ماهية الكون والميتافيزياء

ثمَّة نوع من الأسئلة والتساؤلات (بعضها قديم، وبعضها جديد، وبعضها قديم ـــ جديد) يكفي أنْ تثور في ذهنك، وتستبدُّ إجاباتها في تفكيرك، حتى تكون قد انْتَقَلْتَ إلى أرض جديدة من المعرفة والفكر والعِلْم هي "الكوزمولوجيا"، التي فيها، وبها، شئنا هذا أم أبَيْنا، نعود (لكن كما تكون العودة في مسارٍ حلزوني لولبي) إلى "الأرومة" من شجرة المعرفة، أيْ إلى حيث كان من الصعوبة بمكان تمييز "الفلسفة (سؤالاً وجواباً)" من سائر المعرفة (سؤالاً وجواباً).

إنَّكَ تسأل (وتتساءل) إذْ سلَّمْتَ بنظرية "تمدُّد الكون (واستمرار وتسارُع تمدُّده الآن)": "إذا رجعنا القهقرى في هذا المسار فهل نرى الكرة الكونية (المتمدِّدة المتضخِّمة) تنكمش وتتقلَّص (حجماً) وصولاً إلى الموقع (أو النقطة) الذي منه بدأ الانفجار (الكوني) العظيم Big Bang؟"؛ "وإذا كان الكون يتمدَّد، فإلى أين يتمدَّد (أو هل يتمدَّد في فضاءٍ آخر؟)؟"؛ "هل لنا أنْ نعرف ماذا كان يُوْجَد، أو ماذا حَدَثَ، قبل الانفجار العظيم؟"؛ "إذا كان الكون قد وُلِدَ (بفضل "الانفجار العظيم") من نقطة (متناهية في الصِّغَر، أو عديمة الحجم) فلماذا كل شيء في الكون يُوْجَد (فحسب) عند، أو على، الحدِّ الخارجي للبالون الكوني، ولا شيء يُوْجَد في داخل هذا البالون؟"؛ "هل كان من وجودٍ لفضاءٍ قبل الانفجار العظيم، فشرع الكون الوليد يتمدَّد فيه؟"؛ "وإذا لم يكن من وجود لهذا الفضاء، على ما تزعم نظرية الانفجار العظيم، وإذا كان الفضاء نفسه مُنْتَجاً من منتجات الانفجار نفسه، فأين كان الكون قبل هذا الانفجار؟"؛ "هل ثمَّة ما يسمح، ولو نظرياً، بالاعتقاد بوجود عدد لا نهائي من الأكوان (Multi – Universes)؟"؛ "إذا سَلَّمنا بنظرية الانسحاق العظيم Big Crunch فهل ينتهي هذا الانكماش إلى النقطة نفسها (Singularity) فيُوْلَد كون آخر (بفضل انفجار آخر)؟".

وهذه الأسئلة والتساؤلات (الكونية، الكوزمولوجية) إنَّما هي غيضٌ من فيض؛ وأنتَ يكفي أنْ تتوصَّل إلى إجابة أحدها حتى يُوْلَد "فراغ معرفي جديد"، هو كناية عن أسئلة وتساؤلات جديدة؛ وينبغي لكَ، من ثمَّ، أنْ تسعى في "ملء هذا الفراغ" من طريق إجابة تلك الأسئلة والتساؤلات (الجديدة) وكأنَّك في مسارٍ (صاعِدٍ) لا نهاية له من "المعرفة" إلى "الجهل"، فَمِن هذا "الجهل" إلى "معرفة جديدة"، فَمِن هذه "المعرفة الجديدة" إلى "جهلٍ جديد"؛ ولن تَبْلُغ أبداً "الدرجة العليا" من "سُلَّم المعرفة"؛ لأنْ لا درجة عليا (أخيرة، نهائية) لهذا السُّلَّم؛ ولو لم يقع هذا القول موقعاً حسناً من نفوس المتوفِّرين على إنشاء وإبداع نظرية "كل شيء".

إنَّني سأسعى الآن في جلاء وتوضيح بعض المعاني والأبعاد الفلسفية التي انطوت عليها نظرية "الانفجار العظيم" في مثالها الشهير، أيْ مثال "البالون المتمدِّد"؛ لكنْ، ألا ينبغي لنا قبل ذلك أنْ نَعْرِف ما هو الكون؟!

إذا أرَدْنا إجابة، تَعْدِل، أو تشبه، "التعريف"، أي أنْ نُعرِّف فيها هذا "الشيء" الذي نسمِّيه "الكون"، فإنَّنا سنتورَّط في مشكلة نظرية كبيرة، هي "مشكلة التعريف"؛ ذلك لأنَّ تعريف "التعريف" هو أنْ نَنْسِب الضيِّق (من الأشياء والظواهر..) إلى الواسع، والواسع إلى الأوسع، فأنتَ حين تُعرِّف "الأوكسجين" تقول إنَّه "غاز.."؛ وحين تُعرِّف "البرتقالة" تقول إنَّها "فاكهةٌ.."؛ وحين تُعرِّف "الكلب" تقول إنَّه "حيوانٌ..". وإذا كان كل أوكسجين غاز، فليس كل غاز أوكسجين؛ وإذا كانت كل برتقالة فاكهة، فليس كل فاكهة برتقالة؛ وإذا كان كل كلب حيوان، فليس كل حيوان كلب.

إنَّكَ يكفي أنْ تقول في تعريف "الكلب"، مثلاً، إنَّه "حيوان.."، وأنْ تدْرِكَ، من ثمَّ، أنَّ كَوْن كل كلب حيوان لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ كل حيوان كلب، حتى تَكْتَشِف جوهر وقوام العلاقة المنطقية بين الطرفين، أي بين "الكلب" و"الحيوان"، أو بين "الخاص (أو الفَرْد)" وبين "العام" من الأشياء.

وأنتَ قبل (وتوصُّلاً إلى) تعريف "البرتقالة"، مثلاً، على أنَّها "فاكهةٌ.."، أيْ قبل أن تستهلَّ تعريف "البرتقالة" بعبارة "إنَّها فاكهة"، لا بدَّ لكَ من أنْ تَعْقِد "مقارنة" بين "البرتقالة" وبين أنواع أخرى من الفاكهة (كالعنب والموز). وعقد "المقارنة" إنَّما هو البحث في (أو عن) أوجه التماثُل (التشابه) والاختلاف (التباين) بين شيئين، أو أكثر.

