمكن أن توجد بدون سؤال. ومن منطلق هذه القيمة التي للسؤال بإعتباره المحرّك للتفلسف نتساءل:
ما هو الفرق بين السؤال والمشكل؟
ما هي وضعية كلّ من السؤال والمشكل في الفلسفة؟
ما هي مميّزات المشكل الفلسفي؟

I- ما هو الفرق بين السؤال والمشكل؟
إذا طرحنا سؤالا وكانت الإجابة عنه حاصلة عند من نسأله أو عند غيره، فإنّنا في هذه الحالة قد طرحنا سؤالا لا مشكلا. من الأمثلة على ذلك: ما هو مجموع 3+4؟ كم تبعد الأرض عن المريخ؟ كم الساعة الآن؟ هذه الأسئلة هي مجرّد أسئلة لأنّ الإجابات عنها مضبوطة وفي المتناول. لكن إذا كنّا تجاه أسئلة الإجابات عنها غير مؤكّدة وفيها إحتمالات وأحذ وردّ فإنّنا نكون تجاه مشاكل. فالمصطلح problème مأخوذ من probléma في اللغة اليونانية و المقصود بذلك الحاجز الملقى أمامنا والذي يعطّل سيرنا.
ولتوضيح الفرق بين السؤال و المشكل نأخذ الأمثلة التالية: فعندما نسأل عن مجموع 3+4 فنحن نطرح سؤالا ولكن عندما نسأل عن مجموع زوايا المثلث فنحن نطرح مشكلا لأنّ مجموع هذه الزوايا ليس هو نفسه في هندسة أقليدس وهندسة لوباتشفسكي وهندسة ريمان. وعندما نسأل كم تبعد الأرض عن المريخ فهذا سؤال، ولكن عندما نسأل هل توجد حياة في كوكب آخر فهذا مشكل.
نستنتج من كلّ هذا أنّ السؤال إجابته مضبوطة بينما المشكل إجابته محتملة فقط.
من هذا التمييز نستنتج ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: إن الذي يفرّق بين السؤال والمشكل هو طبيعة الإجابة (مضبوطة أو محتملة) وليست صياغة السؤال أو المشكل. فمن حيث الصياغة اللغوية لا فرق بين السؤال والمشكل. فالمشكل هو أوّلا وقبل كلّ شيء سؤال.
الملاحظة الثانية: في تحديد السؤال أو المشكل لا نشير إلى حقل معرفي معيّن ولكن نتحدّث عنهما بإطلاق. الأمر الذي يبيّن أنّهما يتواجدان في كلّ حقل معرفي.
فهل أن الفلسفة ككلّ حقل معرفي فيها أسئلة ومشاكل؟ ما هي وضعية السؤال والمشكل في الفلسفة؟

II -هل أن الفلسفة ككلّ حقل معرفي فيها أسئلة ومشاكل؟
كان يمكن أن نتحدّث عن أسئلة في الفلسفة –أسئلة بالمعنى الذي حدّدناه سابقا- لو كانت فيها إجابات يقينية ثابتة. فنحن مازلنا لحدّ الآن نتحدّث عن آراء ونظريات ومواقف لا عن حقائق. وأيّ سؤال نطرحه في الفلسفة سيكون بالضرورة مشكلا لا مجرّد سؤال. سيكون مشكلا لأنّ أي حلّ له لن يجد الإجماع الذي يرفعه إلى مستوى الحقيقة. ففي الفلسفة لن نجد غير النقد والتشكيك والهدم والبناء الذي سرعان ما يعقبه الهدم من جديد. يقول كانط إن الميتافزيقا هي حلبة صراع ولكن الواقع أن الفلسفة كلّها حلبة صراع. إذا في الفلسفة،هناك مشاكل لا أسئلة.
ويمكن لمعترض أن يعترض علينا بالقول إن هناك بعض الأسئلة الفلسفية التي لها إجابات مضبوطة كقولنا: متى ولد سارتر؟ من ألّف كتاب "نقد العقل الخالص"؟ متى نشر ديكارت "مقالة المنهج" ؟ ما هي وظيفة سبينوزا؟ هذه الأسئلة، ليست أسئلة فلسفية وإن كانت تمتّ بصلة للفلسفة. فالأسئلة الفلسفية هي بالضرورة حول مواضيع فلسفية وليست حول تواريخ ميلاد الفلاسفة وعدد الكتب التي ألّفوها. وإذا إرتبطت الأسئلة الفلسفية بالمواضيع الفلسفية تحوّلت إلى مشاكل. أي أن الأسئلة هي أسئلة إشكالية وهو ما أكّد عليه هيدجر.
