السحر والايمان وجهان لعملة واحدة

اصبحنا نعلم بقدرة الايمان على شفاء المؤمنين، بغض النظر عما إذا آمنوا بالله ام بالشيطان ام بالحجر. وهذه الظاهرة اطلق عليها البلاسيبو او العلاج بالوهم. كما نعلم بقدرة الايمان على التحكم حتى بالوظائف الحيوية للجسم كما يظهر ذلك واضحا لدى كهنة البوذية فيما يعرف بالعلاج بالتأمل الصوفي. غير اننا الان نكتشف الوجه الاسود لظاهرة الايمان حيث يمكن استخدامه ليس للشفاء وحسب بل ولجعل المرء مريضا ايضا، وهي ظاهرة اطلق عليها النوسيبو nocebo ومنها يظهر بوضوح ان السحر الاسود والايمان الابيض هما شئ واحد في المضمون، فالايمان يشفي ويمرض انطلاقا من آلية دماغية تطورية..

في عام 1938 في الباما الامريكية أُدخل الى المستشفى المواطن Vance Vanders وعمره ستين عاما في حالة نحف شامل. في خلال بضعة اسابيع فقد 20 كيلوغرام من وزنه وعيونه اصبحتا غائرتين، ليصبح من الواضح ان احدى قدميه في القبر والاخرى في الحياة.

على مدى بضعة ايام لم يتمكن الاطباء من وضع تشخيص لحالته والحالة تزداد نحو الاسوء. غير ان محادثة خاصة بين الطبيب المختص Drayton Doherty وزوجة المريض كشفت خلفية المرض وفتحت المجال لوضع علاج فعال.
حسب الزوجة فإن السبب الذي اطلق المرض هو ان طبيب ساحر دع الزوج الى مقابلته في منتصف الليل في مقبرة منعزلة. غير ان المحادثة انتهت بخلاف حاد في الاراء انتهت بغضب الساحر الذي لوح بزجاجة امام انف الزوج ينطلق منها رائحة حادة واطلق نبوئته او لعنته بأن ايامه في الحياة اصبحت معدودة. فادريس عاد الى البيت يرجف من الهلع يردد دثروني دثروني، واستلقى على فراشه ليموت وهو واثق ان اللعنة لايمكن رفعها.

احتاج الطبيب المختص الى بضعة ساعات ليفكر في الطريقة التي سيستخدمها لرفع اللعنة من عقل المريض. في اليوم التالي يجمع الطبيب افراد عائلة المريض امام سرير المريض ويخبرهم انه في الليل تكلم مع الساحر في المقبرة حيث اخبره عما فعله. يقول الطبيب موضحا وكاذبا:" لقد تمكن من تسريب بضعة بيوض لسحلية الى بطنك، وهذه البيوض فقست. جميع الصغار ماتوا عدا واحد وهو الذي يأكلك من الداخل. الان سأقوم بإخراج هذه السحلية واحررك من اللعنة الشريرة".

بكل جدية قام الطبيب المختص بحقن المريض بأبرة كان قد جهزها خصيصا لممارسة هذا الطقس البسيكولوجي. الحقنة كانت تحتوي على مادة تسبب القئ ولكن المريض لم يكن يعلم بذلك. بعد الحقنة بدء المريض بالتقئ لبضعة دقائق. في لحظة عدم انتباه من المريض تمكن الطبيب من تسريب سحلية صغيرة حية بين القئ، ثم سارع الطبيب الى لفت الانتباه اليها ، يقول:" انظر ماذا تقيئت، الان انت معافى واللعنة رُفعت عنك". نظر المريض بشك ورأى السحلية تخرج من بين القئ، تنفس بعمق وعاد الى السرير لينام نوما عميقا. بعد اثنى عشرة ساعة من النوم العميق صحى وكانه شخص جديد. لقد بدأ يأكل بشهية هائلة وبعد اسبوع جرى اخراجه من المستشفى.

هذه الحادثة كانت ، على الاغلب، المرة الاولى التي يتواجه فيها العلم مع الامراض التي يسببها الايمان في منطقة غير معروفة وغير مبحوث فيها، ليطلق عليها: noceboeffect. نوسيبو تعني " اريد الضرر" وهو تعبير جرى استخدامه عام 1961 من قبل العالم الامريكي Walter P Kennedy واصبح على الفور مشهور على انه فوودوو الموت. على الفور لاحظ الباحث الامريكي كندي ان ظاهرة البلاسيبو المشهورة تملك توأما اخر معاكس لها، توأم شرير، ويقول:" ان كل طبيب لابد انه التقى بتأثير النوسيبو حتى ولو لم يعلم بذلك او لم ينتبه اليه على انه كذلك".