وبَعْد "المقارنة"، لا بدَّ لكَ من الانتقال إلى "التجريد (النظري)"، فلا "تعريفَ" لشيءٍ إلاَّ عَبْر، وبَعْد، "التجريد"؛ فأنتَ لن تُعَرِّف "البرتقالة" إلاَّ بَعْد أن تُنحِّي أوجه الاختلاف والتباين بينها وبين العنب والموز..

ومع احتفاظِكَ بأوجه التماثل، أو التشابه، بينها وبين العنب والموز..، تتوصَّل إلى "التعريف"، أيْ إلى تعريف "البرتقالة" على أنَّها "فاكهةٌ..".

إنَّ تعريف الشيء، أي شيء، يَسْتَلْزِم أوَّلاً مقارنته بأشياء، بينه وبينها أوجه تماثُل (تتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع أوجه الاختلاف). وليس من شيء في الكون، مهما كَبُرَ أو صَغُرَ، لا تقوم بينه وبين سائر الأشياء تلك العلاقة المتناقضة، أي علاقة "التماثُل" و"الاختلاف"، في الخواص والصفات..

ونحن إذا نَظْرنا إلى كَوْننا على أنَّه "شيءٌ"، فلا بدَّ لنا، إذا ما أرَدْنا "تعريفه"، من أنْ نقارنه أوَّلاً بـ "أكوان أخرى"، أي بأشياء من جنسه، كما قارنَّا "البرتقالة" بأنواع أخرى من الفاكهة؛ فأين هي الأكوان الأخرى، إذا ما افْتَرَضْنا أنْ لا كَوْن إلاَّ كوننا، أو إذا ما افْتَرَضْنا أنَّنا، ولأسباب موضوعية صرف، لن نتمكَّن أبداً من إدراك وجود كون آخر (أو أكوان أخرى) مع أنَّه موجود فعلاً، أو يمكن أن يكون موجوداً بالفعل؟!

بَيْد أنَّ هذا الذي قُلْنا في أمْر "التعريف" لَمْ يَحُلْ بين القائلين بنظرية "الانفجار العظيم" Big Bang وبين أنْ يُعرِّفوا الكون (تعريفاً مُخْتَصَراً، وفي كلام جامع مانع) على أنَّه "كلُّ شيء (نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف)".

الإنسان، وبـ "عينه المجرَّدة"، نَظَر إلى الكون، وظلَّ يَنْظُر إليه زمناً طويلاً؛ وها نحن اليوم نَعْرِف ونُدْرِك أنَّنا لا نستطيع التوسُّع في رؤية الكون من غير "أداة"، يمكن تسميتها "العين الاصطناعية"، التي إمَّا أن تكون "التليسكوب"، الذي بفضله نرى المجرَّات والنجوم وسائر الأجسام البعيدة؛ وإمَّا أن تكون "الميكروسكوب"، أو "المجهر"، الذي بفضله نرى ما تناهى (أو بعضاً مِمَّا تناهى) في الصِغَر من الكون، كالجزيئات والذرَّات. ولكن، يجب أن نَعْلَم أنَّ "التليسكوب"، أو "الميكروسكوب"، هو كـ "المرآة"، لا تُرينا إلاَّ ما نُريها (من الأشياء).

نحن البشر نعيش على سطح كوكب، عُمْره خمسة بلايين سنة، أي 5000 مليون سنة، هو "كوكب الأرض"، الذي يدور حَوْل نفسه، أو حَوْل محوره، مرَّة واحدة يومياً؛ ويدور، في الوقت نفسه، حَوْل نجمنا، أي الشمس، مرَّة واحدة سنوياً.

وعندما ننظر في السماء، ليلاً، نرى كواكب أخرى كالمريخ، والزهرة، والمشتري، وزحل، تنتمي جميعاً إلى النظام نفسه الذي ينتمي إليه كوكب الأرض، وهو "النظام الشمسي" Solar System، الذي يتَّخِذ من الشمس مركزاً له.

ولو جئنا بميزان كوني ضخم، وَوَضَعْنا في إحدى كفَّتيه كل كواكب النظام الشمسي، وفي الكفَّة الأخرى، الشمس، لَوَجَدْنا أنَّ وزن الكواكب جميعاً يقل عن 1 في المائة من وزن الشمس، التي، مع كواكبها، تَعْدِلُ قطرة في بحر نظام كوني أوسع هو مجرَّتنا، مجرَّة "درب التبَّانة" Milky Way، فهذه المجرَّة، أو "الجزيرة الكونية"، تضمُّ آلاف الملايين من النجوم، أو الشموس، التي كثيرٌ منها أعظم حجماً، وكتلةً، من شمسنا، وبكثير؛ وكلُّ نجم نراه ليلاً إنَّما هو جزء من مجرَّتنا؛ ونجوم مجرَّتنا جميعاً تدور حَوْل مركزٍ بعيد (هو، أو يكمن فيه، "ثقب أسود (Black Hole) ضخم".

وتضمُّ مجرَّتنا سُحُبَاً ضخمة من الغبار والغاز، منتشرة بين النجوم. وهذه السُّحُب المنتشرة بين النجوم، في مجرَّتنا، تعترض سبيل الضوء المرئي المنطلق من نجومها البعيدة (عن كرتنا الأرضية) فلا يتمكَّن، من ثمَّ، المراقبون في الأرض من أن يروا في تفصيل ووضوح الأجزاء البعيدة من "درب التبانة"؛ أمَّا نواة مجرَّتنا فما زالت حتى الآن منطقة يكتنفها الغموض، تَحْجِبها عن الرؤية سُحُب داكنة مُظْلمة من الغبار بين النجوم.

شمسنا إنَّما هي نجم متوسط الكتلة والحجم من بين 100 بليون (100000 مليون) نجم (تقريباً) تضمها مجرَّتنا (مجرَّة "درب التبانة"). ويبعد هذا النجم،أي نجمنا، عن مركز مجرَّتنا نحو 24 ألف سنة ضوئية. ومعظم النجوم التي نراها بالعين المجرَّدة تبعد عنَّا ما بين 10 سنوات ضوئية و 100 سنة ضوئية.