إذا طالما أننا في الفلسفة لا نجد إلاّ مشاكل فلسفية وطالما أن المشكل الفلسفي لا يطرح إلاّّ في شكل سؤال، فيمكن أن نستخدم التعبيريْن:"سؤال فلسفي" و"مشكل فلسفي" بنفس المعنى. فما هي مميّزات السؤال الفلسفي (أو المشكل الفلسفي) التي تجعل منه مشكلا حقيقيّا لا مجرّد سؤال؟

III- مميّزات المشكل الفلسفي
1)- هو مشكل يكتسح جميع المجالات
المشكل الفلسفي هو مشكل يكتسح جميع المجالات: إنسانية، طبيعية، ميتافزيقية... وهذه الميزة ولّدت مشكل تعريف الفلسفة. فأغلب المباحث تُعرّف بموضوعها إلاّ الفلسفة فموضوعها غير محدّد. الأمر الذي جعل الفلسفة تُعرّف بميزة التساؤل والنقد أكثر ممّا تعرّف بموضوع معيّن أو أطروحة معيّنة. وللإشارة فإن ّ سقراط عدّ فيلسوفا لا لأنّ له منظومة ولكن لأنّه كان يسأل وكان يسأل عن كلّ شيء. كما كان لا يستثني شيئا من النقد.
فما هي طبيعة توجّه الفلسفة لهذه المجالات المختلفة؟
ما يميّز المشكل الفلسفي هو راديكالية التساؤل.
2) السؤال الفلسفي هو سؤال راديكالي
السؤال الفلسفي ليس سؤالا ثانويا أو هامشيّا أو جانبيّا، بل هو سؤال يمسّ جوهر الأشياء. فهو تساؤل حول المعنى والوجود والقيمة للموجودات والسلوكات والحياة برمّتها. فهو يضع موضع تساؤل ما نعتبره عادة بديهيا. هذا ما يجعل المشاكل الفلسفية تطرح على مستوى المفاهيم والأفكار العامّة. ويمكن ملاحظة ذلك بمقارنتها بمشاكل بقية المباحث الأخرى، فالرياضي يدرس العلاقة بين الأعداد بينما الفيلسوف يتساءل: ما هو العدد؟ الكيميائي يتساءل عن تركيبة الأشياء بينما الفيلسوف يتساءل كيف نعرف أن هناك أشياء خارج أذهاننا؟ والمؤرخ يتساءل عمّا حصل في حقب تاريخية معيّنة بينما الفيلسوف يتساءل ما هو الزمان؟
هذه النزعة الرّاديكالية التأسيسية في السؤال الفلسفي جعلته في غير متناول العوام. فالمشكل الفلسفي لا يطرحه كلّ الناس وهنا ننتقل إلى الخاصّية الثالثة.
3) المشكل الفلسفي لا يتفطّن إليه كلّ النّاس رغم أنّه في متناول كلّ النّاس.
من المفارقات أنّ الأسئلة الفلسفية تتدخّل في كلّ القطاعات وبالتالي تهمّ كلّ النّاس ومع ذلك لا يتفطّن إليها كلّ النّاس. فالمشكل الفلسفي لا يوجد على قارعة الطريق كما يقول هيدجر (1889-1976) فلا بدّ من فكر ثاقب يرتقي إليه ليدركه. مشاكل الحياة اليومية تواجهنا وتُفرض علينا وهي التي تأتينا، بينما المشاكل الفلسفية نحن الذين نذهب إليها يقول برغسون في كتابه La pensée et le mouvant « Il s’agit, en philosophie et même ailleurs , de trouver le problème et par conséquent de le poser plus encore que de le résoudre. Car un problème spéculatif est résolu dés qu’il est bien posé »
فلماذا هذا الرّبط بين وضع المشكل وحلّه؟
إن المشكلة الفلسفية عندما تُبنى في ذهن صاحبها، لا تُبنى عشؤائيا بل تبنى في سيّاق من التصوّرات. قد تتشابه مشاكلنا وقد نتعرّض لنفس المشكلة ولكن هذه المشكلة تتّخذ في ذهن كلّ واحد منّا شكلا معيّنا. فالموت مثلا لا نستوعبه كمشكلة بنفس الطريقة. هذا البناء الفكري للمشكلة هو الإطار لإمكان الحلّ. ولذلك يؤكّد برغسون أنّ طريقة طرح المشكلة هي التي تحدّد حلّها. وبالمقابل إذا أُسِيء وضعها صعُب حلّها. والحقيقة أنّ ثورة الفلسفة التحليلية على الميتافزيقا يعود إلى إعتقادها أن المشاكل الميتافزقية هي مشاكل سيّئة الوضع.
