مختصر التحليل النفسي



Sigmund Freud
 Sigmund Freud
سيغموند فرويد (1858 - 1939)
ولد سيغموند فرويد (Sigmund Freud) في فرايبرغ (Freibberg) وهاجرت عائلته إلى فينا (Vienna). عاش هناك حتى سنة 1938، وعندما ضم هتلر النمسا إلى ألمانيا اضطر فرويد إلى تركها بسبب كونه يهودياً وعاش في لندن حتى وفاته بعد ذلك بقليل.

درس سيغموند فرويد الطب في فينيا أولاً، ومارس هذه المهنة لسنوات عديدة. ولاحظ صلة وثيقة بين بعض الأمراض وأنماط سلوك مرضاه. سافر إلى باريس في 1885 للتخصص هناك لدراسة ظاهرة الهستيريا والعلاج بالتنويم المغناطيسي. ثم انتقل إلى مدينة نانسبي ليتتلمذ على أيدي العالمين الفرنسيين بيررنهام وليبو في مجال التنويم المغناطيسي. وعاد فرويد بعد ذلك إلى فيينا لاستخدام ما درسه في علاج مرضاه.

ألف فرويد كتبا عديدة دار معظمها حول ظواهر "الهستيريا" و"الأحلام"، و "التحليل النفسي". وعرض فرويد نظريته في التحليل النفسي في جامعة كلارك في الولايات المتحدة في عام 1909. وأسس جمعية التحليل النفسي في 1910 في فينا وعمل منذ 1919 أستاذا في جامعة فينا. وعانى من مرض عضال منذ 1923 وحتى موته في 1939.

يمكن إجمال موقف فرويد من الإنسان كما يلي: الإنسان هو كائن نفسي بجانب كونه كائناً عضوياً. ورغم ما يبدو من ازدواجية في هذا التحديد، إلاّ أن كلا "الكائنين"، العضوي والنفسي، يؤثر ويتأثر بالآخر، ومن الخطأ الاعتقاد أنهما منفصلان انفصالاً كاملاً، فبعض الأمراض العضوية ترجع في أصولها إلى عناصر نفسية. وقسم فــرويد الجهاز الــنفسي إلى ثلاثة: الـ (Id)، والـ (Ego)، والـ (Super Ego). ويشمل الـ (id) كافة الغرائز الموروثة والتي توجد في الإنسان منذ الولادة. واعتبر فرويد أن الـ (ego) بمثابة صمام يسمح أو يمنع هذه الغرائز من تحقيق ذاتها. أما الـ (super ego) فتتضمن مجمل السلوكيات التي تقننت شخصياً بسبب التربية البيتية أو اكتسبت شرعية اجتماعية وأصبحت أنماط سلوك اجتماعية كالعرف والعادة وأشكال الحضارة، المادية منها والروحية. وذهب فرويد إلى أن الجهاز النفسي يحدد السلوك بأشكاله وأبعاده المختلفة سواء أخذ شكل الفعل الخارجي أو استبطن داخلياً.

كرس فرويد جزءاً من وقته في أواخر حياته لكتابة بعض الأبحاث التي تعدت مجال علم النفس المحض. و"قلق في الحضارة" هو إحداها. ويطرح فرويد في هذا الكتاب الصلة المركبة بين ظهور الحضارة وتقدمها وبين الجهاز النفسي وتأثير التقدم الحضاري فيه.
فرويد: مختارات من "مختصر التحليل النفسي"

توطئة
الهدف من هذا المؤلف المقتضب جمع مذاهب التحليل النفسي لعرضها عرضا تقريريا ان جاز القول، في أوضح شكل ممكن وأكثره تركيزا. ولم نرم فقط، بعملنا هذا، إلى كسب ثقة أو انتزاع اقتناع.
إن تعاليم التحليل النفسي تنهض على عدد لا يقع تحت حصر من المشاهدات والتجارب، ومن لم يتحقق، في نفسه أو لدى الآخرين، من هذه المشاهدات لا يملك أن يصدر عليها حكما مستقلا.

القسم الأول: طبيعة النفسية
الفصل الأول: الجهاز النفسي

ينهض التحليل النفسي على مسلمة أساسية يقع على عاتق الفلسفة نقاشها، وإن تكن نتائجها تبرز قيمتها. فما نسميه بالنفسية (أو الحياة النفسية) نعرف عنه شيئين: أولاً العضو البدني لهذه النفسية، مسرح عملها، أي المخ (أو الجهاز العصبي)، وثانياً أفعالنا الشعورية التي لنا بها معرفة مباشرة والتي ليس لأي وصف أن يزيدنا بها علماً. أما كل ما يقع بين هذين القطبين فيبقى مجهولا لنا، وإن يكن بينهما ارتباط ما فليس من شأنه أن يمدنا بأكثر من تحديد دقيق لموضع السيرورات الشعورية، من غير أن يتيح لنا فهمها.
وتتصل فرضيتانا بهذين الحدين أو هاتين البدايتين لمعرفتنا. والفرضية الأولى ذات صلة بتحديد الموضع. فنحن نسلم بأن الحياة النفسية وظيفة لجهاز نعزو إليه امتدادا في المكان ونفرض أنه مؤلف من أقسام عدة. ومن ثم فإننا نتصوره ضربا من مقراب أو مجهر أو شيئا من هذا القبيل. وبناء هذا التصور واستكماله حدث علمي جديد، وإن كانت محاولات مماثلة قد جرت في هذا السبيل.
إن دراسة تطور الأفراد هي التي أتاحت لنا أن نعرف هذا الجهاز النفسي. ونحن نطلق على أقدم هذه المناطق أو الهيئات النفسية اسم الهذا؛ ويشمل مضمونه كل ما يحمله الكائن الإنساني معه عند ولادته، كل ما هو متعين في الجبلة، أي في المقام الأول الدوافع الغريزة الصادرة عن التنظيم البدني والتي تجد في الهذا، من خلال أشكال مجهولة لنا، أول نمط من أنماط التعبير النفسي.

وتحت تأثير العالم الخارجي الواقعي المحيط بنا، يطرأ على شطر من الهذا تطور خاص. فبدءا من الطبقة اللحائية الأصلية المزودة بأعضاء قادرة على تلقي التنبيهات، وكذلك على اتقائها، قام تنظيم خاص وما لبث ان صار وسيطا بين الهذا والخارج. وإنما على هذا الشطر من نفسيتنا نطلق اسم الأنا.

الخصائص الرئيسية للأنا
بنتيجة العلاقات التي تكون قد قامت بين الإدراك الحواسي والأفعال العضلية، يتأتى للأنا ان يتحكم بالحركات الإرادية. ومهمته هي حفظ الذات، وهو يؤدي هذه المهمة، فيما يتصل بالعالم الخارجي، بتعلمه كيف يتعرف التنبيهات، وبمراكمته (في الذاكرة) الخبرات التي تمده بها هذه التنبيهات، وبتحاشيه التنبيهات المفرطة في قوتها (بالهرب)، وبتوصله أخيراً إلى تعديل العالم الخارجي على نحو موائم ولصالحه (النشاط). أما في الداخل، فهو يتصدى لمواجهة الهذا باكتسابه السيطرة على مطالب الدوافع الغريزية، وبتقريره ما إذا كان من الممكن إشباع هذه الدوافع أو ما إذا كان من الأنسب إرجاء هذا الإشباع إلى حين مؤاتٍ أو ما إذا كان من الواجب خنقها أصلاً. ويخضع الأنا في نشاطه لاعتبار التوترات الناجمة عن تنبيهات الداخل أو الخارج. فزيادة التوتر تسبب بالإجمال ألماً، ونقصانها تتولد عنه لذة. بيد أن الألم أو اللذة غير منوطين في أرجح الظن بالدرجة المطلقة للتوترات، بل بالأحرى بوتيرة تغيراتها. والأنا ينزع إلى اللذة ويسعى إلى تحاشي الألم. وكل زيادة منتظرة، متوقعة، في الألم تقابلها إشارة حصر، وما يطلق هذه الإشارة، من الخارج أو من الداخل، يسمى الخطر. وبين الحين والحين، يقطع الأنا الروابط التي تربطه بالعالم الخارجي ويخلد إلى النوم حيث يجري على تنظيمه تعديلاً مهماً. وتتيح لنا حالة النوم ان نلاحظ ان نمط التنظيم هذا يتمثل في توزيع خاص معين للطاقة النفسية.

وعلى امتداد فترة الطفولة المديدة التي يجتازها الفرد الناشئ ويكون عماده في أثنائها على والديه تتشكل في أناه، كما بضرب من الترسب، هيئة خاصة تكون بمثابة امتداد للتأثير الوالدي. هذه الهيئة هي الأنا الأعلى. وبقدر ما ينفصل الأنا الأعلى عن الأنا أو يعارضه، يشكل قوة ثالثة لا مناص للأنا من أن يعمل لها حساباً.

ويعد صحيحاً كل تصرف يصدر عن الأنا ويلبى مطالب الهذا والانا الأعلى والواقع معاً، وهذا ما يحدث حين يفلح الأنا في التوفيق بين هذه المطالب المتباينة. ومن الممكن دوماً وأبداً فهم خصائص العلاقات بين الأنا والأنا الأعلى إذا أرجعناها إلى علاقات الطفل بوالديه. ومن المحقق ان ما يؤثر في الطفل ليس شخصية الأهل وحدهم، بل كذلك، وبوساطتهم، تأثير التقاليد العائلية والعرقية والقومية، علاوة على مقتضيات الوسط الاجتماعي المباشر الذي يمثلونه. ويتأثر أيضاً الأنا الأعلى للطفل، في أثناء تطوره، بخلفاء الأهل وبدائلهم، وعلى سبيل المثال بعض المربين وبعض الأشخاص الذين يمثلون في المجتمع مثلا عليا موقرة. ويتضح لنا ان الهذا والأنا الأعلى، رغم تباينهما الأساسي، تجمع بينهما نقطة مشتركة، إذ يمثل كلاهما بالفعل دور الماضي؛ فالهذا يمثل أثر الوراثة، والأنا الأعلى أثر ما تلقاه عن الآخرين؛ بينما يتعين الأنا في المقام الأول بما خبره بذاته، أي بالعارض والراهن.

ان هذا المخطط العام للجهاز النفسي يصدق أيضاً على الحيوانات العليا التي بينها وبين الإنسان وجه شبه نفسي. ويجدر بنا ان نسلم بوجود أنا أعلى حيثما يتعين على الكائن الحي ان يمر في طفولته. كما لدى الإنسان بفترة طويلة من الاتكال الطفلي. اما تمايز الأنا عن الهذا فواقع لا مماراة فيه.

ولم يعكف علم نفس الحيوان بعد على الدراسة الشائقة التي تبقى هنا متاحة له.

الفصل الثاني: نظرية الدوافع الغريزية
تعبر قوة الهذا عن الهدف الحقيقي لحياة الفرد العضوية وتنزع إلى إشباع حاجات هذا الفرد الفطرية. ولا يُعنى الهذا بحفظ الحياة ولا باتقاء الأخطار. فهاتان المهمتان الأخيرتان تقعان على عاتق الانا الذي يتعين عليه أيضاً ان يكتشف أنسب وسيلة وأقلها خطراً للفوز بإشباع، مع أخذ مقتضيات العالم الخارجي بعين الاعتبار. اما الانا الأعلى، فعلى الرغم من أنه يمثل حاجات أخرى أيضاً، فإن مهمته الأساسية تبقى على الدوام كبح الإشباعات.

اننا نطلق على القوى التي تعمل خلف حاجات الهذا الآسرة، والتي تمثل في النفسية المتطلبات البدنية، اسم الدوافع الغريزية. وهذه الدوافع محافظة بطبيعتها، رغم انها تشكل العلة الأخيرة لكل نشاط. وبالفعل، ان كل حالة يبلغها يوما الكائن تنزع إلى إعادة فرض ذاتها حالما تُترك. ويسعنا أيضاً ان نميز عددا غفيرا من الدوافع الغريزية، وهذا ما هو واقع فعلاً. على أن ما يهمنا هو أن نعرف ان لم يكن في الإمكان اختزال هذه الدوافع الغريزية العديدة إلى عدد محدود من الدوافع الغريزية الأساسية. وقد تعلمنا ان الدوافع الغريزية يمكن ان تغير هدفها (بالنقل)، وانها قابلة أيضاً لأن ينوب بعضها مناب بعض، إذ يمكن لطاقة أحد الدوافع ان تتحول إلى دافع آخر. وهذه الظاهرة الأخيرة لا تزال منقوصة التفسير. وبعد طول تردد وطول اخذ ورد، قر قرارنا على التسليم بوجود غريزتين أساسيتين فقط: الايروس وغريزة التدمير (وتقع في نطاق الايروس غريزتا حفظ الذات وحفظ النوع المتعارضتان، وكذلك غريزتا حب الذات والحب الموضوعي، المتناقضتان بدورهما). وهدف الايروس إنشاء وحدات متعاظمة الحجم باستمرار بغية صونها، وبكلمة واحدة، هدف ربطي. أما هدف الغريزة الأخرى، على العكس، فهو فصم الروابط كافة، وبالتالي تدمير كل شيء. ومباح لنا ان نفترض ان الهدف النهائي لغريزة التدمير إرجاع الحي إلى الحالة اللاعضوية، ولهذا نسميها غريزة الموت. فلئن سلمنا بأن الكائن الحي لم يظهر إلا بعد المادة الهامدة، وأنه منها خرج، فلا محيد لنا عن الاستنتاج من ذلك أن غريزة الموت تنصاع للقاعدة المتقدم ذكرها والتي تنص على ان كل غريزة تنزع إلى إعادة حالة سابقة. اما بالنسبة إلى الايروس، غريزة الحب، فليس لنا ان نطبق عليها القاعدة عينها لأننا لو فعلنا لكان هذا معناه اننا نصادر على ان الجوهر الحي، بعد ان شكل في البداية وحدة، تجزأ في وقت لاحق، ثم بات ينزع إلى معاودة الالتئام من جديد.

ان الغريزتين الأساسيتين تتعارضان أو تتراكبان في الوظائف البيولوجية. ففعل الأكل مثلا يستلزم تدمير موضوع ما، على أن يعقبه تمثل هذا الموضوع. أما الفعل الجنسي فهو عدوان ينزع إلى تحقيقي أوثق اتحاد. هذا التوافق وهذا التناحر بين الغريزتين الأساسيتين يخلعان على ظاهرات الحياة كل التنوع الذي هو سمة مميزة لها. وإذا تجاوزنا مضمار الحياة العضوية وجدنا تناظر غريزتينا الأساسيتين يفضي إلى الزوج المتناقض: التجاذب والتنافر، الذي يهيمن على العالم اللاعضوي.

ان كل تعديل يطرأ على نسبة انصهار الغريزتين تكون له أظهر النتائج. ففرط العدوانية الجنسية يقلب المحب إلى قاتل سادي، والنقصان الكبير في هذه العدوانية عينها يحيله خجولاً أو عنيناً.
ولا مجال لحصر أي من الغريزتين الأساسيتين في منطقة بعينها من مناطق النفسية، إذ نلتقيهما حتما في كل مكان. وهاكم كيف نتصور الحالة البدئية: فقد كانت كل الطاقة المتاحة للايروس، التي سنسميها من الآن فصاعداً بالليبيدو، موجودة في الأنا - الهذا غير المتمايز بعد، وكانت تعمل على تحييد النوازع التدميرية الماثلة فيه بدورها (لا نملك بعد مصطلحا مماثلاً لمصطلح "الليبيدو" للإشارة إلى طاقة الغرائز التدميرية). ويغدو سهلاً علينا نسبياً بعد ذلك ان نتتبع المصائر اللاحقة لليبيدو. أما فيما يتصل بغريزة التدمير، فإن هذا التتبع أشد عسراً.