أمَّا المجرَّة الأقرب إلينا، وهي "آندروميدا" Andromeda فتبعد عنَّا 3 ملايين سنة ضوئية، أي أنَّنا نراها الآن في الحال، أو الهيئة، أو الصورة، التي كانت عليها قبل 3 ملايين سنة.

وحتى وقت ليس بالبعيد كان بعض الفلكيين يعتقدون بأنَّ مجرَّتنا هي الكون كله، وبأنَّ مركزها هو نفسه مركز الكون.

ونتوسَّع في رؤية الكون أكثر، فنَجِد أنَّ مجرَّتنا هي جزء من نظام كوني أوسع وأكبر هو "عنقود Cluster (تجمُّع، جماعة، طائفة، مجموعة، تكتُّل، اتِّحاد، زمرة) المجرَّات"، الذي يضمُّ مجرَّات كثيرة. وليس في وسعنا، حتى الآن، أنْ نَعْرِف عدد "عناقيد المجرَّات" في الكون المرئي، أي الكون الذي نستطيع رؤيته (أو إدراك وجوده) الآن.

في الكون، لا وجود لنجم مُنْعَزِل، أي غير مُنْتَمٍ إلى مجرَّة ما، يهيم على وجهه في الفضاء؛ كذلك لا وجود لمجرَّة مُنْعَزِلة، فكل مجرَّة إنَّما هي فَرْدٌ من جماعة، أو طائفة، أو مجموعة، من المجرَّات. وتختلف "مجموعات المجرَّات" حجماً وكتلةً وشكلاً؛ وكل "مجموعة" تشتمل أيضاً على كل مادة تنتشر في الفضاء بين مجرَّاتها، كمادة الغاز الحار، الذي لحرارته العالية يُطْلِق "أشعة سينية" X - Rays بدلاً من الضوء المرئي.

و"القوَّة (أو "الصمغ")" التي تبقي "مجموعة المجرَّات" متماسكة، متَّحِدة، إنَّما هي "الجاذبية البَيْنِيَّة"، أيْ "الجذب المتبادل" بين مجرَّات ومكوِّنات وعناصر "المجموعة".

ومعظم المادة في "مجموعة المجرَّات" هو مادة غير ظاهرة، غير مرئية (مادة داكنة أو مُظْلِمة) Dark Matter. ولَمَّا كانت "مجموعة المجرَّات" هي التكوين (البناء، البُنْية) الأوسع والأضخم والأثقل في الكون، والمتَّحِد جاذبياً، استنتج العلماء أنَّ معظم المادة في الكون كله يجب أن يكون مادة غير ظاهرة، غير مرئية، أي "مادة داكنة (أو مُظْلِمة)". هذه المادة، التي ما زال وجودها نظرياً وافتراضياً، حتى الآن، وإلى حدٍّ كبير، لا تُرى؛ ولكن يمكن الاستدلال على وجودها من خلال "تأثيرها الجاذبيِّ" في ما حَوْلها من أشياء وأجسام.

في الكون، نرى كواكب تدور حَوْل نجم (ينتمي، حتماً، إلى مجرَّة). ونرى نجوماً تدور (وكأنَّها في رقص بطيء) حَوْل مَرْكَز مجرَّة (تنتمي، حتماً، إلى مجموعة مستقلة من المجرَّات). ونرى كل "مجموعة (Cluster) من المجرَّات" وكأنَّها في رحلة عبر "فضاءٍ فارِغٍ خالٍ في منتهى الاتِّساع". إنَّها لا تتحرَّك، ولا تنتقل، "في"، أو "عَبْر"، الفضاء؛ ولكنَّها تبدو لنا كذلك، فالفضاء نفسه هو الذي يتمدَّد، فتتَّسِع المسافة بين كل "مجموعة" وسائر "المجموعات"، التي بعضها في منتهى الكِبَر والضخامة Super Cluster.

إذا كنتَ مِمَّن يعتقدون بـ "نظرية الانفجار العظيم" فإنَّ عليكَ أن تَعْتَقِد بالآتي: هذا الكون، بكل ما يشتمل عليه من "عناقيد المجرَّات"، كان قبل نحو 13.5 بليون سنة في حجمٍ أصغر كثيراً من حجم نواة ذرَّة، أو من حجم البروتون؛ ومع ذلك كان في "الثقل" نفسه، أيْ أنَّ كل "كتلة" و"طاقة" الكون كانت مركَّزة (مُكَثَّفَة، مضغوطة) في حيِّزٍ متناهٍ في الصِغَر والضآلة، يمكن أن نسميه "البيضة الكونية"؛ ولقد "انفجرت" هذه "البيضة"، فشرع حجم الكون هذا يتَّسِع ويكبر حتى أصبح الكون في حجمه الذي نراه اليوم. وما زال الكون في تمدُّد مستمر (ومتزايد).

في البدء، وبحسب نظرية "الانفجار العظيم"، لم يكن من "وجود" إلاَّ لشيء واحد فحسب هو "البيضة الكونية" Cosmic Egg؛ ثمَّ كان "الانفجار الكبير".

إنَّه انفجار عظيم، ليس كمثله انفجار، فذاك "الشيء"، الذي هو، أيضاً، ليس كمثله شيء، والذي يسمِّيه بعض القائلين بتلك النظرية "البيضة الكونية"، "انفجر"، فَوُلِدَ من "انفجاره" كل شيء.

"شيءٌ" ليس كمثله شيء، "انفجر" انفجاراً ليس كمثله انفجار، فنشأ "كل شيء (نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف)".

ولكن، ما هو ذلك "الشيء"، أي "البيضة الكونية"، الذي منه جاء، أو انبثق، أو وُلِد، أو نشأ، الكون الذي نَعْرِف، قبل نحو 13.5 بليون سنة؟

في الإنكليزية، يسمُّونه "Singularity"؛ ومن المعاني اللغوية لهذا الكلمة: مُتَفَرِّد، فريد، مُنْفَرِد، فَرْد، مُفْرَد.

وهذه "النقطة المتناهية في الصِغَر"، أو "البيضة الكونية"، هي "شيء نسيج وحده (لا مثيل له)".