نستخلص من كلّ هذا، أنّه ليس من الهيّن وضع المشكل الفلسفي أو العثور عليه، فذلك يتطلّب إجتهادا وتكوينا معرفيّا جدّيا. وذلك التكوين ضروري لا في العثور على المشكل ووضعه فحسب، ولكن ضروري أيضا في حلّه. وهنا نصل إلى الخاصّية الرابعة وهي أن المشكل الفلسفي يتطلّب لحلّه تفكيرا عميقا وحجاجًا وإعادة نظر في معارفنا.
4) المشكل الفلسفي يتطلّب تفكيرا عميقا وحجاجا وإعادة نظر في معارفنا
تجاه سؤال بسيط يمكن أن نجيب مباشرة، ولكن حلّ مشكل فلسفي يمرّ بمراحل عديدة ويكون الحلّ تدريجيا. وتُعتبر الإجابة ناقصة وغير مقنعة إذا كان التمشّي نحو الحلّ مشوّشا أو معدوما. فالتمشّي المنطقي جزء من الحلّ. فعندما نسأل شخصا: هل أن الإنسان حرّ؟ ويجيب بسرعة بنعم أو بلا بدون تبرير تكون إجابته تافهة. بينما الذي يضع نظريّة يبرهن فيها على حرّية الإنسان تكون لنظريّته قيمة حتّى وإن كنّا نخالفه الرّأي.
ولأنّ الفيلسوف يولي قيمة كبيرة للبرهنة والحجاج فقد يضطرّ لإعادة النظر في مواقفه لا للتخلّي عنها ولكن لإضفاء المنطقية عليها وتبريرها. فنحن عندئذ لا نبحث عن إجابة مجهولة أو حلّ مجهول بل نبحث عن إقناع أنفسنا بما إتخذناه من مواقف. والدليل على أن التبرير هو من بين الغايات التي نبحث عنها، أن قناعاتنا وإعتقاداتنا تسبق بحكم التربية وعملية التثقيف، التفكيرَ الشخصي النقدي. فتقييم هذه القناعات هو في حدّ ذاته مشكل. هو مشكل لأنّنا نجد صعوبة كبيرة في التحرّر من الموروث الثقافي. فهل أن ديكارت عندما شكّ في وجوده و وجود الأشياء، هل نفى وجود الأشياء من ذهنه حقّا؟ طبعا يستحيل ذلك ولذلك يستبدل هوسّرل لفظة الشكّ بالإيبوكي. على أساس أن الإيبوكي حتّى وإن كان شكا، فهو شكّ إجرائي لا يوصلنا إلى إنكار وجود الأشياء كما يدّعي ديكارت. لذلك فالشكّ الديكارتي هو بحث عن تبرير وجود الأشياء أكثر منه بحث عن تأسيس لوجودها.