فما دامت هذه الغريزة تعمل في الداخل بوصفها غريزة موت، فإنها تظل خرساء ولا تظهر لنا إلا لحظة تتحول إلى الخارج بوصفها غريزة تدمير. ويبدو ان هذا التمويه ضروري لحفظ الفرد، والجهاز العضلي هو الذي يتولى الأمر. ففي زمن تكوّن الأنا الأعلى، تتثبت تراكمات كبيرة من غريزة العدوان في داخل الأنا وتعمل فيه كعناصر تدمير ذاتية وذلك هو أحد الأخطار التي تتهدد سلامة النفسية والتي يعرض الإنسان نفسه لها حين يسلك طريق الحضارة. وبالفعل، إن كبح المرء جماح عدوانيته لهو بوجه عام ضار ومسبب للمرض. وكثيراً ما نلاحظ تحول عدوانيته مكبوحة إلى تدمير ذاتي لدى فرد يقلب عدوانه إلى ذاته، فيشد في سورة الغضب شعره أو يلطم وجهه بقبضتيه. ومن المحقق ان هذا الفرد كان يؤثر ان يعامل بهذه المعاملة شخصاً غيره. ويبقى على كل حال قسم من التدمير الذاتي في داخل الفرد إلى ان يقتله في خاتمة المطاف، وربما لا يكون ذلك إلا بعد ان تُستنفد طاقته الليبيدوية بتمامها أو تتثبت على نحو ضار. وهكذا يباح لنا أن نفترض ان الفرد يموت بسبب منازعاته الداخلية، بينما لا يسقط النوع، على العكس، إلا بعد صراع فاشل ضد العالم الخارجي، وحين يتغير هذا العالم تغييراً لا تعود تكفي معه التكيفات المكتسبة.

من العسير ان نصف مسلك الليبيدو في الهذا وفي الأنا الأعلى. فكل ما نعرفه يخص الأنا حيث تتراكم، من البداية، كل الكمية المتاحة من الليبيدو. وعلى هذا الوضع نطلق اسم النرجسية الأولية المطلقة. وهو يدوم الا ان يشرع الأنا بتوظيف الليبيدو في تمثلاته الموضوعية، وبتحويل الليبيدو النرجسي إلى ليبيدو موضوعي. ويبقى الأنا، مدى الحياة كلها، المستودع الكبير الذي منه تنطلق التوظيفات الليبيدوية نحو المواضيع والذي إليه ترتد أيضا على نحو ما تفعل كتلة وذفيةحين تمد أو تسحب شواها الكاذبة (Pseudopodia) وإنما في ملاء حالات الحب فقط يتحول الشطر الأعظم من الليبيدو إلى الموضوع، ويحل هذا الأخير، إلى حد ما، محل الأنا. ومن خصائص الليبيدو الهامة الأخرى حركيته، أي اليسر الذي ينتقل به من موضوع إلى أخر. ويقال، على العكس من ذلك، ان الليبيدو يتثبت حين يعلق، أحياناً طول الحياة، ببعض المواضيع الخاصة.

مما لا جدال فيه ان لليبيدو مصادر بدنية، وانه ينتشر في الانا بدءاً من أعضاء ومواضع مختلفة في الجسم. وهذا ما يتجلى أوضح التجلي في ذلك الشق من الليبيدو الذي يعرف، بمقتضى هدفه الغريزي، بالتهيج الجنسي. ويطلق اسم المناطق الشهوية (zones erogenous) على تلك الأجزاء من الجسم التي منها ينطلق بصورة رئيسية هذا الليبيدو، غير ان الجسم برمته يشكل، والحق يقال، منطقة شهوية. ومما أتاح لنا بوجه الخصوص ان نعرف الايروس، ومن ثم ممثله: الليبيدو، دراسة الوظيفة الجنسية التي تتطابق في عرف الجمهور، بله في نظرياتنا العلمية أيضاً، مع الايروس، وقد تأتي لنا أن نتبين الكيفية التي يتطور بها رويداً رويداً النازع الجنسي، الذي له ذلك الدور البالغ في حياتنا، بدءاً من دوافع غريزية جزئية عدة تمثل مناطق شهوية خاصة شتى.

الفصل الثالث: تطور الوظيفة الجنسية
تنزع الجنسية البشرية، في عرف التصور الأكثر شيوعاً بين الناس، إلى تحقيق الاتصال في المقام الأول بين الأعضاء الجنسية لفردين من جنس مختلف. وتعد القبلات والنظر إلى جسم الشريك ولمسة تظاهرات ثانوية وأفعالاً تمهيدية. والمفروض بالنازع الجنسي ان يظهر عند البلوغ، أي في زمن النضج الجنسي، وأن يكون هدفه التناسل. غير ان بعض الوقائع، المعروفة جيداً، لا تدخل في الإطار الضيق لمثل هذا التصور:
                          1.فمما يسترعي الانتباه ان بعض الأشخاص لا يشعرون بانجذاب إلا نحو أفراد من نفس جنسهم وإلا نحو الأعضاء التناسلية لهؤلاء الأفراد.
                          مما يسترعي الانتباه أيضاً ان اللذة التي تساور بعض الأفراد لا تصدر، وان حافظت على طابع جنسي تام، عن المناطق التناسلية أو لا تستخدمها بصورة عادية. ويسمى هؤلاء الأشخاص بالمنحرفين.

                          من الواضح، أخيراً، ان بعض الأطفال، الذين يعدون لهذا السبب منحطين، يهتمون في وقت مبكر للغاية بأعضائهم التناسلية التي تظهر عليها علائم تهيج.

لا عجب ان يكون اكتشاف هذه الوقائع الثلاث المغفلة قد أثار ضجة. فالتحليل النفسي، الذي أبرزها وشدد عليها، عاكس تيار الأفكار الرائجة شعبياً، ومن هنا جوبه بمعارضة عنيفة. وهاكم النتائج الرئيسية لذلك الاكتشاف.

                          1.  ان الحياة الجنسية لا تبدأ في عهد البلوغ، بل تعلن عن نفسها في زمن مبكر جداً عقب الولادة.

                          2. من الضروري التمييز بدقة بين مفهوم الجنسي ومفهوم التناسلي. فلفظة الجنسي لها معنى أوسع بكثير، وهي تطال وجوها عدة من النشاط لا ضلع لها بالأعضاء التناسلية.

                          3. تتضمن الحياة الجنسية الوظيفة التي تتيح الظفر بلذة من مناطق شتى في الجسم؛ وهذه الوظيفة يفترض فيها في وقت لاحق ان توضع في خدمة التناسل. غير ان هاتين الوظيفتين لا تتطابقان على الدوام تمام التطابق.

ان الأطروحة الأولى، التي هي أبعد الاطروحات الثلاث عن التوقع، هي أيضاً أولاها بالاستثئار بأعظم الاهتمام. فلئن أنكرت صفة "الجنسية" على بعض وجوه النشاط لدى صغار الأطفال، فليس ذلك إلا نزولا عند حكم رأي مسبق قديم. فوجوه النشاط هذه ترتبط بظاهرات نفسية لا نعتم ان نلتقيها، في زمن لاحق، في حياة الراشدين الحبية كالتثبيت، مثلا، على موضوع خاص، أو الغيرة، الخ. ونلحظ أيضاً ان ظاهرات الطفولة الأولى هذه تتطور وفق قواعد معينة، ويطرد تناميها وصولاً إلى آخر السنة الخامسة من العمر، حيث تبلغ ذروتها لتتوقف بعد ذلك لحين من الزمن. وعند تلك المرحلة يقف التقدم، وتقع جملة من الأشياء في لجة النسيان وتتراجع القهقرى. وبعد هذه المرحلة التي يقال لها مرحلة الكمون، تعاود الجنسية ظهورها عند البلوغ، بل يسعنا القول إنها تزهر من جديد. الحقيقية التي تواجهنا إذن هنا هي ان الحياة الجنسية ثنائية الطور في توطدها، وهذه ظاهرة لا تلحظ إلا عند الإنسان وحده، ودورها في صيرورة هذا الأخير كبيرا ولا شك.

وتخضع جميع أحداث هذه المرحلة المبكرة من النشاط الجنسي، خلا استثناءات نادرة، للنساية الطفلية، وهذه ظاهرة لا يجوز ان تقابل منا بعدم الاكتراث. وبالفعل، ان ملاحظة هذه النساية هي التي أتاحت لنا أن نكون فكرة عن أسباب الاعصبة وان نضع طريقتنا في العلاج التحليلي. وعلاوة على ذلك، أمدتنا دراسة السيرورات التطورية في طور الطفولة ببراهين تؤيد استنتاجات أخرى.

ان أول عضو يعلن عن نفسه كمنطقة شهوية ويطرح مطالب ليبيدوية على النفسية هو، منذ الولادة، الفم. فكل النشاط النفسي يتركز أولاً على إشباع حاجات هذه المنطقة. ولا شك في ان التغذية تشبع، قبل كل شيء، حاجة حفظ الذات. لكن لنحاذر الخلط بين الفيزيولوجيا والسيكولوجيا. فالطفل يدلل في وقت مبكر جداً، بتشبثه بالمص، على ان فعله هذا يعود عليه بالرضى. وهذا الشعور بالرضى، وان استمد أصله من التغذية، يبقى مع ذلك مستقلاً. وما دامت الحاجة إلى المص تنزع إلى توليد لذة، فمن الممكن ومن الواجب أن توصف بأنها جنسية.

ومنذ هذا الطور الفموي، ومع ظهور الأسنان الأولى، تبرز بعض الدوافع الغريزية السادية بصورة منعزلة. ويزداد بروزها زيادة كبيرة في الطور الثاني، الذي نسميه بالطور السادي - الشرجي، لان الشعور بالرضى يتأتى من العدوان ومن الوظيفة الإخراجية. ولئن خولنا أنفسنا الحق في إدراج النوازع العدوانية في الليبيدو، فذلك لأننا نعتقد أن السادية مزيج من دوافع غريزية ليبيدوية خالصة  ومن نوازع تدميرية خالصة، وهو مزيج يدوم أبد العمر.

أما الطور الثالث الذي نسميه بالقضيبي فيسبق مباشرة الحالة النهائية للحياة الجنسية ويكون بينه وبينها شبه كبير. ولنلحظ ان الأعضاء التناسلية الذكرية (القضيب) هي وحدها التي تلعب في هذا الطور دوراً. أما الأعضاء التناسلية الأنثوية فتبقى ردحاً طويلا من الزمن مجهولة؛ ذلك ان الطفل، حينما يسعى إلى فهم الظاهرات الجنسية، يأخذ بنظرية المخرج الموقرة، وهي نظرية لها ما يبررها من وجهة النظر التكوينية.

مع الطور القضيبي وفي أثنائه تدرك الجنسية الطفلية ذروتها وتقترب من طور أفولها. ومن الآن فصاعداً سيختلف مصير كل من الصبي والبنت. فقد بدأ كلاهما بأن وضع نشاطه الذهني في خدمة الاستقصاء الجنسي، وأخذ كلاهما بفرضية عمومية القضيب. غير أن الطريقين اللذين يسير فيهما الجنسان سيفترقان. فالصبي الصغير يدخل في الطور الاوديبي ويشرع بمعابثة قضيبه ويرفق هذه المعابثة بتخيلات ذات صلة بنشاط جنسي موضوعه الأم. غير ان الصبي الصغير لا يعتم تحت تأثير صدمتين متزامنتين: التهديد بالخصاء وملاحظة فقدان المرأة للقضيب، ان يتعرض لأعظم رضة في حياته، وهي الرضة التي تعقبها لاحقا مرحلة الكمون بكل نتائجها. اما الفتاة الصغيرة فبعد محاولات فاشلة لتقليد الصبي تدرك فقدانها للقضيب أو بالأحرى دونية بظرها، الأمر الذي يكون له آثار دائمة في تكوين طبعها؛ فهذه الخيبة الأولى في مضمار المنافسة تجعلها تعزف في كثير من الأحيان عن الحياة الجنسية عزوفاً تاماً.

من الخطأ أن نحسب أن هذه المراحل الثلاث ذات حدود مرسومة بوضوح، فقد توازي واحدتها الأخرى أو قد تتداخل معها أو قد تتطابق، وفي الأطوار المبكرة تعمل شتى الدوافع الغريزية الجزئية بصورة مستقلة عن بعضها بعضاً في سبيل كسب مقدار من اللذة. وإنما في أثناء الطور القضيبي ترضخ النوازع الأخرى لزعامة الأعضاء التناسلية ويندمج الطلب العام للذة بالوظيفة الجنسية. ولا يكتمل التنظيم إلا مع البلوغ، وفي طور رابع، هو الطور التناسلي. وتجري الأمور في هذا الطور على النحو الآتي: 1- تبقى توظيفات قديمة، شتى لليبيدو قائمة؛ 2- تندمج توظيفات أخرى في الوظيفة الجنسية لتشكل الأفعال الثانوية أو التمهيدية التي ينشأ عن إشباعها ما يمسى باللذة التمهيدية؛ 3- يجري استبعاد نوازع أخرى، إما بالقمع الشامل (الكبت)، وإما بتعديل دورها في الأنا؛ فتشكل بعض سمات طبعية أو تخضع لإسماء مصحوب بنقل للهدف.

لا تتم هذه السيرورة على الدوام بلا ضرر، وضروب الكف التي تعيق مجراها تتظاهر في شكل اضطرابات مختلفة في الحياة الجنسية. عندئذ يبقى الليبيدو مثبتاً على الحالات المميزة للأطوار المبكرة من النمو، وتحدث ضروب شتى من الحيدان عن الهدف السوي تسمى بالانحرافات. وتقدم لنا الجنسية المثلية السافرة مثالاً على اضطرابات التطور هذه ويبين التحليل ان هناك على الدوام رابطاً موضوعياً جنسياً مثلياً، وكل ما هنالك ان هذه الجنسية المثلية تبقى في اغلب الحالات كامنة. والسيرورات التي تؤدي إلى قيام حالة سوية لا تتحقق أبداً بتمامها كما لا تنعدم أبداً بتمامها. فليس لها إجمالا سوى طابع جزئي، بحيث يتوقف المال النهائي على علاقات كمية. وواضح للعيان مدى تعقيد هذا الوضع. وهكذا فإن التنظيم التناسلي وان قام، غير أنه يظل محروماً من جميع أجزاء الليبيدو التي لم يقيض لها التطور والتي لبثت مثبتة على المواضيع والأهداف القبتناسلية. ويتجلى هذا الضعف، في حالات عدم الإشباع الجنسي أو العقبات الفعلية، في نزوع الليبيدو إلى التراجع نحو التوظيفات القديمة القبتناسلية، أي إلى النكوص.

لقد انتهينا، في أثناء دراستنا الوظائف الجنسية، إلى اقتناع أول ومسبق، أو بتعبير أدق، إلى اشتباه أول بصدد نقطتين تبدو أهميتهما، في هذا المضمار كله، كبيرة. أولاً، ان الظاهرات السوية أو غير السوية التي نلاحظها (وتلك هي الفينومينولوجيا) تقتضي ان توصف من الزاوية الدينامية أو الاقتصادية (في الحالة التي نحن بصددها يتعين علينا ان نسعى إلى معرفة التوزيع الكمي لليبيدو). ثانياً، ان أسباب الاضطرابات التي ندرسها تتكشف في تاريخ تطور الفرد، أي في طفولته.

الفصل الرابع: الكيفيات النفسية

وصفنا بنية الجهاز النفسي، والطاقات أو القوى التي تفعل فيه. ورأينا، من خلال مثال بيِّن، كيف تنتظم هذه الطاقات، وفي المقام الأول الليبيدو، في وظيفة فيزيولوجية هدفها حفظ النوع. على ان هذا كله لم يكن له طابع نفسي نوعي، فيما خلا، بطبيعة الحال، الواقعة التالية التي يمكن التحقق منها بالتجربة: وهي ان الجهاز والطاقات المشار إليها هي بمثابة الأساس بالذات للوظائف التي تعرف بالوظائف النفسية وعليه، فلننظر الآن في ما هو، في عرف التصور الشائع، سمة موقوفة على الظاهرة النفسية، في ما يجعل منها ظاهرة فريدة في نوعها.

ان نقطة الانطلاق لبحثنا تتيحها لنا واقعة منقطعة النظير، لا سبيل إلى تفسيرها أو وصفها: هي الشعور. ومع ذلك، حالما يدور الكلام عن الشعور، يعرف كل واحد للحال، وبالخبرة، ما المقصود به. ويقنع الكثيرون من الناس، سواء كانوا من العاملين أم غير العاملين في الأوساط العلمية، بالافتراض ان الشعور هو وحده قوام النفسية كلها، وان ليس لعلم النفس بالتالي من مهمة في هذا الحال غير ان يميز، في داخل نطاق الفينومينولوجيا النفسية، بين الادراكات والاحساسات والسيرورات الذهنية والأفعال الإرادية، ومع ذلك يتفق رأي الجميع على ان السيرورات الشعورية لا تشكل سلسلة متصلة مكتملة، وهذا ما يوجب التسليم بوجود سيرورات فيزيقية أو بدنية مصاحبة للظاهرات النفسية، وأدنى إلى الاكتمال من سلاسل هذه الأخيرة، إذ يشتمل بعضها على سيرورات شعورية موازية بينما لا يشتمل بعضها الآخر على شيء من هذا. يبدو طبيعياً إذن ان نلح في علم النفس على هذه السيرورات البدنية، وان نرى فيها خاصية ما هو نفسي صرف، وأن نحاول تقييم السيرورات الشعورية تقييماً مغايراً. بيد ان اغلب الفلاسفة وكثيرين سواهم، يثورون على هذه الفكرة ويعلنون ان المصادرة على وجود نفسية لاشعورية خُلْف وإحالة.