وإذا كان للكون "نواته"، فإنَّ "الانفجار الكبير" يمكن وصفه بأنَّه "فالِق النواة"، أي "نواة الكون". ولْنَتَذَكَّر، في هذا الصدد، وجود "نواة" في أشياء أخرى كـ "الذرَّة"، و"النجم"، و"المجرَّة"، و"الثقب الأسود".

وإنِّي لأُفضِّل الـ "فَرْد" تسميةً لذلك "الشيء"، الذي "تَعْجَز" الفيزياء عن وصفه، أو عن معرفة ماهيته، فـ "الفَرْد" هو الذي لا نظير له، ولا مثل، ولا ثاني؛ وهو في "صفات الله"، "الواحد الأحد".

تلك "النقطة (Singularity)"، التي منها جاء الكون، كانت في "حجمٍ"، إذا ما قُلْنا بوجود "حجمٍ" لها، يقلُّ كثيراً، وكثيراً جدَّاً، عن حجم "البروتون"؛ ومع ذلك كانت بـ "وزن" الكون كله، ففيها تركَّزت كل مادة الكون، أي كل كتلته وطاقته؛ وهي، بـ "معيار الكثافة"، النقطة ذات "الكثافة المطلقة". إنَّها اجتماع "الحجم الصفري (أو المعدوم)" و"الكثافة المطلقة".

أنتَ تَعْلَم أنَّ "الكثافة" هي مُنْتَج لعلاقة بين "الكتلة" و"الحجم" في شيء معيَّن، فكلَّما زادت "كتلة" شيء ما، وتضاءل "حجمه"، اشتدت "كثافته"، فإذا ألْغَيْتَ "حجمه" إلغاءً مُطْلَقاً، كأنْ تقول إنَّه "صفري"، أو "معدوم" الحجم، فهذا إنَّما يعني (على استحالة حدوث ذلك على ما أرى) أنَّ "كثافته" تغدو "مُطْلَقة (لا نهائية)"، مهما عَظُمَت، أو صَغُرَت، "كتلته".

من أين جاءت هذه "البيضة الكونية"؟

ما الذي جعلها "تنفجر"؟

إنَّهما سؤالان ينتميان بإجابتيهما إلى "المعرفة المستحيلة"، بحسب وجهة نظر أصحاب هذه النظرية وأنصارها، والذين يُحْيون فكرة "الشيء في ذاته (Thing in itself)" لكانط وهي رميم، فهذا الفيلسوف الألماني فَهِمَ الشيء، أي كل شيء، على أنَّه "جوهر" لا يمكننا أبداً معرفته وإدراكه، فالشيء "في جوهره" هو "المستحيل إدراكاً ومعرفةً"!

لقد أسَّسوا لنظريتهم "منطقاً"، بموجبه فَقَدَ السؤال "ماذا كان يُوْجَد قبل الانفجار؟" منطقه!

عندما يُسْأل أصحاب نظرية "الانفجار العظيم" عن وجود الزمن قبل "الانفجار"، يجيبون قائلين: إنَّنا لا نعرف الحالة التي كان عليها الكون عند "الانفجار"، أو قبله؛ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال ليست ممكنة؛ لأنْ لا وجود للزمن حتى يصح استعمال كلمة "قَبْل"، فـ "قَبْل" إنَّما هي "ظرف زمان"، ولا وجود لـ "ظروف الزمان" ما دام الزمن نفسه غير موجود؛ إنَّ السؤال نفسه يصبح خاطئاً، وإنَّ من الخطأ، من ثمَّ، أن تسأله!

أنتَ لا تستطيع أنْ تسأل "ماذا كان يُوْجَد قبل الانفجار العظيم، أو قبل البيضة الكونية؟"؛ لأنَّ الزمن لم يكن قد خُلِق بَعْد؛ لكنَّكَ تستطيع أنْ تسأل السؤال نفسه إذا ما كان جوابكَ هو الآتي: "كان يُوْجَد الله"!

لا تَقُلْ أبداً "إلى الأبد"، فالزمان نفسه، على ما يزعمون، ليس بالأبدي؛ وإنَّ له عُمْراً، فهو وُلِدَ، ولسوف يموت، مهما عَمَّر؛ وإنَّ من السُخْف بمكان أن تَسْتَعْمِل "ظروف الزمان" في سؤالكَ عمَّا حَدَث قبل خَلْق "الانفجار العظيم" لـ "الزمان"؛ ولكن ليس من السُخْف في شيء إذا ما سألْتَ السؤال السخيف الآتي: "كم عُمْر الزمان؟"!

ولو سألْتَ أحدهم عن عُمْر الزمان لأجابكَ على البديهة قائلاً: "الزمان هو الآن في طور الشباب؛ إنَّ عُمْره 13.5 بليون سنة"!

والآن، لِنَعْدْ إلى مثالهم الشهير الذي من خلاله شرحوا وبَسَطوا لنا "تمدُّد الكون".

خُذْ بالوناً كبيراً (أبيض اللون مثلاً) ونَقِّطْ سطحه، أيْ ارْسُمْ نُقَطاً، أو دوائر صغيرة، باللون الأسود، على سطحه؛ ثمَّ اشْرَعْ في نفخه، أيْ أَدْخِل من فمكَ هواءً فيه، فتراه يتمدَّد، أو يَكْبُر حجماً، وترى النُّقَط (على سطحه) تتباعد وكأنَّها تتنافَر؛ وكل نقطة هي كناية عن مجموعة من المجرَّات؛ أمَّا ما يَفْصِل بين هذه النُّقَط (أو المادة المطَّاطية التي منها صُنِع البالون) فهو كناية عن الفضاء الكوني، أيْ الفضاء بين مجموعات المجرَّات.

هذا البالون ليس هو الكون (على افتراض أنْ لا كون إلاَّ كوننا). إنَّ جزءاً من هذا البالون، هو "سطحه (المنقَّط)"، هو كل الكون، أو الكون كله؛ فكل شيء نَعْرِف أو يمكن أنْ نَعْرِف (وهذا هو "تعريف" الكون) يُوْجَد (ويُوْجَد فحسب) على السطح من هذا البالون؛ فإنَّ كل المادة، كل الأجسام والجسيمات، كل القوى والحقول، الفضاء والمكان والزمان، أيْ كل شيء، يُوْجَد على هذا السطح؛ فلا شيء يُوْجَد في "الداخل (أو في الباطن)" من البالون الكوني، ولا شيء يُوْجَد في "الخارج" منه.