إذا بقطع النظر عن طبيعة البحث الفلسفي وعن غايات الفيلسوف من وراء ذلك، الشيء الذي يعنينا هنا هو أن الفيلسوف يبتكر المشكل ويسعى لحلّه متزوّدا بمعارف متنوّعة. فهل ينجح في رحلة البحث عن الحقيقة والذات؟ ما هي الصعوبات التي تعترض المتفلسف والمستمدّة من المشكل الفلسفي؟ ما هو موقف الفيلسوف من المشكل الفلسفي أثناء عملية البحث؟
5) المشكل الفلسفي هو مشكل مزعج لأنّه يظهر جهلنا ويفرض علينا الإختيار
بعد أن يعثر الفيلسوف على المشكل وبعد أن يتزوّد بالمعارف المتنوّعة وبعد أن يعمل عقله في هذه المشاكل، يكتشف أن المشكل الفلسفي مزعج وعنيد، لأنّنا لا نستطيع أن نجيب عنه ولا نعرف من أين نستقي هذه الإجابة. فهو يفضحنا لأنفسنا ويحرجنا ويتحدّى عقولنا. ومن المشاكل الفلسفية التي شكّلت معضلة على إمتداد قرون نجد "حركة المقذوفات". ففي نظر أرسطو لكي تتحرّك الجمادات لا بدّ لها من محرّك يحرّكها، هذا في نظره مبدأ بديهي. ولكن الحاصل هو أنّنا عندما نقذف شيئا جامدا (حجرة مثلا) تواصل حركتها بعد أن تكون قد غادرت اليد التي هي بمثابة المحرّك. وهذا أمر غير معقول في نظره لأنّه يتعارض مع المبدأ: فكيف يواصل المقذوف حركته وقد غادراليد؟ هذه المعضلة بدأت مع أرسطو وخاضت فيها فلسفة القرون الوسطى ولم تحل إلا مع قاليلاي بمبدأ العطالة. فحركة المقذوفات تقدّم لنا صورة عن المشكل الفلسفي المزعج.
وممّا يعقّد السؤال الفلسفي هو أن معطيات الإجابة غير متوفّرة فهو مشكل لا حلّ له إلاّ بالذهن، بدون تجارب مادّية أو مخابر. قد نستدلّ بالوقائع ولكن هذه الوقائع تؤوّل حسب الذوات ويظلّ المشكل قائما. فهناك من يستدلّ على وجود الله بوجود الكون، ولكن وجود الكون ليس دليلا كافيا ومقنعا لكلّ النّاس.
وقد يعترض علينا معترض بالقول إنّ المزعج في السؤال الفلسفي ليس السؤال في حدّ ذاته وإنّما جهلنا بالإجابة. الواقع أن المسألة أعمق من ذلك بكثير. الأمر الذي يبيّن أن المشكل هو في السؤال وليس في الجهل هو أن الحرج الذي نشعر به تجاه المشكل الفلسفي لا نشعر به تجاه أسئلة غير فلسفية نجهل الإجابة عنها. فعندما يسألني شخص عن الدواء اللازم لمرض معيّن أقول له بدون حرج أنّني أجهل ذلك وأدعوه لزيارة الطبيب. ولكن الذي يسألني هل الله موجود؟أو هل الكون متناهي أم غير متناهي؟ كيف أجيبه؟ كيف أجيبه إجابة أنا نفسي لست مقتنعا بها؟ ثمّ لمن أوجّهه وأنا أعرف أنّه لا توجد إجابات يقينية عن هذا السؤال. تجاه السؤال العلمي أنا مرتاح لجهلي لأنّه جهل يمكن أن أتخلّص منه متى أردت فالإجابة وإن كانت ليست في متناولي فهي في متناول الإنسان ولكن تجاه السؤال الفلسفي أشعر أنّني مهزوم ومتّهم بالقصور وهذا ما يحرجني.
ب الجانب الثاني من الإزعاج الذي يسبّبه السؤال الفلسفي علاوة على هذا الإحراج هو أنّه يضعنا أحيانا أمام خيار صعب. نظلّ نتردّد بين أطروحتين تبدوان متساويتين في الصواب وهذا هو معنى المشكل في نظر أرسطو كما جاء في كتابه Les topiques. فهو يرى أنّنا نكون تجاه مشكل عندما نكون في خيار بين أمرين متناقضينune alternative . ومن المشاكل التي توضّح هذه الوضعية مشكلة القضاء والقدر. فإن قلت إن الإنسان مخيّر في أفعاله فقد نفيت صفة خلق كلّ شيء عن الله وإن قلت إنّه مسّير نفيت صفة العدل عن الله. وصفتا الخلق و العدل صفتان جوهريتان في الله. وهذه المشكلة طرحت قديما وتشكّلت بسببها فرق كلامية ومازالت تطرح إلى حدّ الآن. وهذا يجرّنا إلى خاصّية أخرى للمشكل الفلسفي وهو أنّه مشكل لا يحلّ بشكل نهائي ويمكن طرحه من جديد.