مع ذلك، فهذا بالضبط ما يتعين على التحليل النفسي ان يفعله، وتلكم هي بالتحديد فرضيته الأساسية الثانية. فهو يؤكد ان السيرورات المصاحبة التي يُزعم انها من طبيعة بدنية هي بالتحديد قوام النفسية، ولا يشغل نفسه بادئ الأمر بصفة الشعور ولا ينفرد التحليل النفسي أصلا بإبداء هذا الرأي. فقد افصح مفكرون آخرون. ومنهم مثلاً ت. ليبيس (Lipps)، عن وجهة نظر مماثلة في ألفاظ مماثلة؛ ونظراً إلى أن التصور الشائع عن ماهية النفس لا يرضي الفكر، فقد كان من المحتم ان تفرض فكرة وجود لاشعور نفسها بمزيد من القوة على علم النفس، لكن على نحو شديد الإبهام والغموض، مما شلها عن التأثير في العلم.

قد يميل المرء إلى أن يرى هذا الخلاف بين التحليل النفسي والفلسفة مجرد مسألة تنصب على التعريف: "فأي سلسلة من سلاسل الظاهرات ينبغي ان نختصها بالوصف بأنها "نفسية"؟

والواقع أن هذه المسألة ارتدت اعظم الأهمية. فعلى حين ان علم نفس الشعور ما كان يسعه قط الخروج من نطاق هذه السلاسل المليئة بالثغرات والمرتبطة بكل وضوح بشيء آخر، فإن المفهوم القائل ان العنصر النفسي هو في ذاته لاشعوري أتاح لعلم النفس ان يصير فرعاً، مشابهاً لغيره من الفروع، من العلوم الطبيعية. فالظاهرات التي يدرسها علم النفس هي في ذاتها ليست اكثر قابلية للمعرفة من الظاهرات التي تدرسها العلوم الأخرى، كالكيمياء أو الفيزياء مثلاً، لكن من الممكن تعيين القوانين التي تحكمها وإخضاع علاقاتها المتبادلة وارتهان بعضها ببعضها الآخر للملاحظة على نطاق واسع وبلا ثغرات.

وهذا ما يسمى بالوصول إلى "فهم" هذه  الفئة من الظاهرات الطبيعية؛ وهو أمر يقتضي خلق فروض ومفاهيم جديدة؛ على أنه يجوز ان نعد هذه الفروض والمفاهيم المستحدثة أدلة على ما نتخبط فيه من حرج بل ينبغي ان نرى فيها إغناء لمعارفنا. ويخلق بنا ان ننظر إليها من الزاوية عينها التي ننظر منها إلى فروض العمل التي تلجأ إليها في العادة علوم طبيعية أخرى، وان نعزو إليها القيمة التقريبية نفسها. وإنما من التجارب المتراكمة والمنتخبة تنتظر هذه الفروض تعديلاتها ومبرراتها، كما تتوقع تعيينا اكثر دقة ووضوحاً. فهل لنا ان نعجب ان بقيت المفاهيم الأساسية للعلم الجديد (الدافع الغريزي، الطاقة العصبية، الخ)، بل مبادئه بالذات، بعيدة لأجل مديد من الزمن عن التعيين، مثلها في ذلك مثل مفاهيم العلوم الأقدم عهداً (القوة، الكتلة، الجاذبية، الخ)؟

ان كل علم يستند إلى مشاهدات وتجارب ينقلها إلينا جهازنا النفسي، لكن بما ان هذا الجهاز عينه هو موضوع دراستنا، فان المماثلة تقف عند هذا الحد. فمشاهداتنا نجريها بمساعدة جهاز الإدراك عينه، ونحن نعتمد تحديداً على قطع الاتصال في سلاسل السيرورات النفسية. وبالفعل، اننا نردم الفجوات باستدلالات معقولة مقبولة، ونترجمها إلى مادة شعورية. وبعلمنا هذا نضيف، ان جاز التعبير، إلى الظاهرات النفسية اللاشعورية سلسلة متممة من الوقائع الشعورية. ويقوم اليقين النسبي لعلمنا عن النفسية على القوة الاقناعية لاستدلالاتنا. ومن يبغ التعمق في هذه المسألة فسيجد أن تقنيتنا تصمد بقوة أمام كل نقد.

ينجذب اهتمامنا، في أثناء عملنا، نحو بعض التمايزات التي تشكل ما نسميه بالكيفيات النفسية. ولا حاجة بنا إلى ان نشرح هنا ما نسميه بالشعور، فهو عينه الشعور لدى الفلاسفة ولدى الجمهور العريض. وكل ما عداه من النفسية، هو في رأينا، اللاشعور. ولن نجد مفراً من أن نجري في هذا اللاشعور تمييزاً هاماً. فعدد من السيرورات تغدو، بالفعل، شعورية بسهولة، ثم تكف عن أن تكون شعورية لتعود فتصبح كذلك من جديد بلا عناء. فهي تستطيع، كما يقال، ان ترجع إلى الذاكرة وأن تستعاد وتُستظهر. ولا يغب عنا أن الحالة الشعورية هي من اكثر الحالات سرعة زوال، إذ لا يبقى الشعوري شعورياً إلا لهنيهة من الزمن. ولئن لم تؤيد ادراكاتنا هذه الواقعة، فليس لنا ان نرى في ذلك سوى تناقض ظاهر مرده إلى ان التنبيهات يمكن ان تدوم زمناً ما، بحيث يتأتى لإدراكنا لها ان يتكرر طوال هذا الزمن. ويتوضح هذا الوضع متى تفحصنا الإدراك الشعوري لسيروراتنا التفكيرية، فصحيح ان هذه السيرورات قابلة لأن تدوم، لكنها قابلة أيضاً لأن تتوقف في مثل لمح النظر. وسوف نقول في هذا القسم من اللاشعور، الذي يبقى لاشعوريا تارة، ويغدو شعورياً طوراً، إنه "قابل لان يصير شعورياً"، وسوف نحبذ ان نطلق على اسم القبشعور. وتدل التجربة انه لا وجود تقريباً لسيرورة نفسية، مهما تكن معقدة، لا يمكن لها أحياناً ان تبقى قبشعورية، وان كانت تسعى في العادة إلى الدلوف إلى الشعور، كما نقول.

ثمة سيرورات أو مضامين نفسية أخرى تواجه صعوبة اكبر في الدلوف إلى الشعور. ولا مفر من أن تُستنتج وتُكتشف ويُعثر لها على ترجمتها الشعورية. ولها تحديداً نحتفظ باسم اللاشعور بحصر المعنى. اننا نعزو إذن إلى السيروات النفسية كيفيات ثلاثاً: فهي إما شعورية وأما قبشعورية وإما لا شعورية. والتمييز الذي يمكن ان يصير شعورياً، بلا تدخل من قبلنا. واللاشعوري يمكن أن يصبح، بفضل جهودنا، شعورياً، وكثيراً ما يتراءى لنا في هذه الحال أنه يتعين علينا، للوصول إلى ذلك، التغلب على مقاومات بالغة الشدة. وعندما نقوم بهذه المحاولة على شخص آخر يخلق بنا أن نتذكر أنه لا يكفينا ان نردم فجوات إدراكاته، واننا إذ نتيح له ان يعيد بناء الأحداث لا نكون أفلحنا بالضرورة في تحويل المواد اللاشعورية المعينة عنده إلى مواد شعورية. والحق ان هذا المضمون يكون مزدوج التثبيت في نفسيته، أولا في إعادة البناء الشعوري الذي أتحناه له، وثانياً في الشكل البدائي اللاشعوري. وبمواصلتنا مجهودنا نتوصل في العادة إلى تحويل المضمون اللاشعوري إلى مضمون شعوري، فيتطابق عندئذ التثبيتان. وتتيح لنا شدة جهودنا أن نقيس المقاومة التي تعترض سبيل التحول إلى الشعور والتي تتفاوت من حالة إلى أخرى. كذلك فإن النتيجة التي نظفر بها بعد لأي في أثناء العلاج التحيلي يمكن أن تحدث بصورة تلقائية أيضاً، وذلك عندما ينقلب أحياناً مضمون لاشعوري في العادة إلى مضمون قبشعوري ثم يصبح شعورياً، وهذا ما يحدث في الحالات الذهانية على نطاق واسع. ومن ذلك نستنتج ان بقاء بعض المقاومات الداخلية هو واحد من شروط الحالة السوية. وفي أثناء النوم بصفة عامة ترتفع المقاومات ويندفع بنتيجة ارتفاعها المضمون اللاشعوري، فتتاح بالتالي للأحلام إمكانية التكون. وعلى العكس من ذلك، قد يحدث ان يبقى المضمون القبشعوري بعيد المنال لأمد من الزمن، إذ تعترض بعض المقاومات سبيل تحوله إلى الشعور، كما في حالة النسيان العابر (الهفوات). وكذلك قد ترتد الفكرة القبشعورية بصورة مؤقتة إلى الحالة اللاشعورية، وذلك هو شرط النكتة فيما يبدو. وسوف نرى ان هذا الضرب من ارتداد المضامين (أو السيرورات) إلى الحالة اللاشعورية يلعب دوراً هاماً في نشوء الأمراض العصابية.

ان نظرية الكيفيات الثلاث النفسية تبدو، في هذا الشكل العام والمبسط الذي قدمناها به، وكأنها عامل تشويش للأشياء لا عامل توضيح. بيد أنه يخلق بنا ألا ننسى أنها ليست نظرية بحصر المعنى، بل هي مجرد تقرير أولي عن وقائع مشاهدة، يسعى لا إلى تفسير هذه الوقائع، بل إلى الإحاطة بها عن أقرب قرب ممكن. ومن شأن، التعقيدات التي تتكشف لنا على هذا النحو ان تظهر للعيان كثرة العقبات التي تتعثر بها أبحاثنا. على أن كل شيء يحملنا على الاعتقاد ان معرفة العلاقات التي تقوم بين كيفيات النفسية وبين أقاليم الجهاز النفسي أو هيئاته التي نصادر على وجودها ستتيح لنا فهماً افضل للأشياء، وان تكن هذه العلاقات بعيدة بدورها عن البساطة.

ان فعل الشعور يتعلق قبل كل شيء بالادراكات التي تتلقاها أعضاء حواسنا من الخارج. هذه الظاهرة تحدث إذن، من وجهة النظر الطوبوغرافية، في الطبقة اللحائية الأكثر خارجية من الأنا. ونحن لا ننكر ان بعض المعلومات الشعورية تأتينا أيضاً من داخل جسمنا، وتتمثل بالمشاعر التي لها على حياتنا النفسية تأثير اعظم وقعاً بعد من الادراكات الخارجية. وأخيراً تصدر عن أعضاء الحواس، في ظروف شتى، علاوة على إدراكاتها الخاصة بها، مشاعر وأحاسيس مؤلمة. وهذه الانطباعات، كما نسميها تمييزاً لها عن الادراكات الشعورية، تنبعث أيضاً من أعضائنا الطرفية. والحال اننا نعتبر هذه الأعضاء استطالات لتشعبات الطبقة اللحائية، الأمر الذي يتيح لنا ان نتمسك بوجهة النظر التي تقدم بيانها. وحسبنا ان نقول ان الجسم عينه ينوب مناب العالم الخارجي بالنسبة إلى الأعضاء الطرفية، المستقبلية للأحاسيس والمشاعر.

لكم كان الأمر سيبدو بسيطاً لو أمكن لنا ان نعين موقع السيرورات الشعورية في محيط الأنا، وموقع كل الباقي اللاشعوري في الأنا، وربما كان هذا واقع الحال لدى الحيوانات؛ غير ان الأمور اكثر تعقيداً لدى الإنسان بالنظر إلى وجود عمليات باطنة في الأنا قابلة أيضاً لان تغدو شعورية. واللغة هي التي تتيح إمكانية إقامة ارتباط وثيق بين مضامين الأنا والبقايا الذاكرية من الادراكات البصرية وعلى الأخص السمعية. ومن هنا يكون المحيط الادراكي للطبقة اللحائية قابلاً للتنبيه، من الداخل، على نطاق أوسع بكثير. ومن الممكن أيضاً لبعض السيرورات الباطنة، نظير تيارات التمثلات والسيرورات التفكيرية، ان تغدو شعورية. ولذلك يقوم جهاز خاص يوكل إليه التمييز بين الاحتمالين. وهو الذي يتولج بما نسميه امتحان الواقعية. وبذلك تبطل معادلة الإدراك- الواقع (العالم الخارجي). كما ان الأخطاء، التي تحدث من الآن فصاعداً بيسر وسهولة، والتي لا يكاد يخلو منها في العادة حلم، تسمى بالهلوسات.

ان كيفية داخل الأنا، الذي يحتوي في المقام الأول، على السيرورات التفكيرية، هي القبشعور. والقبشعور سمة مميزة للأنا وموقوفة عليه حصراً. على أنه يصح الافتراض بأن الارتباط بالآثار الذاكرية للكلام هو شرط الحالة القبشعورية، فهذه الحالة مستقلة بالأحرى عن شرط كهذا، على الرغم من أن انشراط سيرورة ما بالكلام يتيح لنا أن نستنتج على وجه اليقين ان هذه السيرورة من طبيعة قبشعورية. ان الحالة القبشعورية، المتسمة من جانب أول بالقدرة على بلوغ الشعور، ومن الجانب الثاني بارتباطها بالآثار الكلامية، لهي حالة خاصة لا تستنفد هاتان الصفتان طبيعتها. وبرهاننا على ذلك ان أجزاء كبيرة من الأنا، وعلى الأخص من الانا الأعلى، الذي لا يمكن أن ننكر عليه طابعه القبشعوري، تبقى بالإجمال لاشعورية، بالمعنى الوصفي للكلمة. واننا لنجهل العلة التي تعّين ان يكون الأمر كذلك، ولسوف نحاول فيما بعد أن نتصدى لمعضلة الطبيعة الحقيقية للقبشعور.

اما اللاشعور فهو الكيفية الوحيدة السائدة داخل الهذا. وتجمع بين الهذا واللاشعور روابط وثيقة مماثلة لتلك التي تربط بين الانا والقبشعور، بل ان الرابط هنا اكثر حصرية. ولو القينا نظرة استرجاعية على تاريخ فرد من الأفراد وعلى تاريخ جهازه النفسي، لتأتى لنا ان نجري في الهذا تمييزاً هاماً ففي الأصل كان الهذا هو كل شيء. وقد تطور الانا بدءاً من الهذا تحت التأثير المتصل للعالم الخارجي. وفي أثناء هذا التطور الوئيد انتقلت بعض مضامين الهذا إلى الحالة القبشعورية، فاندمجت على هذا النحو بالأنا. بينما بقيت مضامين أخرى بلا تغيير في الهذا، فشكلت نواته التي يعسر النفاذ إليها. غير أن الانا الفتي والضعيف نبذ إلى اللاشعور، في خلال هذا التطور، بعض المضامين التي سبق له ان دمجها، وسلك المسلك عينه حيال انطباعات جديدة عدة كان في مقدوره استقبالها، بحيث ما تسنى لهذه الانطباعات المنبوذة ان تخلف أثراً إلا في الهذا. وإنما على هذا القسم من الهذا نطلق، بالنظر إلى أصله، اسم المكبوت، ولا يتأتى لنا على الدوام أن نميز تمييزاً دقيقاً واضحاً بين هذين الضربين في مضمون الهذا، وليس هذا بأمر ذي بال أصلاً، حسبنا ان نقول ان الهذا يتضمن مضامين فطرية ووقائع مكتسبة في مجرى تطور الأنا.

نحن نسلم إذن بانقسام طوبوغرافي للجهاز النفسي إلى أنا والى هذا، وهو انقسام يناظر كيفيتي القبشعور واللاشعور. ونحن نعتقد أيضاً ان هاتين الكيفيتين هما مجرد مؤشر إلى الفارق وليستا جوهره.

