بين مرض الصرع والنبوة



epfl-avatar-brain-sensor
brain sensor
الدماغ شبكة وآليات معقدة مسؤولة عن عكس الكون في ذاتنا وعلاقة ذاتنا مع الكون وتحديد الذات عن العالم الخارجي والتحكم في العلاقة به. وتماما مثل بقية العوارض الناتجة بسبب قصور او اختلال في عمل مناطق الدماغ يمكن ان ينشأ التباس في فهم الحدود الفاصلة بين الذات والعالم الخارجي. ايضا يمكن استغلال هذه الآليات لتحفيز التصورات وخلق انطباعات روحية مثل الانصهار مع الالهة كما في فلسفة التنترا الهندية Tantra or Yantra, او الفلسفة الصوفية.
من الناحية الكلينيكية الاصابة بهذا الامر بنتيجة خلل دماغي يؤدي بالمصاب الى رؤية اشباح تتحرك لها صور مرعبة. يمكن للمريض ان يتصور ان هذه الاشباح تتكلم معه او يمر بمعايشات اخرى تذكرنا بمعايشات الانبياء والقديسين.

الصرع: طريق الى النبوة
دراسة مرض الصرع ساعدت العلماء على فهم ميكانيزم عمل الدماغ لخلق مشاعر " الانا" في الذات لنتمكن من فهم التفريق بين انا وانت ولنتمكن من تحديد حدود جسمنا عن العالم. من خلال وصل اقطاب كهربائية للدماغ تمكن العلماء من خلق مشاعر الاحساس بمعايشات خارج الجسد، مثلا يتمكن المرء من رؤية نفسه من الخارج او يشعر ان اطرافه ليست له وكأنها من جسم اخر غريب عنه.

في الاحوال العادية لاينشأ عندنا اي التباس عن بداية ونهاية اطرافنا وجسمنا. نحن نشعر بإنصهار كامل معهم لكونهم جزء مركزي في تفكيرنا ومشاعرنا. غير ان آلية عمل وعينا عن الانا في ذاتنا احدى اكبر المعضلات في علم دراسة الدماغ، والباحثين يجدون صعوبة في ايجاد طرق علمية لبحث الموضوع. من بين اسباب صعوبة دراسة آلية عمل الوعي بالذات ان ان وحدة الوعي كبيرة للغاية وان المعايشات المتعارف على تسميتها بالمعايشات الخارجية عادة تنشأ بدون مقدمات وتبقى لبضعة لحظات فقط.

بالارتباط مع معالجة المرضى المصابين بالصرع تمكن الطبيب Olaf Blanke من جامعة جنيف الطبية من إكتشاف انه قادر على تحفيز واطلاق عدة انواع من المعايشات الغريبة بمساعدة نبضات كهربائية في المكان المناسب من الدماغ. عندما فحص المصابون بالصرع يجري غالبا وضع اقطاب كهربائية في الدماغ من اجل فحص المكان مصدر الصرع. الاماكن التي توضع بها الاقطاب تختار بطريقة عشوائية. بعضهم يتمكن من تخفيف عوارض الصرع في حين ان البعض الاخر يكون سببا في إطلاق حركات عضلية ومشاعر واحيانا معايشات خارج الجسم. بهذه الطريقة تمكن الطبيب اولاف بلانك من تعيين المناطق الدماغية التي تتحكم في ثلاثة اطياف من وعينا بذاتنا.

Sense of Consciousness
Sense of Consciousness
اكثر الظواهر شهرة هي ظاهرة معايشة وكأن " النفس " تسبح في الفضاء خارج الجسم وقادرة على رؤية ومراقبة ماحولها. هذه الظاهرة نادرة وغالبا تنتهي لوحدها، ولكن في عدة مرات تمكن اولاف بلانك وعدد اخر من الباحثين من بعث هذه المعايشة بطريقة صناعية من خلال تنشيط مناطق دماغية محدد بتيار كهربائي. هذا الامر ادى الى اكتشاف ان التوازن المشاعري يفضي الى امساك معايشة الذات ضمن اطار "ارض الواقع" بحيث لاتسبح في الفضاء خارج الجسد.

حالة ثانية على معايشة الانا بطريقة الهية تحصل عندما يصبح من غير الممكن على الدماغ التحكم بالقدرة على التعرف على اعضاء ومناطق من الجسم. مما يمكن ان يؤدي الى ان الدماغ يعزل كل صلات إنتماء العضو الى الجسد وتعتبره غريب. هذا الامر يحصل غالبا عند زرع اعضاء جديدة، مثلا ذراع من شخص مات دماغيا. الكثير من المؤشرات تدل على ان حاسة البصر تلعب دورا في ذلك، إذ في تجربة حديثة لاحظ الباحثون ان الشخص الخاضع للاختبار يستطيع التقاط مشاعر من يد اصطناعية ثالثة توضع الى جانب يده وتغطى بطريقة يمكن الاعتقاد بصريا انها جزء من الجسم.