6) المشكل الفلسفي هو مشكل لا يحلّ بشكل نهائي ويمكن طرحه من جديد.
المشكل الفلسفي لا يكون كذلك إلاّ إذا كان لا يحلّ بشكل نهائي وتتعدّد فيه الآراء. فالحلول الفلسفية هي نظريات تلزم أصحابها. فإذا حلّت هذه المشاكل بشكل نهائي غادرت حقل الفلسفة وتحوّلت إلى العلوم (مثل حركة المقذوفات). ولأنّ المشاكل الفلسفية القائمة الآن، لم تُحل بشكل نهائي فإن حلولها دائما متجددة وتضاف إلى بعضها البعض. فالمشكل الفلسفي عندما يطرح من جديد يلغي الحلّ المستحدث ما سبقه ويضع إجابة جديدة. ولذلك كان النقد من جوهر التفكير الفلسفي، بل أكثرمن ذلك فإن الفيلسوف الواحد يفكّر في المشكل مرارا وتكرارا قد يعدّل إجابته. وقد كان ردّ برتراند رسّل لمّا وقع لومه على تغيير مواقفه بإستمرار، أن هذا التغيير هو علامة حيوية فكرية وليس عيبا.

خاتمـــــــــــــة
لقد سبق أن قلنا إن المشكلة الفلسفية هي مشكلة تتعدّد فيها الآراء ولا حلّ لها . فهل ينطلق هذا الحكم من طبيعة المشكلة الفلسفية لأنّ ذلك هو جوهرها وتلك هي ماهيتها أي أنّها مشاكل واقعية عويصة، أم أن هذه المشاكل هي مشاكل نظرية ولنقل خيالية، إبتدعها الإنسان وورّط نفسه فيها. فهي ليست مشاكل بأتمّ معنى الكلمة ولكن شبه-مشاكل des pseudo-problèmes.
تتبنّى الوضعية المنطقية الفرضية الثانية. ففي نظر هذه المدرسة، كلّ مشكلات الميتافزيقا وهي تاريخيا الجزء الأعظم في الفلسفة لغو فارغ من المعنى لأنّها لا تخضع لمعيار التحقّق vérification الذي وضعه رودولف كارنب (1891-1970) في كتابه "المشكلات الزائفة"( 1966). كما أرجع فيتقنشتاين (1889-1951) في كتابه "بحوث فلسفية" معظم مشكلات الفلسفة إلى سوء إستخدام اللغة. ولذلك يدعو إلى إزالتها طالما أن هدف الفلسفة هو الوضوح. والوضوح الكامل لا يتأتّى إلاّ بلغة سليمة.
إنّ ما تقوله الوضعية المنطقية فيه جانب كبير من الصحّة. فأغلب المشاكل الميتافزقية سيّئة الوضع. ولكن الوضعية المنطقية خطّأت الفلاسفة ولم تبيّن لهم لماذا يخطئون. تعاملت مع القضايا الميتافزقية بمنطق ما يجب وما لا يجب ولكن لم تبيّن لماذا لا يملّ الفلاسفة من طرح هذه القضايا على إمتداد قرون. لم تمكننا من فهم نفسية الفلاسفة.
ما جعل الفلسفة تطرح مشاكل لا حلّ لها ولا تصل للحقيقة هو أنّها لا تبحث عن حلّ لهذه المشاكل ولا يهمّها حلّها بل إنّها لا تبحث عن الحقيقة أصلا. عن أي شيء يبحث الفيلسوف إذا؟ إنّه يبحث عن ذاته، عن مشروعية لوجوده. ولأنّه يبحث عن ذاته يسمح لنفسه بالتعبير عمّا يحلو له. الفيلسوف لا يسعى لحلّ القضايا الميتافزقية وإنّما يسعى ليعبّر عن نفسه عبر القضايا الميتافزقية. يسعى ليتصالح مع وجود يشعر أنّه غريب فيه. الفلسفة أوّلا وقبل كل ّشيء معاناة ذاتيّة. ولا يمكن أن نشرّع للفيلسوف موضوع بحثه. فهذه المشاكل هي كذلك لأنّه هو يراها كذلك.