في "البالون قَيْد النفخ"، نرى غشاءه يتمدَّد ويَكْبُر بسبب ضغط جزيئات الهواء (الذي نُدْخِله في البالون) على الغشاء؛ فهذا "الضغط الخارجي (لجهة صلته بالغشاء)" هو الذي يَجْعَل مادة البالون المطَّاطية تتمدَّد، فتتباعد "النُّقط" التي رسمناها على سطحه.

أمَّا في "البالون الكوني" فلا وجود لمثل هذا "الضغط الخارجي"؛ فإنَّ الفضاء بين مجموعات المجرَّات هو الذي يتمدَّد من ذاته، فنرى كل مجموعة من المجرَّات تبتعد، أو ترتد، عن سائر المجموعات؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ كل مجموعة من المجرَّات لا تتحرَّك، ولا تنتقل، في الفضاء، أو عَبْرِه، وإنَّما معه وبه، وكأنَّ هذا الفضاء ينطوي على "قوَّة" تُباعِد بين مجموعات المجرَّات.

والفضاء بين مجموعات المجرَّات، وعلى ما اكتُشِف حديثاً، يشتمل على نوع مخصوص (غريب) من الطاقة، يسمَّى "الطاقة الداكنة (أو المظلمة)" Dark Energy؛ وإلى هذه الطاقة يُعْزى تمدُّد (واستمرار وتسارع تمدُّد) الفضاء، والكون كله، من ثمَّ؛ وكلَّما تمدَّد الفضاء ازدادت سرعة تمدُّده، وكأنَّ هذه "القوَّة (أي "الطاقة الداكنة")" تَعْظُم وتَشْتَد (تأثيراً) مع كل تمدُّد للفضاء الكوني.

و"الطاقة الداكنة" يشتمل عليها كل فضاء، وليس الفضاء بين مجموعات المجرَّات فحسب؛ فهي موجودة في الفضاء الداخلي لكل مجموعة من المجرَّات، أيْ موجودة بين المجرَّات التي منها تتألَّف مجموعة المجرَّات؛ وهي موجودة أيضاً، وعلى سبيل المثال، في الفضاء الداخلي لكل مجرَّة، أيْ موجودة بين النجوم التي منها تتألَّف المجرَّة؛ وليس ثمَّة ما يَمْنَع، نظرياً، من افتراض وجودٍ لها في داخل الذرَّة؛ فهي، أيْ "الطاقة الداكنة"، وكما ذَكَرْنا من قبل، موجودة، وواجبة الوجود، في كل فضاء.

لكنَّ "الطاقة الداكنة" في الفضاء الممتلئ بـ "المادة"، و"الكُتَل الكونية الضخمة"، كالمجرَّات والنجوم، لا تستطيع جَعْل هذا الفضاء يتمدَّد؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "الجاذبية" ضِمْن هذا الفضاء تَكْبَح وتُقاوِم الفِعْل الذي تفعله "الطاقة الداكنة" المنتشرة في الفضاء بين مجموعات المجرَّات (فِعْل التمدُّد).

"الطاقة الداكنة" موجودة في الفضاء الداخلي لمجموعة المجرَّات، وفي الفضاء الداخلي لكل مجرَّة؛ لكنَّها موجودة على هيئة "قوَّة مكبوحة (مقهورة، مسيطرٌ عليها)".

إنَّ نظرية "الانفجار العظيم"، والتي وُلِدَت من ملاحظة تمدُّد الكون، تتهافت مَنْطِقاً إذا لم تُسْعَف بفرضية، أو نظرية، "تمدُّد الفضاء (بين مجموعات المجرَّات) بفعل الطاقة الداكنة التي ينطوي عليها هذا الفضاء"؛ فكيف للكون أنْ يتمدَّد (من خلال التباعد المستمر، المتزايد، والمتسارع، بين مجموعات مجرَّاته) إذا لم يكن من وجودٍ لفضاء غير الفضاء الذي خلقه "الانفجار العظيم"؟!

أوَّلاً، كان ينبغي لأصحاب النظرية (نظرية "الانفجار العظيم") أنْ يفترضوا أنَّ هذا الفضاء المخلوق هو الذي يتمدَّد (يَكْبُر ويتَّسِع) فيُباعِد (بتمدُّده) بين "ثوابت الكون"، والتي هي "مجموعات المجرَّات"؛ فإنَّ كل مجموعة من هذه المجموعات (وعلى ما افتُرِض) ثابتة (بمفهوم "الحركة الميكانيكية") لا تتحرَّك في (أو ضِمْن، أو عَبْر) الفضاء.

وكان ينبغي لهم، من ثمَّ، أنْ يفسِّروا ويُعلِّلوا تمدُّد الفضاء المخلوق، مع "الانفجار"، وبفضله؛ فلا بدَّ من وجود سبب يجعل هذا الفضاء يتمدَّد؛ ولقد اكتشفوا هذا السبب، وعثروا عليه، في "الطاقة الداكنة".

الفضاء (أي كل فضاء في كوننا) خُلِق مع "الانفجار العظيم"، وبفضله؛ وخُلِق منطوياً على سبب وعلَّة تمدُّده (أيْ "الطاقة الداكنة").

لكن، ما هي العاقبة النهائية المترتبة على استمرار تمدُّد الفضاء الكوني؟

إذا كان تمدُّد هذا الفضاء يتزايد ويتسارع مع كل تمدُّد فهذا إنَّما يعني، أو قد يعني، أنَّ الكون (أو كوننا) لن يَعْرِف أبداً طور "الانسحاق العظيم"؛ فالفضاء الكوني سيَعْظُم حجماً واتِّساعاً، ولن يصل بتمدُّده أبداً إلى "الحدِّ النهائي أو الأقصى"؛ وقد يعني، أيضاً، أنَّ "انفصالاً فيزيائياً تامَّاً ومُطْلقاً" سيقع بين مجموعة المجرات التي إليها تنتمي مجرَّتنا وبين مجموعة (أو مجموعات) المجرَّات الأبعد عنَّا؛ ذلك لأنَّ الفضاء الفاصل بيننا وبينها قد تصبح سرعة تمدُّده تفوق سرعة الضوء؛ وليس من "تأثير فيزيائي" يمكن أنْ ينتقل بسرعة تفوق سرعة الضوء.

