بلاد ما بين النهرين



تقدم لنا الحضارات المبكرة في الشرق الأدنى
القد š فرصة فريدة لدراسة نشأة الدين وتطوره
في منطقة ذات أجناس وثقافات مختلطة ظهرت
فيها فيما بعد ديانات التوحيد الكبرى: اليهودية،
والمسيحية، والإسلام التي تدين جميعها ببعض
الدين، للمراحل المبكرة في الفكر الديني في بلاد
ما ب r النهرين موطن السومريين والبابليين والآشوريين.
ولقد كشف علماء الآثار عن بقايا أقدم
المستوطنات القروية (جيرمو Jarmo في العراق، كاتل
هييوك Catal Huyuk في تركيا، وأريحا في فلسطين)
التي كانت موجودة بالفعل في الألف السابع أو
السادس قبل الميلاد، وفي الألف الرابع تعلمت
مجموعات كبيرة من الناس في جنوب بلاد ما بين
النهرين (العراق الحديث) التحكم في مياه نهر دجلة
والفرات، وري السهول المحيطة بهما، وهذا التحكم
في البيئة مكن المدن من الاستقرار على ضفاف
الأنهار، والقنوات الرئيسية.
ومنذ عصور ما قبل التاريخ، وهؤلاء الناس على
وعي بالقوى الروحية التي يعتمد عليها وجودهم،
وتشهد على ذلك بقايا المعابد والهياكل وأماكن
التضحية وتقديم š القرابين والتماثيل الرمزية
الصغيرة، و Šاثيل الآلهة وعادات الدفن، ومع ظهور الكتابة التي وجدت أولا
في أورك Uruk (أو آرك)(Erech ) T حوالي سنة ٣٠٠٠ ق. م، ظهر مصدر جديد
من الشواهد التي زودتنا بما يقرب من نصف مليون وثيقة مكتوبة على الطين
وكذلك بألواح الكتابة التي استخدمت العلامات المسمارية مما جعل من الممكن تتبع
تطورهم الفكري حتى وصول الغزاة من الفرس والإغريق إلى هذه المناطق.
ولقد طوّر السومريون خلال الألف الثالثة قبل الميلاد، وجهات نظر كان
لها تأثير هائل لا على معاصريهم من السومريين الأول فحسب، بل على
خلفائهم أيضا من البابلي r والآشوري r والحيثي Tr والعيلاميين وسكان
فلسط r من الشعوب اﻟﻤﺠاورة الذين اعتنقوا معتقداتهم الأساسية وكان
تصورهم الرئيسي، في جوهره هو أن الكون يتسم بالنظام وأن كل ما يمكن
أن يدركه الإنسان فهو انعكاس لتجلى العقل الإلهي ولنشاط خارق للطبيعة.
والعناصر الرئيسية التي يتألف منها الكون عند السومريين هي السماء
آن an
 والأرض كي ki
 وتبدو الإلهة الأخيرة أشبه بقرص الغلاف الجوى
ليل Lil أو الروح، وهم يعتقدون أن البحر الذي كان في البدء في هو السبب
الأول الذي انبثق عنه الكون اﻟﻤﺨلوق وتشكلت فيه الشمس والقمر والكواكب،
والنجوم وكل يتحرك في طريقه الإلهي المرسوم وما يحدث في السماء
يحدث على الأرض T ثم ظهرت النباتات والحيوانات والحياة البشرية..
أما الكائنات التي تعلو على الإنسان والموجودات غير المنظورة التي
تتحكم في الكون الكبير وتتجسد فيه فكانت بالضرورة توصف بصفات
بشرية من ذلك أنها كالرجال والنساء لها انفعالاتها الطاغية وجوانب ضعفها
كما أنها تأكل وتشرب وتتزوج وتنجب أطفالا وتقتنى خدما ومنازل، لكنها
على خلاف البشر خالدة... «فالآلهة عندما خلقت البشر احتفظت لهم
بالموت، وأبقت الحياة في يدها ».
ولقد اعتقد السومريون، وفقا لما تقوله عقيدتهم الدينية، وقد بقى
قائما في نصوص مفصلة منذ فجر العصر البابلي القد š حوالي ١٩٠٠ ق.
م أن لكل موجود كوني أو ثقافي قواعده وقوانينه الخاصة التي تجعله
يستمر في الوجود إلى الأبد وفقأ للخطة التي وضعها الإله الذي خلقه،
وهى تسمى«مه» me بالسومرية وهناك قائمة (مه) وتشمل (السيادة،
الألوهية ، التاج العرش، ا لملك، الكهانة، الحقيقة،. الهبوط إلى العالم السفلي
والصعود منه، الفيضان، الأسلحة، المعاشرة الجنسية، القانون، الغنى،
الموسيقى، القوة، العدوان،. الأمانة، تدمير المدن، الصناعات المعدنية، الكتابة،
الصناعات الجلدية، البناء، الحكمة، الخوف، الرعب، الصراع، السلام،
الضجر، الانتصار، القلب المضطرب، الحكم (القضاء) « غير أن هذه
التناقضات الظاهرة في تعدد الآلهة Polytheism لم يكن يثير قلقا عند
رجال الدين السومريين . وعندما حل عصر فاره Fara
(حوالي ٢٥٠٠ ق.م)
وضع السومريون مئات الأسماء المقدسة، وصنفوا كلا منها على أنه إله،
(والإله في السومرية هو دينجر ٦) Dingir )، وفي السامية ايل-و) وكتبوا هذه
الأسماء مع تصديرها بعلامة لأحد النجوم، ولكل إله أو إلهة خاصية مميزة،
ومناطق مسؤولية محددة، رغم أن كثيرا منها آلهة ثانوية، لكنهم يجمعونها
في أسرة تلتف حول إله قوي بوصفها زوجات أو أبناء، أو موظفين أو خدما.