فما الطبيعة الحقيقية إذن للحالة التي تتجلى في الهذا بكيفيتها اللاشعورية، وفي الانا بكيفيتها القبشعورية، وما قوام هذا الاختلاف؟

اننا نقر بأننا لا ندري من الأمر شيئاً،  وليس ثمة سوى بصيص باهت يضيء الظلمات الدامسة لمعرفتنا. فهنا على وجه التحديد نقترب من اللغز الحقيقي للظاهرات النفسية الذي لم يجد حله بعد فجرياً على معطيات علوم طبيعية أخرى، نسلم بأن كمية معينة من الطاقة تفعل فعلها في الحياة النفسية، ولكن لا تتوفر لنا أية قرائن قمينة بأن تسمح لنا بمقارنة هذه الطاقة بغيرها. ويبدو أن الطاقة العصبية أو النفسية توجد في شكلين: وأحدهما سهل الحركة، وثانيهما، على العكس، مقيد. واننا لنتكلم عن توظيفات (investments) وعن توظيفات فائضة (surinvestments) للمضامين النفسية، بل نذهب إلى حد الافتراض بأن كل "توظيف فائض" يعين ضرباً من تركيب لسيرورات شتى، تتحول أثناءه الطاقة الحرة إلى طاقة مقيدة. وعند هذا الحد تتوقف معرفتنا، لكننا نعتقد جازمين ان الفارق بين الحالة اللاشعورية والحالة القبشعورية يرجع، بدوره، إلى علاقات دينامية مماثلة، وهذا قمين بأن يفسر لماذا يمكن لإحدى الحالتين ان تتحول، تلقائياً أو بجهودنا، إلى الأخرى.

لقد توصل العلم التحليلي، رغم كل هذه الشكوك، إلى تقرير حقيقة واقعة جديدة. فقد أبان ان السيرورات التي تدور في اللاشعور أو الهذا تخضع لقوانين مغايرة للقوانين التي تخضع لها السيروارات التي تدور في الانا القبشعوري. ونحن نطلق على مجمل هذه القوانين اسم السيرورة الأولية، بالتعارض مع السيرورة الثانوية التي تحكم ظاهرات القبشعور أو الأنا. وعلى هذا، تكون دراسة الكيفيات النفسية قد أثبتت في النهاية أنها ليست عقيمة كل العقم.

ترجمة: جورج طرابيشي
فرويد: مختارات من "قلق في الحضارة"

-3-

لم تزدنا دراستنا عن السعادة حتى الآن معرفة بشيء لا يعلمه الناس جميعا. وإذا أردنا ان نتممها هنا بالبحث في علة المصاعب التي تحول دون ان يصير الناس سعداء على نحو ما يحلو لهم، فان حظنا في اكتشاف شيء جديد لا يبدو اكبر بكثير. فلقد سبق أن أعطينا الجواب بإشارتنا إلى المصادر الثلاثة التي ينبع منها الألم الإنساني: قوة الطبيعة الساحقة، شيخوخة الجسم البشري، وأخيرا عدم كفاية التدابير الرامية إلى تنظيم العلاقات بين البشر، سواء أضِمْنَ الأسرة أم الدولة أم المجتمع. وفيما يتعلق بالمصدرين الأولين لا مجال لترددنا طويلا، إذ أن حصافتنا تجبرنا على الاعتراف بواقعيتهما، مثلما تجبرنا على الرضوخ لما لا مهرب منه. فنحن لن نحكم أبدا تمام الإحكام سيطرتنا على الطبيعة، وجسمنا، الذي هو ذاته عنصر من عناصر الطبيعة، سيبقى ابد الدهر قابلا للفناء ومحدودا في مقدرته على التكيف، كما في سعة وظائفه. لكن الإقرار بهذه الحقيقة لا يجوز ان يحكم علينا بالشلل: بل على العكس، إذ انه يعّين لنشاطنا الوجهة التي ينبغي عليه ان يسلكها. فلئن كنا لا نستطيع إلغاء الآلام كافة، ففي مقدورنا على الأقل التخلص من بعضها وتسكين بعضها الآخر: وبرهاننا على ذلك تجربة لها من العمر ألوف السنين. بيد أننا نلاحظ موقفا مختلفا تجاه المصدر الثالث للألم، ولا يسعنا أن ندرك لماذا لا توفر المؤسسات التي أنشأناها بأنفسنا الحماية والمنفعة لنا جميعا. وعلى كل حال، لو أمعنا التفكير في الفشل المحزن الذي تُمنَى به، في هذا المجال على وجه التحديد، إجراءاتنا للوقاية من الألم، لشرعت تراودنا الشكوك بأن ثمة قانونا ما للطبيعة التي لا تقهر يتواري هنا أيضا عن الأنظار، وان هذا القانون يتعلق هذه المرة بتكويننا النفسي بالذات.

وإذا ما تصدينا لدراسة احتمال كهذا، اصطدمنا على الفور بتوكيد طالما طرق آذاننا، ولكنه يستأهل ان نتوقف عنده لأنه عجيب ومدهش حقا. فهو يزعم أن ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي ان نحّمله إلى حد كبير تبعة بؤسنا، وأن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية سيكفل لنا قدرا من السعادة اكبر بكثير. انني اعتبر هذا التوكيد عجيبا ومدهشا لأنه من المؤكد الثابت بالرغم من كل شيء، أيا يكن التعريف الذي نلبسه لمفهوم الحضارة، ان كل ما نسعى إلى تجنيده لحمايتنا من تهديدات الألم الناجم عن هذا أو ذاك من المصادر الآنفة الذكر إنما هو من صنع هذه الحضارة عينها.

كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية إلى الأخذ، على ما في ذلك من غرابة، بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ اعتقد ان استياء دفينا، من منشأ ناء للغاية، كان يتجدد في كل طور من أطواره، هو الذي حث على تلك الإدانة التي كانت تتكرر بانتظام بفضل ظروف تاريخية مؤاتية. ويخيل إلي انني قادر على معرفة ما كان الأخير وما قبل الأخير من تلك الظروف، لكنني لست ضليعا بما فيه الكفاية في العلم لأتتبع تسلسلها عبر الماضي السحيق للجنس البشري. حسبي أن أشير إلى أن عامل العداء للحضارة كان من أسباب انتصار المسيحية على الوثنية، إذ جرى وثيق الربط بينه وبين الخفض من قيمة الحياة الأرضية كما نادى به المذهب المسيحي. وقد قام ما قبل الأخير من تلك الظروف التاريخية حين أتاح تطور الأسفار الاستكشافية إمكانية الاتصال بالأجناس والشعوب المتوحشة. فقد تصور الأوروبيون، نظرا إلى عدم توفر الملاحظات الكافية والتفهم الصحيح لعادات المتوحشين وأعرافهم، ان هؤلاء الأخيرين يحيون حياة بسيطة وسعيدة، فقيرة بالحاجات، على نحو ما عاد متاحا للمستكشفين الأكثر تَمَدْيُناً الذين يزورونهم. وقد جاءت التجربة اللاحقة لتصحح، في اكثر من نقطة، ذلك الحكم. فلئن كانت الحياة اسهل عليهم بالفعل، فقد ارتكب الأوروبيون مرارا وتكرارا خطأ عزو خفة الأعباء هذه إلى غياب المطالب البالغة التعقيد والناجمة عن الحضارة، مع أن الفضل فيها كان يعود، بوجه الإجمال، إلى كرم الطبيعة والى جميع التسهيلات التي تتيحها للمتوحشين لتلبية حاجاتهم الحيوية. أما آخر تلك الظروف التاريخية فقد قام حين تعلمنا أن نمّيز أواليات العُصاب الذي هدد بتخريب القسط الضئيل من السعادة الذي فاز به الإنسان المتمّدن. وقد اكتشف الناس عندئذ ان الإنسان يصير عصابيا لأنه لا يستطيع ان يتحمل درجة العزوف والزهد التي يتطلبها المجتمع باسم مثله الأعلى الثقافي، وخلصوا إلى الاستنتاج بأن إلغاء تلك المطالب أو تخفيفها يعني رجوعا إلى إمكانيات السعادة.

هناك سبب آخر أيضا للخيبة ولانقشاع الأوهام. فخلال الأجيال الأخيرة تمكنت البشرية في مجال العلوم الفيزيائية والطبيعية وتطبيقاتها التقنية من تحقيق تقدم خارق للمألوف، وقد بسطت بنتيجة ذلك سيطرتها على الطبيعة على نحو ما كان يمكن تصوره قبل اليوم. وسمات هذا التقدم معروفة للجميع إلى حد يغني حتى عن تعدادها. وبنو الإنسان فخورون بتلك الفتوحات، وهم في فخرهم هذا محقون. بيد انه يخيل إليهم ان هذه السيطرة الحديثة العهد على المكان والزمان، وهذا الاسترقاق لقوى الطبيعة، وهذا التحقيق لصبوات وأماني لها من العمر آلاف السنين، لم تزد البتة من مقدار المتعة التي ينتظرونها من الحياة. ومن ثم، لا يعمر أفئدتهم الإحساس بأنهم صاروا نتيجة ذلك أكثر سعادة، وقد كان من المفروض ان يكتفوا بالاستنتاج بأن السيطرة على الطبيعة ليست شرط السعادة الوحيد، كما انها ليست الهدف اليتيم لعملية التمدين. لا أن يستنتجوا ان تقدم التقنية غير ذي قيمة بالنسبة إلى "اقتصاد" سعادتنا. وبالفعل، ألن نميل إزاء الاستنتاج الأخير إلى الاعتراض بقولنا: أليس مكسبا إيجابيا من اللذة، الا يزداد بلا لبس شعوري بالسعادة، إذا ما أمكنني أن أسمع متى ما شئت صوت ولدي الذي يقطن على بعد مئات الكيلومترات، أو إذا ما أتمكنني ان اعلم فور نزول صديقي من الباخرة التي كانت تقله أن رحلته الطويلة والشاقة قد انتهت بسلام. أهو شيء تافه ان يكون الطب قد افلح في تخفيض نسبة وفيات الأطفال، وفي تقليص أخطار إصابة الناس بالعدوى تقليصا يبعث على الدهشة حقا؟ أهو شيء عديم القيمة ان يكون الطب عينه قد نجح في إطالة الأمد المتوسط لحياة الإنسان المتمدن بعدد غير هين من السنين؟ أنه لفي مستطاعنا أن نضيف إلى هذه المحاسن، التي ندين بها لعصر التقدم العلمي والتقني هذا، على كثرة ما يتعرض له من ذم وتحقير، قائمة بكاملها.... ولكن هو ذا صوت النقد المتشائم يعلو ويرتفع! الصوت الذي يبث في الآذان ان غالبية هذه التسهيلات هي من طبيعة مماثلة لتلك "اللذة الرخيصة" التي تطريها النكتة المعروفة التالية: عرِّض ساقك العارية للبرد، خارج الفراش، فتفوز فيما بعد بـ "لذة" إعادتها إلى الدفء! فلولا السكك الحديدية، التي ألغت المسافة، هل كان أولادنا غادروا مسقط رأسهم، وهل كانت ستوجد، من ثم، حاجة إلى التلفون لسماع صوتهم؟ ولولا الملاحة عبر المحيطات لما كان صديقي فكر بالسفر، ولكنت استغنيت عن التلغراف للاطمئنان على مصيره. وما الفائدة من تقليص وفيات الأطفال إذا كان هذا التقليص ذاته يفرض علينا ان نضبط أنفسنا ضبطا شديدا في الإنسال، وإذا كنا بعد كل شيء لا نربي عددا من الأطفال اكبر من العدد الذي كنا نربيه أيام لم يكن لقواعد حفظ الصحة من وجود، وهذا بينما طرأ من جهة أخرى تعقيد على شروط حياتنا الجنسية في الزواج وانتفى في أغلب الظن التأثير الإيجابي للانتخاب الطبيعي؟ وماذا نجني أخيرا من طول أمد الحياة، إذا كانت هذه الحياة عينها ترهق كواهلنا بأعباء ومشاق لا تقع تحت حصر، وإذا كانت فقيرة بالأفراح، غنية بالآلام، إلى حد نرحب معه بالموت بوصفه خلاصا سعيدا؟

يبدو انه بحكم المؤكد اننا لا نشعر بأننا في يسر من امرنا وهناء في ظل حضارتنا الراهنة، لكن من العسير جدا ان نحكم هل شَعَرَ أهل الماضي، والى أي حد، بأنهم أسعد حالا، وان نقيّم بالتالي الدور الذي لعبته شروط حضارتهم. اننا ننزع على الدوام إلى تصور البؤس من زاوية موضوعية، وبعبارة أخرى، ننزع على الدوام إلى ان ننتقل بالفكر، مع حفاظنا على مطالبنا وسياستنا الخاصة، إلى شروط الثقافات القديمة لنتساءل عندئذ عن فرص السعادة أو التعاسة التي كانت ستتاح لنا في ظلها. وهذه الكيفية في النظر إلى الأمور، ان تكن موضوعية في الظاهر لأنها لا تقيم اعتبارا لتحولات الحساسية الذاتية، فهي في جوهرها ذاتية بكل القدر الممكن، لأنها تُحِل استعداداتنا النفسية محل سائر الاستعدادات الأخرى المجهولة لدينا. على ان السعادة هي، على كل حال، شيء مغرق في الذاتية. فمبلغا ما بلغ بنا النفور والاشمئزاز من بعض المواقف والأوضاع، كوضع المحكوم بالأشغال الشاقة في سالف الأزمان، أو وضع الفلاح في حرب الثلاثين عاما، أو وضع ضحية محاكم التفتيش المقدس، أو وضع اليهودي المعرض للمجازر الجماعية، فانه يتعذر علينا على كل حال ان نضع أنفسنا محل أولئك التعساء، وأن نتكهن بالتشوهات التي أنزلتها عوامل نفسية متباينة بقدراتهم على استقبال الفرح والوجع. وفي عداد هذه العوامل لنذكر الحالة البدائية من اللاحساسية البليدة، والتَبَلّه التدرجي، وقطع حبل كل رجاء، وأخيرا مختلف الطرائق الفجة أو المهذبة في إلهاء النفس. وفي حالة حدوث ألم فائق الشدة، يمكن ان تتدخل أواليات نفسية معينة للحماية من الوجع. لكن يخيل إلي انه لا جدوى من مواصلة التبّحر في هذا الجانب من المشكلة.

لقد آن الأوان للنظر في جوهر تلك الحضارة التي وضعت قيمتها، بصفتها مصدرا للسعادة، موضع تشكيك. ولن نطالب بصيغة تحددها في قليل من الألفاظ قبل ان نكون قد فزنا ببعض الجلاء من فحصها وتحليلها. حسبنا ان نكرر القول بأن مصطلح الحضارة يشير إلى جملة الصنائع والتنظيمات التي يبعدنا تأسيسها عن حالة أسلافنا البهيمية والتي تفيد في غرضين: حماية الإنسان من الطبيعة، وتنظيم علاقات البشر فيما بينهم. ولمزيد من الوضوح سنفحص واحدة تلو الأخرى سمات الحضارة كما تتبدى في المجتمعات الإنسانية. وسوف يكون هادينا بلا تحفظ أثناء هذا الفحص اللغة الذائعة، أو كما يقال أيضا "الحس اللغوي"، مطمئنين إلى أننا بذلك لا نغمط حق تلك الحدوس العميقة التي ما تزال تتأبّى إلى اليوم على الترجمة إلى مصطلحات مجردة.