ونحن لو عُدْنا إلى مثال البالون لرأينا أنَّ النقطة الأبعد عن نقطتنا تبتعد عنَّا بسرعة تفوق سرعة ابتعاد النقطة الأقرب إلينا؛ مع أنَّ سرعة تمدُّد الغشاء واحدة في كل نواحيه.

إنَّ "الانهيار الجاذبيِّ" للمادة على نفسها لن يكون مشهداً كونياً؛ فهذا الانهيار (الذي منه يُوْلَد "الثقب الأسود") هو المصير النهائي للنجوم الضخمة؛ وقد يندمج "ثقب أسود ضخم" مع آخر؛ وقد ينمو "ثقب أسود" من خلال التهامه لمزيدٍ من المادة في جواره؛ فيكون المشهد الكوني، من ثمَّ، "نُقَطٌ مظلمة" لا عدَّ لها ولا حصر، هي "الثقوب السوداء" تنتشر في الفضاء الكوني الذي يتَّسع ويتمدَّد إلى ما لا نهاية.

وربَّما "تتبخَّر" هذه "الثقوب السوداء"، أو بعضها، بـ "إشعاع هاوكينج"، فيمتلئ الفضاء الكوني المتَّسِع إلى ما لا نهاية بالجسيمات.

أمَّا إذا أرَدْنا لـ "الانهيار الجاذبي" أنْ يشمل الكون كله، وصولاً إلى "الانسحاق العظيم"، وإلى "البيضة الكونية"، فلا بدَّ من أنْ نتوقَّع نشوء ظروف وأحوال كونية جديدة، يضعف فيها، تدريجاً، تأثير "الطاقة الداكنة"، بما يسمح للجاذبية بين مجموعات المجرَّات بأنْ تُقلِّص، تدريجاً، الفضاء الفاصل بينها، فيتحول التمدُّد الكوني إلى تقلُّص وانكماش، وصولاً إلى "البيضة الكونية"؛ وإلاَّ استمر التمدُّد الكوني إلى ما لا نهاية، مُحوِّلاً الوحدة الفيزيائية للكون إلى انفصال فيزيائي (كلِّي أو جزئي).

شيء واحد يمكن أنْ يَحُول دون هذا الانفصال (مع استمرار التمدُّد الكوني إلى ما لا نهاية) هو تزايد سرعة الضوء (وسرعة كل تأثير فيزيائي من ثمَّ) مع تزايد تمدُّد الفضاء بين مجموعات المجرَّات؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ سرعة الضوء الثابتة في الفراغ كانت قديماً أقل، وسوف تزداد مستقبلاً (مع زيادة تمدُّد الكون).

إنَّ تشبيه تمدُّد الكون بتمدُّد البالون يمكن ويجب أنْ يقود إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ الكون على شكل كرة ضخمة متضخِّمة، إذا كان لها داخل فهذا الداخل لا ينتمي إلى كوننا، وليس بجزء منه، وإذا كان لها خارج فهذا الخارج هو أيضاً لا ينتمي إلى كوننا، وليس بجزء منه؛ فالكون، كل الكون، إنَّما يقع على ما يشبه "السطح" من هذه الكرة.

وهذا "السطح" هو "الزمكان (Spacetime) الكوني)"، أي أبعاد المكان الثلاثة (الطول والعرض والعمق) مضافاً إليها البُعْد الرابع، وهو الزمان؛ وهذه الأبعاد الأربعة متِّحدة (مندمجة، متداخلة) اتِّحاداً لا انفصام فيه.

وإنَّ أهمية الشكل الكروي للكون تكمن في كونه يسمح لهذا الجسم "المحدود"، أيْ الكون، بأنْ يكون "لا محدوداً" في الوقت نفسه؛ فليس من "حافة"، أو "نهاية"، لـ "السَّطح الكوني"؛ لأنَّه سطح كروي.

وأنتَ يكفي أنْ تسير في الاتِّجاه نفسه (أيْ في مسارٍ مستقيم) في أيِّ بُعْد من أبعاد الكون المكانية الثلاثة (والتي هي جميعاً تنتمي إلى "السَّطح" من البالون الكوني) حتى تعود إلى النقطة التي انطلق منها سَيْرك.

سِرْ (في مسارٍ مستقيم) إلى الأمام، أو إلى الوراء، إلى اليمين، أو إلى اليسار، في بُعْدَيِّ "الطول" أو "العرض"، فلن تصل أبداً إلى حافَّة الكون، أو إلى نهاية المكان؛ لأنَّ الكون هو "سطح كروي".

سِرْ "نزولاً"، في بُعْد المكان الثالث، وهو "العمق (أو السُّمك، أو الارتفاع)"، في مسارٍ مستقيم، فلن تصل أبداً إلى باطن، أو مركز، "الكرة الكونية"؛ فأنتَ ستنهي سَيْرِك عائداً إلى النقطة التي منها انطلقت.

وسِرْ "صعوداً"، في البُعْد المكاني نفسه، في مسارٍ مستقيم، فلن تَخْرُج أبداً من حدود الكون؛ فأنتَ ستنهي سَيْرِك عائداً إلى النقطة التي منها انطلقت.

وأنتَ يكفي أنْ تسافِر، أو تنتقل، في أيِّ بُعْدٍ من أبعاد المكان الكوني الثلاثة حتى تسافر، أو تنتقل، في "الزمان"، مع أنَّكَ لن تُدْرِك هذا الاختلاف أو التغيُّر في سرعة جريان الزمن لديك.

أمَّا الذي يجعل سفركَ في المكان سفرٌ في الزمان فيكمن في كونكَ تجتاز أمكنة تتفاوت وتختلف انحناءً، أو في كونكَ تسافِر في مركبة فضائية تختلف سرعةً أو اتِّجاهاً.

المراقِب الأرضي، مثلاً، يرى الآن أنَّ الثانية الواحدة عندك وأنتَ في هذا الموضع الكوني تَعْدِل 10 دقائق أرضية؛ فإذا انتقلت إلى موضع كوني أكثر انحناءً يرى أنَّ الثانية الواحدة عندك أصبحت تَعْدِل 50 دقيقة أرضية.