الطريق الى السماء
النوع الثالث للانحراف في التعرف على الذات عندما يتوقف الدماغ من القدرة على تعيين موضع الجسد. السبب هنا على الاغلب في فقدان التوازنات المشاعرية بحيث ان الدماغ يستقبل من الجسم معلومات متناقضة. هذا الامر يمكن ان يؤدي الى نشوء اعراض حيث يشعر المصاب ان هناك نسخة ثانية منه الى جانبه. الوضع يشابه الشيزوفرينيا ولكن يختلف عن هذا المرض البسيكولوجي ان المصاب، عادة، لايريد الاعتراف ان " الجسم الثاني" له علاقة به، مهما كان نوعها.

سريريا يمكن تقديم ثلاثة امثلة واقعية. اثناء معالجة امرأة عمرها 22 سنة بقبعة الاقطاب الكهربائية جرى اطلاق تيار كهربائي من قطبين فقط على منطقتين معينتين. النتيجة ان المرأة شعرت بوجود شخص اخر الى جانبها. هذا الشخص كالظل وصامت ويقف خلفها على الدوام ولكنها تشعر انه غريب ولاتستطيع لمسه. الشخص الظل يبقى يحيط بها في كل حركاتها وكأنها في احضانه، بحيث تشعر وكأنها في حالة اغتصاب مما يذكر بمعايشات نعلمها من تعابير شائعة مثل " يتلبسني جني" او " ركبها شيطان" وتذكرنا بعمليات اخراج الجن من البشر.
في حالتنا هذه تنشأ المعايشة من الاقطاب الموجهة الى منطقة الاتصال بين الفص الخلفي والفص الجانبي. وهي منطقة مسؤولة عن التحكم بمشار الانا والشعور بالفرق بين انا وانت. وتقوم ايضا بصهر وتنسيق مشاعر الجسد.

مع امرأة اخرى عمرها 42 سنة كان الوضع مختلفا. عند معالجة الصرع لاحظ الاخصائيين انها تسلك سلوكا غريبا عند تنشيط جزء من الدماغ بتيار كهربائي ضعيف. فجأة تقول المرأة ان جسمها يغوص عميقا في السرير او انها تسقط من مرتفع عالي. عند زيادة قوة التيار قليلا تشعر المرأة انها اصبحت خفيفة وانها تطير قرب السقف في ذات الوقت الذي تنظر فيه الى جسدها المستلقي على السرير. وحسب رؤيتها للامر فإن جسدها بدون رأس وله اذرع وسيقان اقصر من الطبيعي.
ردة الفعل هذه جرى خلقها عن طريق تيار من قطبين مزروعين في منطقة gyrus anguli. تقع المنطقة على خلف فص الصدغ ومسؤولة عن التحكم وتنظيم اشارات التوازن القادمة من حاسة البصر والسمع والاحساس وحاسة التوازن بحيث نصبح واعين بموقعنا.

في معالجة ثالثة لرجل عمره 55 عاما ، بسبب نوبات الصرع اليومية كان يشعر ان الضغط يزداد كثيرا على طول الجانب الايسر من الجسم. بعد ذلك يشعر ان هناك شخص يدخل في ذلك الطرف ويفقد الشعور ان الجزء الايسر من الجسم يخصه. انه يشعر ان جسمه انقسم فيزيائيا الى نصفين مستقلين، ويصبح " هو" النصف الايمن. وخلال نوبات الصرع لايعايش اية تصورات اخرى ويستطيع ممارسة جميع وظائفه وكائن شئ لم يقع.
التصوير الدماغي كشف اضرار في sulcus intraparietalis posterior, في القسم الخلفي من الفص parietal lobe, وهي منطقة تتحكم بتنسيق النظر مع الجسم بحيث يتمكن المر ، مثلا، من مد جسمه ليتناول غرض. ويعتقد انه يساهم في وعي النصف الثاني من الجسم بالنسبة للنصف الاول.

الاشخاص المصابين بهذه الاعراض اعدادهم كبيرة بشكل غير متوقع بحيث انهم مادة غنية للابحاث لمعرفة الترابط الكلي لعمل الدماغ في بناء الشخصية والتحكم بالانا في ذاتنا وعلاقتها بالمعايشات الروحية.