ان التوطئة لموضوعنا سهلة ميسورة، فنحن نسلّم بصفة الحضارة لجميع النشاطات والقيم النافعة للإنسان لتطويع الأرض خدمة له ووقاية من جبروت قوى الطبيعة: وهذا المظهر من مظاهر الحضارة هو أقلها إثارة للشبهات وللجدل. وإذا أردنا أن نوغل بعيدا في الماضي، فسنذكر من بين الوقائع الحضارية الأولى استعمال الأدوات، وتدجين النار، وتشييد المساكن. وتحتل ثانية هذه الوقائع مكانا رفيعا باعتبارها إنجازا خارقا للمألوف ولا سابق له. أما الواقعتان الأخريان فقد فتحتا للإنسان طريقا ما لبث فيما بعد أن غدا السير فيها قدما إلى الأمام، ومن السهل أصلا تخمين الدوافع التي كانت تحضه على ذلك. وبفضل ما بات في متناول الإنسان من أدوات، جَوَّد أعضاءه (المحركة والحواسية على حد سواء) أو وسّع توسيعا مرموقا حدود مقدرتها. وزودته الآلات ذات المحرك بقوى جبارة تتساوى وقوى عضلاته بالذات من حيث سهولة توجيهها والتحكم بها. وبفضل السفينة والطائرة، ما عاد لا الماء ولا الهواء يعيقان تنقله وتسفاره. وبالنظارات صحح عيوب عدسات عينيه، وأتاح له المقراب (التلسكوب) ان يرى إلى مسافات بعيدة، مثلما أتاح له المجهر (الميكروسكوب) ان يتخطى الحدود الضيقة التي ترسمها لبصره بنية شبكية عينه. وباكتشاف آلة التصوير الفوتوغرافي كفل لنفسه أداة تثبت الظواهر الزائلة، كما ان اسطوانة الحاكي تؤدي له الخدمة عينها فيما يتعلق بالانطباعات الصوتية العابرة، وما هذان الجهازان في الواقع الا تجسيد مادي للمقدرة التي وُهبت له على التذكّر، وبعبارة أخرى، ما هما الا تجسيد لذاكرته. وبفضل الهاتف صار يسمع من بعيد، من مسافات كانت الحكايات الخرافية ذاتها تقرّ بأنها غير قابلة للاجتياز. وفي الأصل، كانت الكتابة لغة الغائب، وكان المنزل السكني بديل جسم الأم، ذلك البيت الأول الذي يبقى الحنين إليه أبد الدهر على الأرجح، والذي كان المرء يعرف الأمان فيه ويشعر بأنه في يسر من أمره وهناء.

لكأنها حكاية من حكايات الجنيات! وبالفعل، ان تلك المنجزات والصنائع التي عرف الإنسان بفضل علمه وتقنيته كيف يغني بها هذه الأرض التي رأى النور على سطحها أول ما رآه مخلوقا صغيرا قريبا إلى البهيمة والتي لا يزال على كل سليل من عرقه أن يدلف إليها في حالة الرضيع الذي لا حول له ولا قوة - يا لبوصة الطبيعة أقول: ان تلك المنجزات والصنائع ان هي الا التحقيق المباشر لجميع، كلا، لمعظم، الأماني التي عبرت عنها حكايات الجنيات تلك. وفي وسع الإنسان، بلا جدال، ان يعتبرها فتوحات للحضارة. لقد كان كوّن لنفسه، منذ سحيق العصور، مثلا أعلى لكلية القدرة ولكلية العلم، ثم جسده في آلهته. وعزا إلى هذه الآلهة كل ما لبث عَصّيا أو محظورا عليه. في مقدورنا إذن ان نقول ان تلك الآلهة كانت "مُثُلا عليا حضارية". وما دام الآن قد اقترب غاية الاقتراب من هذا المثل الأعلى، فقد أمسى هو نفسه شبه إله. لكن فقط، في الحقيقة، على المنوال الذي يصل به بنو الإنسان بوجه عام إلى أنماطه الخاصة من الكمال، أي على نحو منقوص: بصدد بعض النقاط لا يصلون إلى هدفهم بالمرة، وبصدد بعضها الآخر يصلون إلى نصف ما يريدون. لقد غدا الإنسان، ان جاز القول، ضربا من "إله رمامي"، إلها يستأهل بالتأكيد كل إعجاب ان كان مسلحا بأعضائه المساعدة، لكن هذه الأعضاء لم تنبت معه وكثيرا ما تسبب له ألما بالغا. وعلى كل حال، من حقه أن يتعزى بفكرة ان ذلك الارتقاء لن ينتهي مع عام اليُمن والبركة، عام 1930. فالمستقبل البعيد سيأتينا، في هذا الميدان من ميادين الحضارة، بتقدم جديد ومرموق، وعلى قدر من الأهمية يتعذر في أغلب الظن التنبؤ به من الآن. وسوف يعزز التقدم الآتي ملامح الإنسان الإلهية اكثر فاكثر. بيد اننا لا نريد ان ننسى، وهذا لصالح دراستنا، أن أي إنسان معاصر لا يشعر بأنه سعيد، مهما قارب أن يكون إلها.

اننا نتعرف المستوى الحضاري الرفيع لقطر من الأقطار حين نلاحظ ان كل شيء فيه مدروس بعناية ومنظم بفاعلية من أجل استغلال الإنسان للأرض، وان حماية هذا الإنسان من قوى الطبيعة مؤمنة ومضمونة، وبكلمة واحدة، ان كل شيء فيه مدَّبر ابتغاء نفعه. وفي قطر كذاك تُنظّم مجاري الأنهار المهددة بالفيضان، وتُساق المياه المتاحة عن طريق شبكة من الأقنية إلى الأماكن التي لا تتوفر فيها. وتُفلح الأرض بعناية، وتُزرع فيها نباتات موائمة لطبيعتها، وتُستخدم الثروات المنجمية المستخرجة على نحو متواصل من باطن الأرض في صنع أدوات وآلات لها ضرورتها الحيوية. وتُربل فيه وسائل المواصلات، وتكون سريعة وأمينة، وتُستأصل شأفة الوحوش الكاسرة والخطرة، وتزدهر تربية الحيوان. لكننا نطالب الحضارة بالمزيد، ونتمنى ان نرى تلك الأقطار عينها تتصدى على نحو كريم لتلبية مطالب أخرى. وبالفعل، اننا لا نتردد في ان نحيي أيضا، كما لو أن مبتغانا الآن التنكر لأطروحتنا الأولى، كل اهتمام يصدر عن البشر تجاه الأشياء التي لا نفع منها يرجى أو حتى تلك التي لا جدوى منها البتة في الظاهر، على اعتبار ان مثل هذا الاهتمام هو مؤشر من مؤشرات الحضارة، ومن قبيل ذلك حينما نشاهد في هذه المدينة أو تلك الحدائق العامة، تلك الفسحات الضرورية لها بصفتها مستودعات للهواء الطلق وملاعب، وقد جُمّلت أيضا بمسالك مُزهّرة، أو نرى نوافذ البيوت وقد زُينّت بأصص الأزهار. ان هذا "اللامجدي" الذي نطالب الحضارة بأن تعترف بكامل قيمته ما هو، وهذا ما نتبينه للحال، الا الجمال. اننا نطالب الإنسان المتمدن بأن يكرّم الجمال حيثما التقاه في الطبيعة، نطالب بأن تستنفر الأيدي كل ما تتمتع به من مهارة في تزيين الأشياء به. وهيهات ان نستنفذ لائحة المطالب التي نتقدم بها إلى الحضارة. ونحن نرغب أيضا في ان نرى علائم النظافة والنظام. اننا لا نكوّن فكرة رفيعة عن التنظيم المديني لبلدة في الريف الإنكليزي، في زمن شكسبير، حين نقرأ أنه كانت ترتفع، أمام باب منزل أبويه في ستراتفورد، كومة كبيرة من الزبل. واننا لنغتاظ ونتكلم عن "البربرية"، أي نقيض الحضارة، حين نشاهد دروب "وينرفالد" [غابات أخّاذة حول فيينا] وقد انتشر فيها مزق الأوراق. ان كل وساخة تبدو لنا متنافية مع حالة التمدين. ثم اننا نسحب على الجسم البشري مطلب النظافة، ويأخذنا العجب من علمنا ان الملك - الشمس نفسه كانت تفوح منه رائحة كريهة، وأخيرا نهز رأسنا تعجبا عندما نعاين في ايزولا بيللا الطشت الصغير الذي كان نابليون يستخدمه لاغتساله الصباحي. بل اننا لا ندهش البتة عندما نسمع ان استعمال الصابون هو المقياس المباشر لدرجة التحضر. وكذلك الحال فيما يتعلّق بالنظام الذي يرتبط هو الآخر، شأنه شأن النظافة، بالتدخل الإنساني. ولكن لئن لم يكن في وسعنا أن نتوقع أن تسود النظافة في قلب الطبيعة، فان هذه الأخيرة تعلمنا بالمقابل النظام، هذا إذا شئنا ان نصيخ السمع إليها، فملاحظة الانتظام العظيم للظاهرات الفلكية لم تقدم للإنسان مثالا وقدوة فحسب، بل أيضا الصورة الأولى الضرورية لإدخال النظام على حياته. ان النظام ضرب من "الإكراه على التكرار" وهذا الإكراه هو الذي يقرر، مستفيدا من التنظيم الذي يقام ليدوم، متى وأين وكيف يتوجب فعل هذا الشيء أو ذاك، وبذلك يوفر الإنسان على نفسه جهد التردد وتلمس الطريق متى ما تماثلت الظروف. والنظام، الذي لا مراء البتة في محاسنه، يسمح للإنسان بأن يستعمل على افضل نحو المكان والزمان، وبأن يقتصد في الوقت نفسه في قواه الجسمانية. ومن حقنا ان نفترض ان النظام تجلّى من البدء وتلقائيا في الأفعال الإنسانية، وعجيب حقا ألا تكون الأمور قد جرت على هذا النحو، بل الأعجب من ذلك أن يكون الإنسان قد أظهر ميلا طبيعيا إلى الإهمال واللانظام وعدم الدقة في العمل، وأن تكون الحاجة قد دعت إلى بذل جهود متضاعفة لحمله، بواسطة التربية، على الاحتذاء بمثال السماء.

يحتل الجمال والنظافة والنظام مكانة خاصة، بكل تأكيد، بين مطالب الحضارة. وإذا لم يكن للإنسان ان يزعم أن أهميتها تماثل أهمية السيطرة على قوى الطبيعة، وهذه السيطرة حيوية جدا بالنسبة إلينا، أو تعادل أهمية عوامل أخرى ما يزال علينا أن نتعلم كيف نتعرفها، فليس لإنسان أيضا ان يخفض منزلتها بطوع إرادته إلى مرتبة الأمور الثانوية. ومثال الجمال، الذي لا يسعنا أن نقبل بنفيه من عداد مشاغل الحضارة واهتماماتها، يكفي وحده لكي يبين لنا أن الحضارة لا تضع نصب عينيها النافع وحده دون غيره. وعلى كل، فان نفعية النظام بديهية لا مماراة فيها. أما النظافة، فلا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أن علم الصحة يقتضيها هو الأخر، ومن المباح لنا أن نفترض ان هذه العلاقة لم تكن مجهولة من الناس، حتى قبل تطبيق العلم في مجال الوقاية من الأمراض. بيد أن مبدأ النفعية لا يفسر تمام التفسير ذلك الميل: ولا بد أن ثمة عاملا آخر يلعب دوره في الموضوع.

لكننا لا نستطيع أن نتخيل سمة أكثر تمييزا للحضارة من القيمة المعلقة على النشاطات النفسية العليا من إنتاجات فكرية وعلمية وفنية، ولا مؤشرا ثقافيا موثوقا كالدور القيادي المنسوب إلى الأفكار في حياة البشر. وبين هذه الأفكار تحتل الأنظمة الدينية أرفع مكانة في سلّم القيم. وقد حاولت في موضع آخر أن أسلط الضوء على بنيتها المعقدة. وتصطّف إلى جانبها في المرتبة الثانية التأملات الفلسفية، ثم أخيرا ما يمكن ان يمسى بـ "الانشاءات المثالية" لبنى الإنسان، أي الأفكار المتعلقة بإمكان تحسين وضع الفرد أو الشعب أو البشرية قاطبة، أو المطالب والصبوات التي تنهض فيهم على هذا الأساس. وكون إبداعات الفكر تلك متداخلة أشد التداخل، لا منفصلة بعضها عن بعض، يجعل صياغتها والتعبير عنها واشتقاقها السيكولوجي مهمة عويصة وشائكة. وإذا سلمنا بصورة بالغة العمومية بأن نابض كل نشاط إنساني هو الرغبة في الوصول إلى هدفين متقاربين، النافع واللذيذ، توجّب علينا أن نطبق هذا المبدأ نفسه على التظاهرات الثقافية المطروحة على بساط النقاش هنا، على الرغم من أن النشاطين العلمي والفني هما وحدهما اللذان يؤكدان من بين هذه التظاهرات صحّة ذلك المبدأ. ولكن لا سبيل إلى الشك في أن التظاهرات الأخرى لا تتطابق هي الأخرى مع حاجات إنسانية بالغة القّوة، حتى وان لم تكن متطورة الا لدى أقلية قليلة فقط. كذلك ينبغي الا تضللنا أحكام القيمة التي تطلق على بعض من تلك المثل العليا أو على بعض من تلك الأنظمة الدينية والفلسفية. فسواء أحاولنا ان نرى فيها أرفع خلق وأسمى إبداع للفكر الإنساني، أم أصررنا على أن نرى فيها مجرد تخريف وهذر يدعوان للرثاء، فإننا مضطرون في الأحوال جميعا إلى الإقرار بأن وجودها، وعلى الأخص رجحان كفتها وتفوقها، يدل على مستوى رفيع من الثقافة والحضارة.

ان آخر سمات الحضارة، ولكن ليس بكل تأكيد أدناها شأنا، تتجلى في الكيفية التي تنظم بها علاقات البشر فيما بينهم. هذه العلاقات، المسماة بالاجتماعية، تخص الكائنات البشرية إما بصفتهم جيرانا لبعضهم البعض، وإما بصفتهم أفرادا يبذلون ما أوتوا من قوى كي يتساعدوا ويتعاضدوا، وإما بصفتهم مواضيع جنسية لأفراد آخرين، وإما بصفهتم أعضاء في أسرة أو في دولة. وبوصولنا إلى هذه النقطة، يصبح من العسير علينا للغاية ان نتمثل ما المقصود في خاتمة المطاف بمصطلح "المتمدن"، من دون أن نتأثر على كل حال بالمطالب التي يحددها هذا المثل الأعلى أو ذاك. وربما لجأنا بادئ ذي بدء إلى التفسير التالي: إن العنصر الحضاري يقوم بقيام المحاولة الأولى لتنظيم تلك العلاقات الاجتماعية. فان لم تقم مثل هذه المحاولة، خضعت تلك العلاقات الاجتماعية للعسف الفردي، وبعبارة أخرى، تولى تنظيمها الفرد الأقوى جسمانيا على نحو يخدم مصالحه الخاصة ودوافعه الجنسية الغريزية. ولن يتغير شيء إذا ما وجد ذلك الفرد الأقوى فردا أقوى منه. ولا تغدو الحياة المشتركة ممكنة الا إذا توصلت الغالبية إلى تشكيل تجمع أقوى من قوة كل عضو من أعضائه على حدة، والى المحافظة على تلاحم متين في مواجهة كل فرد على حدة. وعندئذ يقف سلطان هذه الجماعة بوصفه "حقا" موقف المعارضة تجاه سلطان الفرد المرذَّل والموصوف بالقوى الغاشمة. وبحلول السلطان الجماعي محل القوة الفردية، تخطو الحضارة خطوة حاسمة إلى الأمام. ويكمن الطابع الأساسي لحضارة هذه المرحلة في كون أعضاء الجماعة يحدون من إمكانات التذاذهم بينما كان الفرد المفرد يجهل كل تضييق من هذا النوع. هكذا يكون المطلب الحضاري التالي هو مطلب "العدل"، أي الاطمئنان إلى ان النظام الشرعي الذي تمّ إقراره لن يُنتهك أبدا لصالح فرد مفرد. ونحن لا نصدر هنا حكما على القيمة الأخلاقية لمثل هذا "الحق". وإذ تواصل الحضارة ارتقاءها، تسلك طريقا تنزع خلاله إلى الكف عن اعتبار الحق تعبيرا عن إرادة جماعة صغيرة (طائفة أو طبقة أو أمة) تسلك إزاء سائر الكتل الجماهيرية، المماثلة لها في النوع ولكن الأكثر تعدادا في الأرجح، سلوك الفرد المتأهب للجوء إلى القوة الغاشمة. والمفروض ان تأتي النتيجة النهائية تأسيس حق بمشاركة الجميع، أو على الأقل جميع الأعضاء القابلين للانتماء إلى الجماعة، من خلال تضحيتهم بدوافعهم الغريزية الشخصية، حق لا يفسح مجالا لوقوع أي واحد منهم ضحية القوى الغاشمة باستثناء أولئك الذين أبوا قبولا به.

ليست الحرية الفردية إذن نتاجا حضاريا. بل كانت، قبل أي حضارة، على أعظم ما يمكن ان تكون، ولكن بلا قيمة أيضا في غالب الأحيان، لان الفرد لم يكن في وضع يؤهله للدفاع عنها. وقد فرض عليها تطور الحضارة قيودا، وتقتضي العدالة بألا يعفى أحد من هذه القيود. وحين تشعر جماعة إنسانية ما بدفقة من الحرية تجيش في أعماقها، فإن ذلك يمكن أن يكون تعبيرا عن حركة تمّرد ضد ظلم سافر، وهذا بدوره قد يساعد على تحقيق تقدم حضاري جديد. لكن ذلك قد يكون أيضا نتيجة لاستمرار بعض رواسب من نزعة فردية غير مروّضة، فيشكل بالتالي قاعدة وأساسا للميول المناوئة للحضارة. وتنصبّ دفعة الحرية، بفعل ذلك، ضد بعض الأشكال أو بعض المطالب الثقافية، أو حتى ضد الحضارة بالذات.