إنَّنا في أسْرٍ أبديٍّ لـ "الزمكان الكوني"؛ فلن نتمكَّن أبداً، ومهما أُوتينا من قوَّة، من مغادرة سطح كُرَتنا الكونية إلى خارجها، أو من مغادرته، "نزولاً"، إلى مركزها.

وليس من جسيم في الكون، ولو كان يسير بسرعة الضوء، يُمْكِنه الإفلات من قبضة كوننا، أيْ من قبضة سطح كُرِتنا الكونية؛ وهذا إنَّما يعني أنْ لا شيء، ولا جسيم، يُمْكِنه مغادرة كوننا، أو الانتقال "نزولاً" نحو مركز كُرَتنا الكونية.

ولكن، هل من المنطق في شيء أنْ نتحدَّث عن "الخارج" و"الداخل" في ما يَخُصُّ كوننا، أو الكون، ما دام الكون (أيْ كل شيء نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف) يَقَع (كله) على "السَّطح"، وعلى السَّطح فحسب، من بالوننا الكوني؟

كلاَّ، ليس من المنطق في شيء، بحسب وجهة نظر القائلين بنظرية "الانفجار العظيم"؛ فالكون، وإنْ كان كروي الشكل، لا داخل له، ولا خارج؛ وهو، من ثمَّ، لا يشبه البالون قَيْد النفخ، في هذا الناحية.

وحتى لا يتصدَّع منطق هذه النظرية، وينهار، أُضيف إليها، وأُدْخِل فيها، مفهوم "الفضاء المنفصل انفصالاً فيزيائياً مُطْلَقاً عن كوننا وفضائه (Hyperspace)".

وبحسب هذا المفهوم (Hyperspace) يُمْكننا التحدُّث عن فضاء في داخل كُرَتنا الكونية، وعن فضاءٍ آخر في خارجها (وفيه يتمدَّد كوننا).

وهذا الفضاء، الأقرب معنىً وتصوُّراً إلى الميتافيزياء منه إلى الفيزياء، لا يمكننا أبداً الاتِّصال به، ولا تبادل أي تأثير فيزيائي معه.

والمفهوم نفسه يسمح بافتراض وجود أكوان أخرى (لا يُمْكننا أبداً الاتِّصال بها) في هذا الفضاء الافتراضي (Hyperspace).

ونحن لو عُدْنا إلى "النقطة المتناهية في الصِّغَر (أو عديمة الحجم)" Singularity التي منها وُلِدَ الكون، على يديِّ "القابلة" المسمَّاة "الانفجار العظيم"، لاتَّضح لنا، وتأكَّد، أنَّ في مفهومها، وتصوُّرها، وخواصِّها، من الميتافيزياء ما ينبغي له أنْ يمنع من ضمها إلى الفيزياء، وإدراجها فيها؛ فهل من الفيزياء في شيء القول بشيءٍ ليس كمثله شيء، يشتمل على كل مادة الكون، كثافته مطلقة، عديم الحجم، عديم المكان والزمان والقوى، منه (وبفضل انفجارٍ ليس كمثله انفجار) وُلِدَ الكون، مع الفضاء والمكان والزمان، ومع سائر الأشياء التي نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف؟!

إنَّ تلك "النقطة" ليست من جنس "المادة"، ولا تمتُّ إليها, ولا إلى ماهيتها وخواصِّها الجوهرية، بأيِّ صلة؛ فهي، والحقُّ يقال، "العدم" Nothingness وقد انتزعوه من تربة الدِّين ليغرسوه في تربة الفيزياء، فَصَدَقَ نيوتن إذ دعا الفيزياء إلى الاحتراز والحَذَر من الميتافيزياء.


متابعة وتوضيح:
هل الكون (أو كوننا) على هيئة "كرة ضخمة (تزداد ضخامة)"، أو "بالون ضخم (يزداد ضخامة)"؟

إجابة هذا السؤال، بحسب نظرية "الانفجار العظيم" Big Bang، هي "نَعَم؛ ولكن..".

تَأمَّل "غشاء" البالون الذي يتمدَّد (يَكْبُر حجماً) في استمرار، فَتَجِد "سَطْحَاً" له، كسطح الكرة الأرضية؛ وتَجِد، أيضاً، أنَّ في "مطَّاطيَّة" الغشاء يَكْمُن الأساس من التفسير والتعليل لتمدُّده.

أين يقع الكون (كل الكون)؟

إنَّه يقع على "السَّطح" من هذا "البالون"، وعليه فحسب.

وهذا السَّطح "مُنَقَّط"؛ وكلُّ نقطة (من النُّقَط) تَرْمُز إلى "زمرة" من المجرَّات؛ وكل "زُمْرَة" لا تتحرَّك على هذا السَّطْح؛ وما بَيْن "النُّقَط" هو "فضاء" يتمدَّد ويتَّسِع في استمرار، فنرى، من ثمَّ، أنَّ كل "نقطة" تتحرَّك مبتعدةً (أو مرتدةً) عن سائر "النُّقَط".

وهذا "الفضاء البيني (أيْ الفضاء ما بين "النُّقَط"، أو ما بين "زُمَر المجرَّات") إنَّما يتمدَّد ويتَّسِع في استمرار بسبب "الطاقة الداكنة" التي يشتمل عليها (وكأنَّ وجوده من وجودها فيه). وكلَّما تمدَّد هذا الفضاء عَظُم تأثير هذه الطاقة، فتمدَّد أكثر وأسرع.

هل ثَبُتَ وتأكَّد أنَّ هذا "الفضاء البيني"، والذي هو مُنْتَج من منتجات "الانفجار العظيم"، هو الذي يتمدَّد ويتَّسِع؟

وهل ثَبُتَ وتأكَّد أنَّ "النُّقَط"، أو "زُمَر المجرَّات"، لا تتحرَّك (لا تنتقل) في الفضاء، وأنَّ الفضاء بتمدُّده يُباعِد بينها؟

وهل ثَبُتَ وتأكَّد وجود هذا النوع من الطاقة، والمسمَّى "الطاقة الداكنة"؟

وهل ثَبُتَ وتأكَّد أنَّ "الطاقة الداكنة" هي عِلَّة تمدُّد الفضاء، وأنَّ تأثيرها هذا سيَعْظُم مع كل تمدُّد؟

عن كل هذه الأسئلة والتساؤلات نجيب قائلين: "كلاَّ، لم يَثْبُت، ولم يتأكَّد".

هذا الكون، الموجود كله، مع فضائه، على "السَّطح" من "البالون"، إنَّما يتألَّف من ثلاثة أبعاد مكانية، هي: "الطول"، و"العرض"، و"الارتفاع (أو السُّمك، أو العُمْق)".

هل هذا الكون "محدود" أم "غير محدود"؟

إنَّه "محدود" و"غير محدود" في آن.

إنَّه "غير محدود (لا نهائي)"؛ لأنَّك لو سِرْتَ (في الاتِّجاه نفسه، أيْ في مسارٍ مستقيم) في أيِّ بُعْد من أبعاده المكانية الثلاثة، فلن تَصِل أبداً إلى "نهايته (في المكان)"، أو إلى "حافته"؛ وقد تعود إلى النقطة التي منها انطلق سَيْرك.

سيتأكَّد لكَ ذلك إنْ سِرْتَ (في الاتِّجاه نفسه) إلى الأمام، أو إلى الوراء؛ إلى اليمين، أو إلى اليسار؛ إلى أعلى، أو إلى أسفل.

بهذا المعنى هو، أيْ كوننا، "غير محدود"؛ لكن، بأيِّ معنى هو "محدود"؟

إنَّ إجابة هذا السؤال ليست بسهولة إجابة ذاك.

لِنَعُدْ إلى مثال "البالون المتمدِّد"، توصُّلاً إلى إجابةٍ، إنْ ضَرَبْنا عنها صفحاً، تمزَّق منطق نظرية "الانفجار العظيم" إرباً إرْباً.

تَأمَّلْ الآن "البالون العادي" في تمدُّده، فَتَجِدْ "باطناً" لهذا البالون، وتَجِدَ، أيضاً، فضاءً (فراغاً، مكاناً) يتمدَّد فيه البالون؛ ولولا هذا الفضاء لاستحال تمدُّد البالون.

و"باطن" البالون هو، أيضاً، فضاء؛ وهذا الفضاء يَكْبُر حجماً مع كل تمدُّد للبالون.

أمَّا غشاء البالون (وهو الذي يتمدَّد؛ لـ "مطَّاطيَّته") فيظل له "سُمْك" مهما رَقَّ؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ لغشاء البالون ثلاثة أبعاد مكانية.

في "البالون الكوني (المتمدِّد)"، وبحسب نظرية "الانفجار العظيم"، يقع الكون كله (مع فضائه) على "السَّطْح" من هذا البالون؛ وهذا "السَّطْح" إنَّما يتألَّف من ثلاثة أبعاد مكانية.

وأحسبُ أنْ ليس ثمَّة ما يمنع (حتى بحسب نظرية "الانفجار العظيم") من تصوُّر هذا "السَّطح"، الذي يضم الكون كله، على شكل، أو هيئة، "حلقة (أو سوار)"، لها ثلاثة أبعاد مكانية.

إنَّ كوننا كله، مع فضائه، وبأبعاده المكانية الثلاثة، موجود ضِمْن هذه "الحلقة"؛ وضِمْنها فحسب.

وهذا التصوُّر، لا ينفي، بل يؤكِّد، وجود، ووجوب وجود، "فضاء آخر"، بعضه يقع في "الباطن" من "بالوننا الكوني"، وبعضه يقع في خارجه؛ وفيه يتمدَّد "بالوننا الكوني".

وهذا "الفضاء الآخر (Hyperspace)" موجود؛ لكنَّه ليس بجزءٍ من كوننا؛ لأنَّه لا يقع على "السَّطْح" منه؛ ولكونه كذلك لا يُمْكننا أبداً أدراك وجوده، أو الاتِّصال به فيزيائياً، وكأنَّ وجوده، ولجهة تفاعُل كوننا معه فيزيائياً، لا يختلف في شيء عن "عدم وجوده".

الموجود منه في داخل، أو باطن، "بالوننا الكوني" إنَّما يَضُم "مركز" الانفجار العظيم، والتمدُّد الكوني؛ والموجود منه في خارج "بالوننا الكوني" إنَّما هو الذي فيه (وإليه) يتمدَّد كوننا؛ وهو، أيضاً، الحيِّز الذي فيه يمكن أنْ تُوْجَد (أو تنشأ وتزول) أكوان أخرى، لا يُمْكننا، أيضاً، إدراك وجودها، أو الاتِّصال بها فيزيائياً.

صَغِّرْ "بالوننا الكوني" ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإنَّكَ لن تَجِدَ "مركزاً" للكون، ولو أصبح (إذ صَغَّرْتَهُ) بحجم بطيخة؛ ذلك لأنَّ هذا "المركز" لا يقع على "السَّطْح" من "بالوننا الكوني"، والذي (أيْ هذا "السَّطْح") عليه، وعليه فحسب، يقع كل كوننا، بفضائه، وبأبعاده المكانية الثلاثة.

وإنَّ على القائلين بـ "الثقب الأسود" Black Hole، نظريةً ووجوداً، ألاَّ يعترضوا على فكرة، أو نظرية، أو فرضية، "الفضاء الآخر (Hyperspace)"؛ لأنَّ هذا "الثقب" يشتمل على فضاء (بين مركزه وسطحه) لا يُمْكننا أبداً إدراكه، أو الاتِّصال به، وإنْ كان في مقدور "المراقِب التخيُّلي" الموجود في داخل "الثقب الأسود" رؤية كل ما يقع في خارج هذا "الثقب".

وأحسبُ أنَّ "البيضة الكونية (Singularity)"، والتي منها وُلِدَ كوننا على يديِّ "الانفجار العظيم"، تغدو أقرب إلى الفيزياء منها إلى الميتافيزياء إذا تصوَّرْناها "نقطة (مادية)" في بحرٍ من هذا "الفضاء الآخر (Hyperspace)"، على أنْ يستقيم مفهوماً بشحنه بمزيدٍ من "المادية"؛ فكوننا إنَّما هو قطرة في بحر "الوجود" الذي لا نهاية له، لا في المكان، ولا في الزمان.