لا يبدو ان هناك إمكانية لحمل الإنسان، كائنة ما كانت الوسيلة، على مقايضة طبيعته بطبيعة الأرَضة، فهو دائم الميل إلى الدفاع عن حقه في الحرية الفردية ضد إرادة المجموع. وكثيرة هي الصراعات التي تخاض ضمن نطاق البشرية وتتركز حول مهمة يتيمة: إيجاد توازن مناسب، وقمين بالتالي بتأمين سعادة الجميع، بين مطالب الفرد وبين المطالب الثقافية للجماعة. وانها لواحدة من المشكلات التي يتوقف عليها مصير الإنسانية ان نعرف هل يمكن أن يتحقق هذا التوازن بواسطة شكل معين من الحضارة، أم أن هذا النزاع، على العكس، لا حل له.

بمطالبتنا قبل قليل الحس المشترك بأن يهدينا إلى سمات الحياة الإنسانية التي تستأهل اسم الحضارة، انتهينا إلى تكوين صورة واضحة وإجمالية للحضارة، لكننا لم نعلم تقريبا شيئا لا يعرفه القاصي والداني. وبالمقابل، احترزنا من الوقوع في حبائل الرأي المسبق الذي يقول أن الثقافة تعادل التقدم وترسم للإنسان طريق الكمال. ولكن هنا يفرض علينا نفسه تصور قمين بتوجيه اهتمامنا في وجهة مغايرة. فتطور الحضارة يبدو لنا أشبه ما يكون بسيرورة من نوع خاص تجري "فوق" الإنسانية، ولكنها سيرورة يوحي إلينا العديد من خصائصها بأنها من الأشياء المألوفة عندنا. ويمكننا تمييز هذه السيرورة من خلال التعديلات التي تدخلها على العناصر الأساسية المعروفة عميق المعرفة والمسماة بغرائز البشر، تلك الغرائز التي تمثل تلبيتها المهمة الاقتصادية الكبرى لحياتنا.

ان عددا معينا من هذه الغرائز سيجري استهلاكه واستنفاذه على نحو ينبجس مكانه شيء سنسميه لدى الفرد بخاصية أو سمة طبعيّة. وأسطع الأمثلة على هذه الأوالية تقدمه لنا ايروسية الطفل الشرجية. فالاهتمام البدئي الذي يعلقه على وظيفة التغوط، وعلى أجهزتها ونتاجها، يتحول أثناء النمو إلى مجموعة من الصفات المعروفة تماما لدينا: الشح والتقتير، حسن النظام، وحب النظافة. ولئن تكن هذه الصفات ذات قيمة كبيرة في حد ذاتها وتستأهل كل تقدير وترحيب، فان كفّتها قد ترجح على ما عداها إلى حد الشذوذ إذا ما تضخمت وشحذت حدتها، وعندئذ يتولد عنها ما نسميه بـ "الطبع الشرجي". نحن لا نعلم كيف يحدث ذلك، لكن لا يخامرنا ظل من شك بصدد صحة هذا التصور. والحال اننا رأينا ان النظام والنظافة يدخلان في عداد مطالب الحضارة الأساسية، بالرغم من ان ضرورتهما الحيوية لا تتجلى فورا لكل ذي عينين، بل قد يكتنفها قدر من الإبهام يعادل ما يكتنف قابليتهما لان يكونا مصدرا للذة. وفَور الانتهاء من توضيح هذه النقطة، لا مفر من ان يلفت انتباهنا التشابه القائم بين سيرورة التحضر وتطور الليبيدو لدى الفرد. وثمة دوافع غريزية أخرى قادرة على ان تغير، إذا ما بدلت وجهتها، الشروط اللازمة لتلبيتها، وعلى أن تعين لها طرقا أخرى، وهذا ما يتطابق في معظم الحالات مع أوالية معروفة جيدا لدينا: التصعيد (لهدف الدوافع الغريزية)، ولكنه يفترق عنها في حالات أخرى. ويشكّل تصعيد الغرائز واحدة من أبرز سمات التطور الثقافي، فهو الذي يسمح للنشاطات النفسية الرفيعة، العلمية أو الفنية أو الأيديولوجية، بأن تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الكائنات المتحضرة. وقد نميل، للوهلة الأولى، إلى أن نرى فيه بصورة أساسية المصير الذي تفرضه الحضارة على الغرائز. لكن خيرا نفعل لو أمعنا النظر في الأمر مليا. ومن المتعذر ثالثا وأخيرا، وهذه النقطة تبدو أهم النقاط كافة، الا نفطن إلى أي مدة يقوم بناء الحضارة على مبدأ العزوف عن الدوافع الغريزية، والى أي مدى يقتضي هذا البناء الحضاري عدم إشباع (قمع، أو كبت، أو أي أوالية مماثلة أخرى) الجامح من الغرائز. وهذا "العزوف الحضاري" يتحكم في الشبكة الواسعة للعلاقات الاجتماعية بين الناس، ولقد سبق أن عرفنا أنه فيه على وجه التحديد تكمن علة العداء الذي يتوجب على الحضارات كافة أن تكافحه وتقاومه. وسوف يفرض هذا العزوف على مبحثنا العلمي أعباء ثقيلة، وسوف يتوجب علينا أن نسلط الضوء على العديد من النقاط. وليس من اليسير أن نفهم كيف يمكن للمرء ان يتدبر أمره كي يأبى إشباع غريزة من الغرائز. والأمر لا يخلو من خطر، فإذا لم يكافأ هذا الرفض على نحو اقتصادي، كان لنا أن نتوقع حدوث اختلالات خطيرة.

لكن إذا كنا نحرص على معرفة ما القيمة التي يمكن أن يدعيها لنفسه تصورنا عن تطور الحضارة، بوصف هذا التطور سيرورة خاصة مشابهة للنضوج السوي لدى الفرد، فلا مفر لنا بالبداهة من التصدي لمشكلة أخرى ومن التساؤل بادئ ذي بدء عن المؤثرات التي يدين لها هذا التطور بمنشئه، وعن الكيفية التي رأى بها النور، وعما حدد مجراه ومساره.

- 4 -

انها والحق، لمهمة شاقة، ولنقر بأن الشجاعة حيالها تخوننا. سأكتفي إذن بأن اعرض هنا النزر اليسير الذي أمكنني أن استشفه.

حين اكتشف الإنسان البدائي أن أمر تحسين مصيره الأرضي قد أمسى، بفضل العمل، بين يديه، بالمعنى الحقيقي لا المجازي، ما عاد في مستطاعه أن يبقى على موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث تجاه مبادرة هذا أو ذاك من أقرانه إلى العمل معه أو ضده. فقد تلبس هذا القرين في نظره قيمه المعاون، وصار من المفيد له ان يعيش معه. وكان الكائن الإنساني قد اخذ بعادة تأسيس الأسر منذ عهد ما قبل التاريخ يوم كان ما يزال قريبا من القرد، وأرجح الظن ان أعضاء آسرته كانوا مساعديه الأوائل. ويمكننا الافتراض بأن تأسيس الأسرة تواقت مع ارتقاء معين لحاجة الإشباع التناسلي، على أساس ان هذه الحاجة لم تعد تظهر إلى حيز الوجود على طريقة الضيف الذي يطرق بابك على حين غرة ثم تنقطع أخباره عنك ردحا طويلا من الزمن بعد رحيله، وإنما على طريقة المستأجر الذي يقيم في المنزل فلا يبرحه. وبذلك تواجد لدى الذكر الدافع ليحتفظ بالأنثى لديه، أو بصورة أعم بالمواضيع الجنسية، ولم تجد الإناث بدورهن مناصا من البقاء لدى الذكر الأقوى حرصا منهن على عدم الافتراق عن صغارهن، وقد كان بقاؤهن في صالح هذه المخلوقات الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة. وفي إطار تلك الأسرة البدائية نظل نفتقر إلى سمة أساسية من سمات الحضارة، إذ أن عسف الزعيم والأب كان غير محدود. وقد حاولت أن أشير في الطواطم والتابو إلى الطريق الذي قاد من تلك المرحلة الأسرية البدائية إلى المرحلة التالية، أي المرحلة التي تحالف فيها الاخوة فيما بينهم. وبانتصار هؤلاء على الأب، عرفوا بالتجربة ان الاتحاد يمكن ان يكون أقوى من الفرد المفرد. وتقوم الحضارة الطوطمية على القيود التي ما وجدوا مناصا من فرضها على أنفسهم للحفاظ على ذلك الوضع المستجد. وقد شكلت قواعد التابو  أول شرعة "قانونية". كانت حياة الناس المشتركة تقوم إذن على الأساس التالي: أولا إلزام العمل، وهو إلزام أوجدته الضرورة الخارجية، وثانيا قوة الحب، على اعتبار ان هذا الأخير يستوجب الا يحرم الرجل من المرأة، موضوعه الجنسي، والا تحرم المرأة من ذلك الجزء المنفصل عن جسمها والذي هو طفلها. هكذا غدا ايروس وانانكيه والدي الحضارة الإنسانية التي كانت مأثرتها الأولى إتاحة الإمكانية لعدد كبير من الكائنات البشرية ان يبقوا ويعيشوا في ظل حياة مشتركة. وبما ان قوتين لا يستهان بهما قد تضافرتا في هذا المجال ووحدتا جهودهما، فقد كان من المأمول أن يتم التطور اللاحق بلا صعوبة وأن يفضي إلى سيطرة أشمل فأشمل على العالم الخارجي، وكذلك إلى زيادة مطردة في عدد الأعضاء الذين تضمهم الجماعة الإنسانية تحت جناحها. وليس من السهل ان نفهم أيضا كيف كان يمكن لهذه الحضارة عينها ألا تعمل على إسعاد أبنائها.

قبل أن نتفحص من أين يمكن ان يجيء الشر، وحتى نسد ثغرة تركناها بلا ردم في مقطع سابق، لنرجع أدراجنا إلى مفهوم الحب الذي سلمنا بأنه كان واحدا من أسس الحضارة. لقد نوهنا آنفا بتلك الواقعة. الاختبارية المتمثلة في أن الحب الجنسي (التناسلي) يوفر للكائن الإنساني أقوى ملذات وجوده ويؤلف بالنسبة إليه النموذج الأول لكل سعادة، ولقد قلنا أيضا انه ما كان على البشرية الا أن تخطو خطوة واحدة أخرى إلى الأمام بعد ذلك حتى تنشد سعادة الحياة في ميدان العلاقات الجنسية وحتى تجعل الايروسية التناسلية في نقطة المركز من تلك الحياة. ثم أضفنا قولنا ان الإنسان بسلوكه هذا الطريق قد حكم على نفسه، بصورة تبعث على أشد القلق، بالتبعية لقسم من العالم الخارجي، نعني الموضوع المحبوب، وبات عرضة لألم حاد في حال إعراض هذا الأخير عنه أو فقدانه إذا لم يكن وفيا له أو إذا فارق الحياة. ولهذا حذر الحكماء في جميع الأزمان بإلحاح ما بعده إلحاح من سلوك ذلك الطريق (لكن بالرغم من جهودهم كافة، لم يفقد هذا الطريق إغراءه بالنسبة إلى عدد كبير من أبناء البشر).

لقد قُيّض لأقلية منهم، بفضل جبلتهم، ان يصلوا رغما عن كل شيء إلى تلك السعادة عن طريق الحب، لكن لا بد لذلك من إدخال تعديلات واسعة ذات صفة نفسية على وظيفة الحب. فأولئك الأشخاص يحررون أنفسهم من موافقة الموضوع ورضاه عن طريق عملية نقل للقيمة، أي بصبهم على حبهم بالذات الأهمية التي كانوا يعلقونها في البدء على ان يكونوا من المحبوبين، وهم يحمون أنفسهم من فقدان الشخص المحبوب باتخاذهم مواضيع لحبهم لا كائنات محددة وإنما جميع الكائنات الإنسانية سواسية، ويتجنبون أخيرا التقلبات والخيبات المرتبطة بالحب التناسلي بإشاحتهم عن هدفه الجنسي وبتحويلهم الدوافع الجنسية الغريزية إلى عاطفة ذات "هدف مكفوف". والحياة الداخلية التي يختلقونها لأنفسهم عن هذا السبيل، أعني تلك الكيفية الرقيقة، المتعادلة، الهادئة في الإحساس، المنيعة أيضا على كل تأثير، لا يعود بينها وبين الحياة الحبّية التناسلية وانفعالاتها وعواطفها من شبه خارجي كثير، بالرغم من انها تنبع منها أساسا. ولعل القديس فرنسيس الأسيزي هو من توغل أبعد ما يكون التوغل في ذلك الطريق المفضي إلى استخدام الحب استخداما كاملا لأغراض حس السعادة الداخلية. ولئن تعرفنا في هذه الطريقة واحدة من التقنيات الرامية إلى تحقيق مبدأ اللذة، فقد ربطها غيرنا بالدين وأرجعها إليه في غالب الأحيان، ذلك ان مبدأ اللذة والدين يمكن أن يتلاقيا في تلك المناطق النائية التي لا يبالي فيها المرء بتمييز أناه من المواضيع، وبتمييز المواضيع بعضها من بعض. وثمة تصور أخلاقي، سنتبين عما قليل دوافعه الدفينة، يريد ان يرى في ذلك النزوع إلى الحب الكوني للإنسانية وللعالم أمسى موقف يمكن للكائن البشري ان يقفه. وهنا تبارحنا كل رغبة في الاستمرار بالاحتفاظ في سرنا بتحفظين رئيسيين اثنين: أولا، ان الحب الذي لا يختار يفقد في نظرنا بعضا من قيمته الذاتية إذ يدلل على ظلم وإجحاف بحق موضوعه، ثانيا، ليست الكائنات البشرية جديرة جميعها بأن تكون محبوبة.

ان هذا الحب الذي أسس الأسرة ما يزال يمارس تأثيره وسلطانه في داخل الحضارة سواء أفي شكله البدائي من حيث انه لا يعزف عن الإشباع الجنسي المباشر، أم في شكله المعدَّل من حيث انه محبة مكفوفة الهدف. ويمضي الحب في هذين الشكلين، في أداء وظيفته في الجمع بين أعداد أكبر فأكبر من الكائنات البشرية وفي التوحيد بينها بقوة لا تفلح في الوصول إلى مثلها مصلحة جماعة يقوم كيانها على العمل. وعدم دقة في استعمال كلمة "الحب" له ما يبرره من وجهة نظر علم الوراثة. فاسم الحب يطلق على العلاقة بين الرجل والمرأة اللذين أسسا أسرة بداعي حاجاتهما الجنسية، ولكنه يطلق أيضا على العواطف الإيجابية التي تقوم ضمن نطاق الأسرة بين الأهل والأولاد، بين الاخوة والأخوات، مع أنه كان يفترض فينا أن نصف العلاقات الأخيرة هذه بأنها حب مكفوف من حيث الهدف، أي محبة. لكن هذا الحب المكفوف كان في الأصل بالغ الشهوانية، وقد لبث كذلك في لاشعور البشر. وسواء أكان الحب كلي الشهوانية أو مكفوفا، فانه سيتخطى نطاق الأسرة ليستولي، في شكليه الاثنين، على مواضيع كانت ما تزال إلى حينه مجهولة وغريبة، وليقيم معها علاقات جديدة: فهو يفضي في شكله التناسلي إلى تشكيل أسَر جديدة، وفي شكله المكفوف من حيث الهدف إلى "صداقات" لها أهميتها البالغة بالنسبة إلى الحضارة لأنها تتملص من العديد من القيود المفروضة على الأول، وعلى سبيل المثال حصريته. ولكن مع المزيد من التقدم والارتقاء لا تعود العلاقة بين الحب والحضارة ملتبسة: فالحب يحارب من جهة أُولى مصالح الحضارة، وهذه بدورها تتهدده، من جهة ثانية، بتقييدات مؤلمة.

يبدو هذا العداء المتبادل وكأنه محتوم لا مناص منه، لكن ليس من اليسير ان ندرك دفعة واحدة سببه الدفين. انه يتجلى، أول ما يتجلى، في شكل نزاع بين الأسرة وبين الجماعة الأرحب نطاقا التي ينتمي إليها الفرد. وقد سبق ان لاحظنا ان واحدا من جهود الحضارة الرئيسية ينصّب على تجميع الناس في وحدات كبيرة. لكن الأسرة لا تريد ان تتخلى عن الفرد.

فأعضاؤها يزدادون ميلا واستعدادا للانعزال بأنفسهم عن المجتمع، ويواجهون صعوبة اكبر في الدلوف إلى دائرة الحياة الكبيرة، كلما توثقت الوشائج التي توحد بينهم. وان أقدم طراز للحياة المشتركة من وجهة نظر تطور النوع، وهو الطراز الوحيد الذي يسود أيضا أثناء طفولة الفرد، يتصدى بالمقاومة للطراز المتمدن الذي تم التوصل إليه في زمن متأخر والذي يسعى إلى الحلول محله. وهكذا يغدو الافتراق عن الأسرة بالنسبة إلى كل مراهق مهمة، مهمة يساعده المجتمع في كثير من الأحيان على أدائها عن طريق طقوس البلوغ وإطلاع المراهق على "الأسرار". ويساورنا هنا انطباع بان هذه الصعوبات ملاذ لكل تطور نفسي، وفي الواقع، لكل تطور عضوي أيضا.

أضف إلى ذلك ان النساء لا يتأخرن عن معاكسة تيار التحضر والتمدن، وهن يمارسن تأثيرا ينزع إلى إبطائه وإعاقته. وهذا مع ان أولئك النسوة هن أنفسهن اللواتي أرسين في البدء أساس الحضارة بفضل مطالب حبهن. ولسوف يأخذن بنصرة مصالح الأسرة والحياة الجنسية، بينما سيفرض العمل التمديني، الذي سيمسي اكثر فأكثر من اختصاص الرجال، على هؤلاء الأخيرين مهام متعاظمة الصعوبة وسيرغمهم على تصعيد غرائزهم وهو التصعيد الذي لا تملك النساء أهلية كبيره له. ولما كان الكائن الإنساني لا يتمتع بكمية غير محدودة من الطاقة النفسية، فانه لا يستطيع إنجاز مهامه الا من خلال توزيع مناسب لطاقته الليبيدية. والنصيب الذي يخص به أهدافا ثقافية من تلك الطاقة إنما يقتطعه بوجه خاص من النساء ومن الحياة الجنسية، واحتكاكه الدائب بغيره من الرجال وتبعيته الناجمة عن علاقاته بهم يدفعان به إلى التقاعس عن واجباته كزوج وأب. وحين ترى المرأة نفسها وقد أقصتها متطلبات الحضارة إلى المرتبة الثانية، تقف من هذه الحضارة موقفا عدائيا.

بديهي ان الحضارة من جهتها لا تنزع إلى توسيع الدائرة الثقافية فحسب، بل تسعى أيضا، وبالقدر نفسه، إلى تضييق الحياة الجنسية. فمنذ طورها الأول، طور الطوطمية، تنطوي سننها على تحظير اختيار الموضوع من بين المحارم، وهو تحظير يعادل في أرجح الظن أعنف بتر وأجمى تشويه فرض على مر الزمن على حياة الحب لدى الكائن الإنساني. وبقوة المحرمات والشرائع والأعراف، تفرض قيود جديدة على الرجال والنساء على حد سواء. لكن الحضارات لا تقطع جميعها هذا الشوط الطويل على هذا الطريق، فبنية المجتمع الاقتصادية تمارس بدورها تأثيرها على المقدار الذي يمكن ان يبقى قائما من الحرية الجنسية. ونحن نعلم جيدا ان الحضارة تنصاع بصدد هذه النقطة للضرورات الاقتصادية، لأنها مكرهة على أن تقتطع من الحياة الجنسية مقدارا غير قليل من الطاقة النفسية كي تستخدمه لأغراضها. وهي تتبنى هنا سلوكا مماثلا لسلوك قبيلة أو طبقة من السكان تستغل وتنهب قبيلة أو طبقة أخرى منهم بعد ان تكون قد أخضعتها لسيطرتها. فالخوف من تمرد المضطهَدين يحض على تدابير وقائية اشد صرامة. وقد بلغت حضارتنا الأوروبية الغربية، كما تبين لنا، نقطة أوج في هذا المسار. ولكن لئن بدأت بتحظير صارم لأي تظاهرة للجنسية الطفلية، فان هذا الفعل الأول له كامل تبريره من وجهة نظر علم النفس، لان حجز رغبات الراشد الجنسية المضطرمة لا حظّ له في النجاح ما لم يمهد له منذ الطفولة بعمل تحضيري. أما ما ليس له من مبرر البتة فهو مغالاة المجتمع المتحضر في هذا السبيل إلى حد نفي هذه الظاهرات الجلية السافرة التي ليس أسهل من إثبات وجودها. فاختيار الموضوع من قبل فرد بالغ جنسيا سَيُحْصَر بالجنس الآخر، وسيجري تحظير معظم الإشاعات الخارجة عن النطاق التناسلي بوصفها انحرافات.

وضروب الحظر المتنوعة هذه تعبر عن مطلب حياة جنسية متماثلة للجميع، وهذا المطلب، بتعاليه على التفاوتات التي يشتمل عليها التكوين الجنسي الفطري أو المكتسب للكائنات الإنسانية، يحرم عددا لا يستهان به منها من اللذة الايروسية. ويغدو بالتالي مصدرا لظلم فادح. وقد يتمثل نجاح هذه التدابير الرادعة عندئذ في الواقعة التالية: فالاهتمام الجنسي يندفع برمته، على الأقل لدى الأفراد الأسوياء الذين لا يتعارض تكوينهم مع هذا النوع من رد الفعل، في "اقنية" تركت مفتوحة، وهذا من دون أن يتعرض ذلك الاهتمام لأي هدر أو نقصان.

لكن الشيء الوحيد الذي يبقى حرا وفالتا من ذلك الحظر، أي الحب الجنسي والتناسلي الغيري، يقع بدوره أسير تقييدات جديدة تفرضها الشرعية وأحادية الزواج. فالحضارة المعاصرة لا تتردد في المجاهرة باعترافها بالعلاقات الجنسية شرط ان يكون أساسها القِران الذي لا فصام له، والذي يعُقد مرة واحدة ونهائية، بين الرجل والمرأة، كما لا تتردد في إعلان عدم قبولها بالجنسية بوصفها مصدرا مستقلا بذاته للذة، وفي إعلان عدم استعدادها للتسليم بها الا بصفتها عامل تكاثر ما أمكن لأي شيء آخر أن ينوب منابه حتى يومنا هذا.

طبيعي أن ذلك هو الشطط بعينه. وكل إنسان يعلم ان هذه الخطة قد ثبت عدم صلاحها للتطبيق، ولو لأجل قصير. والحق ان الضعفاء هم وحدهم الذين أمكن لهم أن يتكيفوا مع مثل تلك القيود الواسعة على حريتهم الجنسية. أما أصحاب القوة والعزيمة فلم يقبلوا بها الا مقابل منحهم تعويضا سيأتي دور الكلام عنه لاحقا. وقد اضطر المجتمع المتحضر إلى التغاضي عن مخالفات عديدة كان يفترض فيه ان يلاحقها لو انه كان متمسكا فعلا بسننه، وفيا لشرائعه. ولنحاذر، من جهة أخرى، من الوقوع في الخطأ المعاكس بتسليمنا بأن مثل هذا الموقف الذي تقفه حضارة من الحضارات لا ينتج عنه أي أذى أو ضرر ما دام لا يحقق مراميها جميعا. فالحياة الجنسية للكائن المتحضر تعاني، بالرغم من كل شيء، من غبن خطير وخلل فادح، وهي توحي إلينا أحيانا بأنها وظيفة آيلة إلى ضمور، مثلها في ذلك مثل أسناننا وشَعْرنا بوصفها أعضاء. وانه ليحق لنا، ولو بوجه الاحتمال، أن نفترض أن أهميتها قد تناقصت بصورة ملموسة بصفتها مصدرا للسعادة، وبالتالي بصفتها تحقيقا لهدفنا الحياتي. ويخيل إلينا أحيانا اننا نستشف ان الضغط التمديني ليس العلة الوحيدة لذلك، وأن الوظيفة الجنسية، بحكم طبيعتها بالذات، تضن بمنحنا إشباعا كاملا وترغمنا على طرق دروب أخرى. أترانا نحيد عن جادة الصواب هنا؟ ليس من السهل ان نقطع برأي.

- 5 -

علمتنا مزاولة التحليل النفسي ان ضروب الحرمان الجنسي الملمح إليها لا يتحملها بوجه خاص الناس المدعوون بالمرضى العصابيين. فهؤلاء يستمدون من أعراضهم المرضية تلبيات وإشباعات بديلة تسبب لهم بذاتها الألم أو تصبح مصدرا للوجع بخلقها لهم صعوبات مع الوسط أو مع المجتمع. وهذه الحالة الأخيرة يسهل فهمها، بينما تطرح علينا الحالة الأولى لغزا جديدا. والحال ان الحضارة تقتضي، فضلا عن التضحيات الجنسية، تضحيات من طبيعة أخرى.

اننا نكون قد تصورنا التطور الشاق والمضني للحضارة على انه إشكال ارتقائي ذو طابع عام حين نرجعه، على نحو ما فعلنا، إلى تظاهرة لعطالة الليبيدو والى نفور هذا الأخير من العزوف عن وضع قديم للأخذ بآخر جديد. ونحن نبقى تقريبا عند النقطة ذاتها حين نستنبط التعارض بين الحضارة والجنسية من كون الحب الجنسي علاقة بين اثنين لا مجال فيها لشخص ثالث الا ان يكون متطفلا أو يلعب دور معكّر الصفو. بينما تقتضي الحضارة بالضرورة علاقات بين عدد كبير من الكائنات. ففي الحب يتلاشى كل اهتمام بالعالم المحيط، والمتحابان يكتفيان واحدهما بالآخر. ولا يحتاجان حتى إلى ولد مشترك كي يكونا سعيدين. وليس كالحب حالة يميط فيها إيروس اللثام عن ماهية طبيعته، وعن تطلعه إلى أن يجعل عن الكثرة كائنا واحدا، ولكنه حين يفلح في ذلك بإشعاله ضرام الحب بين كائنين اثنين، يكتفي بما فعل ويقنع به، كما يؤكد لنا المثل السائد.

يمكننا بسهولة إلى هنا أن نتخيل جماعة متحضرة تتألف من أشباه تلك "الكائنات المزدوجة" التي إذا انطفأ في ذاتها ظمأ طاقتها الليبيدية تتحد فيما بينها برباط العمل والمصالح المشتركة. وعلى أساس افتراض كهذا لا تعود الحضارة بحاجة إلى ان تقتطع من الجنسية مقدارا ما من الطاقة. لكن مثل هذه الحالة المرجوة لا وجود لها ولم توجد قط، بل يبين لنا الواقع ان الحضارة لا تكتفي البتة بتلك الطرز من الاتحاد التي عزوناها إليها حتى الآن. بل تريد، فضلا عن ذلك، ان توحد أعضاء المجتمع فيما بينهم برابطة ليبيدية، وانها تجهد بجميع الوسائل، بغية تحقيق هذا الهدف، كيما تقيم بينهم تماهيات قوية، وكيما تمهّد أمامهم جميع الدروب القمينة بأن تقودهم إلى ذلك، وانها تعبّئ أخيرا اكبر مقدار ممكن من الليبيدو المكفوف من حيث الهدف الجنسي حتى تشد أزر الرابطة الاجتماعية بعلاقات صداقة. ولوضع هذه المقاصد موضع التنفيذ، لا مناص من تقييد الحياة الجنسية، لكننا لا نتبين البتة ما الضرورة التي تجر الحضارة إلى هذا الطريق والتي تبرر معارضتها للجنسية. وعلى هذا، لا بد انه يوجد هنا عامل تشويش لم يمكن لنا بعد أن نكتشفه.

والحال انه في عداد المطالب المثالية للمجتمع المتحضر مطلب قمين هنا بأن يهدينا إلى سواء السبيل. هذا المطلب يقول لنا: "أحبب قريبك كنفسك". وهذه الكلمة الجامعة، المشهورة في العالم قاطبة، اقدم عهدا بكل تأكيد من المسيحية التي وضعت اليد عليها كما لو أنها المرسوم الذي يحق لها ان تفاخر غاية المفاخرة بصدوره عنها. لكنها بالتأكيد ليست سحيقة في القدم. فقد كانت ما تزال مجهولة من البشر حتى في عهود ما بعد التاريخ.

لكن لنقف منها موقفا ساذجا كما لو اننا نسمع بها للمرة الأولى، وفي هذه الحال لا نستطيع ان ندفع عن أنفسنا شعورا بالمباغتة إزاء غرابتها. فلماذا نعتبر ما ورد فيها واجبا علينا؟ وأي عون تمدّنا به؟ ثم كيف السبيل، على الأخص، إلى العمل بها وتطبيقها؟ وهل سيكون ذلك في مستطاعنا؟ ان حبي لهو في نظري شيء ثمين ثمين بحيث لا أملك الحق في هدره والتفريط به دونما وعي وهو يفرض علي واجبات يفترض فّي أن أكون قادرا على الوفاء بها ولو مقابل تضحيات. وإذا أحببت كائنا آخر، فلا بد ان يكون مستأهلا لذلك بصفة من الصفات (أستبعد هنا علاقتين لا تدخلان في حساب حب القريب: الأولى أساسها الخدمات التي يمكن ان يؤديها لي، والثانية أساسها أهميته الممكنة كموضوع جنسي). انه يستأهل حبي حين يشبهني في وجوه مهمة شبها عظيما يمكن معه ان احب فيه نفسي أنا. إنه يستأهله إذا كان اكمل مني إلى حد يتيح لي إمكانية ان احب فيه مَثَلي الأعلى بالذات. وعلي ان احبه إذا كان ابن صديقي، لان ألم صديقي، إذا وقع مكروه لابنه، سيكون أيضا ألمي، ولن يكون أمامي مناص من أن أشاطره إياه. ولكن إذا كان بالمقابل مجهولا مني، وإذا لم يجتذبني بأي صفة شخصية، ولم يلعب بعد أي دور في حياتي العاطفية، فانه من العسير جدا علي ان أشعر تجاهه بعاطفة حب. ولو فعلت لاقترفت ظلما، لأن أهلي وأصحابي جميعا يقدّرون حبي لهم على انه إيثار وتفضيل، وسأكون مجحفا بحقهم لو خصصت غريبا بالمحاباة نفسها. وإذا كان لا بد، والحالة هذه، ان أشركه في مشاعر الحب التي تخالجني كما يقتضي العقل إزاء الكون قاطبة، وهذا فقط لأنه يحيا على هذه الأرض مثله مثل الحشرة أو دودة الأرض أو الحفت، فانني أخشى ألا يشع من قلبي باتجاهه سوى قدر ضئيل للغاية من الحب، كما أخشى بكل تأكيد الا يكون في مقدوري ان أغدق عليه من الحب بقدر ما يأذن لي العقل ان احتبسه من اجل نفسي. ولكن ما الفائدة من هذه الفذلكة المفخمة بصدد وصية لا يبيح لنا العقل ان ننصح أحدا بإتباعها؟ حين أمعن النظر في المسألة عن قرب اقرب، ألمح المزيد من الصعاب والإشكاليات أيضا. فذلك الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحايين عدائي، بل كراهيتي. فهو لا يبدو انه يكنّ لي أي عطف، ولا يدلل نحوي على أي مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي، بل هو لا يتساءل ان كانت أهمية الكسب الذي يجبيه تتناسب مع عظم المضرة التي ينزلها بي. والأدهى من ذلك والأمّر انه حتى إذا لم يَجْنِ ربحا، وإنما فقط مجرد لذة ومتعة، فلن يتردد البتة في الهزء مني وإهانتي والافتراء علي، ولو تباهيا منه فقط بالسلطان الذي له علي. وفي وسعي أن أتوقع حتمية هذا السلوك حيالي بقدر ما يشعر بمزيد من الثقة بنفسه وبقدر ما يعتبرني أضعف منه ولا حول لي ولا قوة. أما إذا سلك غير هذا السلوك، وأما إذا قابلني، حتى من دون أن يعرفني، بالاحترام والمراعاة، فانني لعلى أتم استعداد عندئذ لمقابلته بالمثل، دونما حاجة إلى توسط وصية أخلاقية. ومن المؤكد ان تلك الوصية السامية لو صيغت على النحو التالي: "أحبب قريبك كما يحبك هو نفسه"، لما كان لي عليها من اعتراض. ولكن ثمة وصية ثانية تبدو لي أشطّ من الأولى فأياً عن المعقول وتضرم فيّ نار تمرد أعنف وأقوى. وصية تقول لنا: "أحبب عدوك". ولكني أجدني، عند إمعان التفكير، مخطئا إذ أطعن فيها باعتبارها تنطوي على دعوى أشد بطلانا من تلك التي تنطوي عليها الوصية الأولى. وفي الواقع، كلتاهما سيان.

هنا يرتفع، على ما يخيل إلي، صوت سامٍ ليصدع أذني بالتذكرة: "على وجه التحديد لأن قريبك غير جدير بالحب، ولأنه بالأحرى عدو لك، يتوجب عليك أن تحبه كما تحب نفسك".
وليس عسيرا علي أن أدرك أن المسألة، هنا، ضرب من Credo quia absurdum .

والآن إذا طُلب إلى قريبي أن يحبني كنفسه، فمن المرجح أن يجيب كما أجبت وأن ينكرني للأسباب ذاتها. هل سيكون في ذلك محقا مثلي، وهل ستكون دوافعه موضوعية نظير دوافعي؟ آمل أن لا، ولكنه حتى في هذا الحال سيحاكم الأمور كما حاكمتها. وهذا معناه ان سلوك الناس ينطوي على فوارق يرجعها علم الأخلاق، من دون أن يقيم اعتباراً للشروط التي ترتهن بها أو بتعاليه عليها، إلى فئتين اثنتين: فئة "الخير" وفئة "الشر". وهاتان المقولتان لا رادّ لهما، ولكن ما لم تلغيا كلتاهما فان الامتثال للقوانين الخلقية العليا سيعني في ما يعني إنزال الضرر بالحضارة. إن في هذا الامتثال تشجيعا مباشرا على الخبث وسوء النية. ولا قبل لنا هنا بمقاومة إغراء التذكير بحادث وقع في المجلس النيابي الفرنسي أثناء مداولة بصدد عقوبة الإعدام. فقد أثار واحد من أنصار إلغائها بخطاب ملتهب له عاصفة من التصفيق قطعها صوت تعالى من آخر القاعة بالقول: Que Messieurs les Assassins commencent!.

ان قسط الحقيقة الذي يحتجب وراء ذلك كله والذي يحلو للناس ان ينفوه يتلخص على النحو التالي: ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح، ذا القلب الظمآن إلى الحب، الذي يزعم الزاعمون انه لا يدافع عن نفسه إلى متى هوجِمَ. وإنما هو على العكس كائن تنطوي معطياته الغريزية على قدر لا يستهان به من العدوانية. وعليه، ليس القريب بالنسبة إليه مجرد مساعد وموضوع جنسي ممكنين، وإنما أيضا موضوع إغراء وإغواء.

وبالفعل، ان الإنسان نزّاع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب قريبه، والى استغلال عمله بلا تعويض، والى استعماله جنسيا بدون مشيئته، والى وضع اليد على أملاكه وإذلاله، والى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله. الإنسان ذئب للإنسان : من يجرؤ، إزاء جميع تعاليم الحياة والتاريخ، ان يكذّب هذا المثل السائر؟ وكقاعدة عامة، إما أن تُظهِر هذه العدوانية الغاشمة استفزازا أو تضع نفسها في خدمة مأرب كان يمكن أيضا الوصول إلى هدفه بوسائل انعم وأكثر تهذيبا. وبالمقابل تظهر العدوانية في بعض الظروف الموائمة، وعلى سبيل المثال حين تُشَلّ عن التأثير طاقة القوى الأخلاقية التي كانت تعارض تظاهرات العدوانية وتكفها وتقمعها، تظهر إلى حيز الوجود بصورة عفوية وتميط عن الإنسان لثام الوحش المفترس الذي لا يقيم من اعتبار البتة لجنسه. ومن يستحضر منا في ذاكرته فظائع هجرات الشعوب الكبرى أو غزوات قبائل الهون، الفظائع التي اقترفها المغول المشاهير بقيادة جنكيز خان أو تيمورلنك، أو تلك التي نجمت عن استيلاء الصليبيين الأتقياء على القدس، ومن دون ان ننسى في نهاية المطاف فظائع الحرب العالمية الأخيرة. فلا مناص له من ان يقبل بتصورنا وان يعترف بصحة أسسه.

ان هذا النزوع إلى العدوان، الذي يسعنا ان نزيح النقاب عنه في أنفسنا والذي نفترض بحق وجوده لدى الآخرين، يشكّل العامل الرئيسي للخلل في علاقاتنا بقريبنا، وهو الذي يفرض على الحضارة عبء جهود كثيرة. وبفعل هذه العدوانية الابتدائية التي تؤلّب بني الإنسان بعضهم على بعضهم الآخر، يجد المجتمع المتحضر نفسه مهددا باستمرار بالانهيار والدمار. ولا يكفي للمحافظة عليه الاهتمام بالعمل التضامني: فالأهواء الغريزية أقوى من الاهتمامات العقلية. وعلى الحضارة ان تجنّد كل ما في متناولها كي تحد من العدوانية البشرية وكي تقلص تظاهراتها عن طريق استجابات نفسية ذات طابع خلقي. ومن هنا، كان ذلك الاستنفار لطرائق ومناهج تحض بني الإنسان على تماهيات وعلاقات حب مكفوفة من حيث الهدف. ومن هنا أيضا كان ذلك التقييد للحياة الجنسية. ومن هنا أخيرا كان ذلك المثل الأعلى المفروض على الإنسان بأن يحب قريبه كنفسه، ذلك المثل الأعلى الذي يجد تبريره الحقيقي في أن ما من شيء يعاكس، بقدر ما يفعل هو، الطبيعة الإنسانية البدائية. وجميع الجهود التي بذلتها الحضارة باسمه لم تجد حتى الآن فتيلا. وتحسب هذه الحضارة انه في مستطاعها ان تتلافى الشطط الفظّ للقوة الغاشمة باحتفاظها لنفسها بالحق في الاحتكام إلى هذه القوة عينها لمواجهة المجرمين، لكن القانون لا يستطيع ان يطال التظاهرات الأعظم حذرا وإرهافا وخفاء للعدوانية البشرية. ولا مفر من ان ينتهي الأمر بكل واحد منا ذات يوم إلى ان يرى ان الآمال التي علقها في صباه على أقرانه ما هي الا أوهام، وبصفتها أوهاما على وجه التحديد ينفض يديه منها. وفي وسع كل واحد منا أن يشعر بمدى ما يكابد في حياته من شقاء وعذاب بسبب سوء نية قريبه. لكن من الظلم ان نلوم الحضارة ونأخذ عليها رغبتها في استبعاد الصراع والمزاحمة من النشاط الإنساني. فلا شك في انهما لازمان، لكن التنافس ليس بالضرورة عدواً، ومن باب الإساءة إلى الأول أن نتخذه ذريعة لتبرير الثاني.

يعتقد الشيوعيون انهم اكتشفوا الطريق إلى الخلاص من الشر. فالإنسان في نظرهم كله طيب، ولا يريد سوى الخير لقريبه، لكن مؤسسة الملكية الخاصة أفسدت طبيعته. فامتلاك الأملاك يقلد القوة لفرد بعينه ويبذر فيه بذرة النزوع إلى إساءة معاملة قريبه. ومن ثم فان من حُرم من الملك لا بد ان يصبح معاديا للمالك وأن يثور عليه. ويوم تُلغى الملكية الخاصة وتؤول جميع الثروات إلى مشاع مشترك ويغدو في مستطاع كل امرئ ان يشارك في المباهج التي توفرها، ستزول العداوة ونية الإيذاء السائدتان بين البشر. ولما كانت الحاجات جميعا ستجري تلبيتها، فلن يعود للمرء من داع إلى ان يرى في الآخر عدوا، وسيمتثل الجميع بطوع إرادتهم وملء اختيارهم لضرورة العمل. وليس النقد الاقتصادي للنظام الشيوعي من شأني، ولا يسعني أن أنظر هل من المناسب وهل من المفيد إلغاء الملكية الخاصة. اما فيما يتعلق بمسلمته السيكولوجية، فمن المباح لي على ما اعتقد ان أرى فيها وهما لا يقوم على أساس من واقع. صحيح ان إلغاء الملكية الخاصة يجرد العدوانية البشرية وما ينجم عنها من لذة من واحدة من أدواتها، بل من أداة قوية، ولكنه لا يجردها من أقوى أدواتها: وبالمقابل، لا يكون قد تغير شيء في فروق القوة والنفوذ التي تسيء العدوانية استغلالها، ولا في طبيعة هذه الأخيرة. فالعدوانية لم تخلقها الملكية بل كانت تسود بلا منازع وبلا حدود تقريبا في أزمنة بدائية كانت الملكية فيها غير ذات شأن، ولا تكاد غريزة الملكية تفقد لدى الأطفال شكلها الشرجي البدائي حتى تتجلى العداوة لديهم. وتشكّل العدوانية الرسابة التي تتثفّل في قاع جميع عواطف المحبة أو الحب التي تربط بين البشر، ما خلا، ربما، عاطفة واحدة: عاطفة الأم تجاه ابنها الذكر. فحتى لو ألغي والحالة هذه حق الفرد في تملك الخيرات المادية، فسيبقى الامتياز الجنسي الذي ينبع منه بالضرورة أعنف التحاسد وأشد التباغض بين كائنات تحتل مواقع مختلفة في سلم واحد. ثم حتى لو ألغي هذا الامتياز الأخير بإطلاق كامل الحرية للحياة الجنسية، وبالقضاء بالتالي على الأسرة، تلك الخلية المنبتة للحضارة، لما أمكن البتة التكهن بالدروب الجديدة التي سيكون في مقدور الحضارة اختيارها لتطورها. ولا بد، على كل حال، من التكهن بما يلي: أيا يكن الدرب الذي ستختاره، فان السمة التي لا تزول ولا تبيد للطبيعة البشرية ستجّد في إثرها فيه.

ظاهر للعيان انه ليس سهلا على بني الإنسان العزوف عن إشباع تلك العدوانية المميزة لهم. ولو فعلو لما فازوا بأي راحة أو هناء. ان تجمعا حضريا ضيق النطاق، وتلك هي ميزته، يفتح منفذا لذلك الدافع الغريزي إذ يسمح بمعاملة كل من يبقى خارجه معاملة الأعداء. وما هذه الميزة بهزيلة. وتظل هناك على الدوام إمكانية لتوحيد أعداد اكبر فأكبر من الناس بروابط الحب. ولكن بشرط ان يبقى غيرهم خارج عدادهم كي يتلقوا الضربات. وقد سبق لي الاهتمام بالظاهرة المتمثلة في أن المجتمعات المتجاورة، بل المتصاهرة، تتحزب فيما بينها وتتبادل الهزء والسخرية، وعلى سبيل المثال الأسبان والبرتغاليون، ألمان الشمال وألمان الجنوب، الإنكليز والاسكتلنديون... الخ. وقد أطلقت عليها اسم "نرجسية الفروق الصغيرة"، وهي تسمية لا تسهم كثيرا في توضيحها وجلاء أمرها. وفي وسعنا أن نلاحظ ان هذه الظاهرة تنطوي على تلبية مريحة وغير مؤذية نسبيا للغريزة العدوانية، تسهل على أعضاء المجتمع المعني انصهارهم وتلاحمهم. وقد أدى الشعب اليهودي، بحكم تشتته في كل مكان، خدمة جلى، من وجهة النظر هذه، لحضارة الشعوب التي آوته واستضافته، ولكن جميع مجازر اليهود في العصر الوسيط لم تكفّ، واأسفاه، لتجعل تلك الحقبة اكثر أمنا وسلاما بالنسبة إلى الأشقاء المسيحيين. وحين جعل الرسول بولس من حب الناس الكوني أساس جماعته المسيحية، كانت النتيجة المحتومة لذلك أشد التعصب وأكثره تطرفا من قبل المسيحية تجاه غير المهتدين إليها، علما بأن مثل هذا التعصب لم يكن معروفا لدى الرومان الذين لم تكن حياتهم العامة والسياسية قائمة بحال من إلى الأحوال على الحب، بالرغم من أن الدين كان بالنسبة إليهم شأنا من شؤون الدولة وبالرغم من ان دولتهم كانت على الدوام تحمل بصمة الدين العميقة. كذلك لم يكن من قبيل المصادفة التي لا يفهم لها سر أن يلجأ الحرمان إلى اللاسامية كي يحققوا على نحو أشمل وأكمل حلمهم في الهيمنة العالمية، وهانحن ذا نرى كيف ان محاولة إرساء الأسس لحضارة شيوعية جديدة في روسيا تجد نقطة ارتكازها السيكولوجية في اضطهاد البرجوازيين. وكل ما هنالك اننا نتساءل بقلق عما سيفعله السوفييت بعد إفادة برجوازييهم عن بكرة أبيهم.

إذا كانت الحضارة تفرض مثل هذه التضحيات الباهظة، لا على الجنسية فحسب بل أيضا على العدوانية، فاننا نفهم في هذه الحالة فهما احسن لماذا يعسر على الإنسان غاية العسر ان يجد في ظلها سعادته. وبهذا المعنى، كان الإنسان البدائي محظوظ القسمة في الواقع لأنه ما كان يعرف أي تقييد لغرائزه. وبالمقابل، كان اطمئنانه إلى التمتع مُطَولا بمثل هذه السعادة واهيا للغاية. وقد قايض الإنسان المتحضر قسطا من السعادة الممكنة بقسط من الأمان. لكن لا ننس ان الزعيم في الأسرة البدائية كان هو وحده الذي يتمتع بتلك الحرية الغريزية أما الباقون فكانوا يقاسون في أغلال الرقّ من اضطهاده. كان التضاد على أشده إذن في تلك الحقبة السحيقة القدم من التطور الإنساني بين أقلية تستفيد من مزايا الحضارة وأكثرية محرومة من هذه المزايا. وتنبئنا المعلومات الأدق والأصح التي توفرت لنا عبر أعراف المتوحشين الحاليين بأنه ليس من داع البتة لنحسدهم على حرية حياتهم الغريزية: فقد كانوا خاضعين، بالفعل، لقيود من نوع آخر، لكن أشد صرامة، ربما، من تلك التي تغلّ المتحضر المعاصر.

إذا كنا ننحي باللائمة بحق على حضارتنا الراهنة لأنها لا تحقق على نحو كاف نظاما حياتيا قمينا بإسعادنا، مع ان ذلك هو مطلبنا منها، ولأنها تبقي على العديد من الآلام التي كان يمكن، ولو بوجه الاحتمال، تلافيها، وإذا كنا نبذل قصارى جهدنا من جهة أخرى، ومن خلال نقد صارم قاس، كي نكتشف مصادر نقصها وعدم كمالها، فاننا بكل تأكيد لا نمارس في ذلك الا حقنّا الثابت. ونحن إذ نفعل ذلك لا نضع أنفسنا في صف أعدائها. كذلك فانه من حقنا ان نتأمل منها أن تقوم رويدا رويداُ بتغييرات قمينة بتلبية حاجاتنا على نحو أفضل، الأمر الذي سيقيها شر هذه الانتقادات. بيد اننا قد نتآلف مستقبلا مع فكرة ان بعض الصعاب القائمة حاليا ترتبط وثيق الارتباط بجوهر الحضارة، ولن تذللها أي محاولة للإصلاح. وناهيك عن الالتزامات التي يفرضها علينا تقييد الدوافع الغريزية، وهي التزامات نحن مهيئون لها، نجد أنفسنا مكرهين على تقليب النظر أيضا في الخطر الذي تثيره حالة خصوصية يمكن ان نسميها "بؤس الجماهير السيكولوجي". فهذا الخطر يصبح داهما حين تكون العلة الرئيسية لقيام الرباط الاجتماعي تَشَبّه أعضاء المجتمع ببعضهم بعضا، بينما لا تتمكن، من جهة مقابلة، بعض الشخصيات التي لها سجية القادة والزعماء من أداء الدور الهام الذي يفترض ان تضطلع به في تكوين الجمهور. ولعل وضع أميركا الراهن يتيح فرصة طيبة لدراسة هذا الأذى المخيف النازل بالحضارة. وهنا أقاوم إغراء الاندفاع في انتقاد الحضارة الأمريكية، حرصا مني على عدم إعطاء انطباع بأنني أبغي أنا نفسي استعمال طرائق أمريكية.