بلاسيبو تعني "اريد الخير" وله تأثير شافي ويتفاعل مع التمنيات الايجابية للمريض بغض النظر إذا كان العلاج بذاته فعال حقيقة او خدعة من حبوب السكر إعتمادا على فعالية الاعتقاد بالوهم، في حين ان النوسيبو هو الامر نفسه من حيث المضمون ولكن معكوساً.
في الكلام اليومي نقول ان المرء يمكن ان يصبح "مريضا بالوسوسة" او " الموت خوفا" وهذا بالذات هو جوهر النوسيبو. الابحاث تُظهر ان الوسوسة (انتظار نتائج سلبية) يمكن لها ان تسبب ضررا للصحة وتزيد الامراض تجذرا وتمنع الشفاء. بمعنى اخر: إذا كنا نخاف ان نصبح مرضى الى درجة الوسوسة فإننا بذلك نجازف ان نمرض.

في الاحوال القصوى يمكن للخوف ان يؤدي الى الموت. في نهاية السبعينات حصل الامريكي سام شويمان Sam Shoeman, على تشخيص الاصابة بسرطان الكبد الغير قابل للعلاج. الاطباء تنبؤا له بالموت بعد بضعة اشهر وحسب ماهو متوقع مات بعد فترة قصيرة. غير ان التشريح اظهر ان التشخيص كان خاطئ. سيمون كان فعلا يملك ورم في الكبد ولكنه كان لايزال في مرحلة الورم الميكروسكوبي ولم يصل الى مرحلة الانتشار. بمعنى اخر فإن سيمون لم يمت من السرطان وانما من ايمانه بأنه مريض بمرض مميت.

حقيقة انتشار تأثير الناسيبو على الانسان يمكن البرهنة عليه احصائيا. احد اكثر النماذج على فعالية تأثير الناسيبو يأتي من مشروع كبير بدئه الباحثين الامريكان عام 1948 ولازال مستمرا حتى اليوم. في إطار هذا المشروع رأى الباحثين ان النساء الذين بأنفسهم يعتقدون ان حظهم بالاصابة بأمراض القلب عالي في خلال فترة العشرين سنة القادمة تكون نسب إصابتهم بأمراض القلب اعلى بمقدار اربعة مرات من شقيقاتهن اللواتي لايفكرن بالامر على الاطلاق، على الرغم من ان نسب الخطورة واحدة.

الغالبية منا عايشت، على الاغلب، تأثير ما للناسيبو في اشكال خفيفة او في اشكال متتداخلة مع قناعات مختلفة في مسيار الحياة اليومية. مثلا إذا قال لنا احد ما اننا نبدو مرضى فإن مشاعر الاسى والضعف ستجتاحنا وسنبدأ بالتفكير فيما إذا كان هناك خطأ ما او نعاني من شئ ما. التأثيرات الجانبية للادوية المكتوبة على العلبة ايضا يمكن ان تطلق مشاعر المرض عندما نقرأها قبل استخدام الدواء. سيبدء المرء ينتظر نشوء الاعراض الجانبية بحيث يمكن ان يصل الى مرحلة تطغى فيها الفكرة تماما ويبدأ بالشعور بها فعلا.

احدى الاختبارات اجراها اليابانيين على 57 طالب لتجربة قدرتهم على تحمل مواد باعثة على الحساسية. الطلاب الذين اعلنوا في الاستمارة السابقة على التجربة على انهم حساسين للغاية ضد نبتة السوس، جرى تغطية عيونهم برباط منع عنهم الرؤية تماما وبعد ذلك قام الباحثين بالمسح على احدى اليدين بورق من شجرة السوس واليد الاخرى بورق من شجرة الكستناء. بعد بضعة دقائق بدأ الجلد الذي مس اوراق السوس بالاحمرار، غير ان الحقيقة ان الباحثين بدلوا الاوراق عند قسم من الطلاب، وفقط عدد ضئيل من الطلاب الذي مس اوراق السوس اصيب فعلا بالحساسية حقيقة.

عام 1981 اجرى العلماء الامريكان في جامعة كاليفورنيا اختبارا على 34 شخصا، حيث اخبروهم انهم ينوون تمرير تيار كهربائي من خلال الرأس وحذروهم ان ذلك قد يؤدي الى وجع في الرأس. وعلى الرغم من انه لااحد من المشاركين بالتجرية جرى تمرير كهرباء من رأسه فعلا ومع ذلك فإن ثلاثة من اربعة اشخاص اشتكوا من وجع في الرأس.

في اختبار جرى عام 1968 في جامعة نيويورك وضعوا اشخاص التجربة في غرفة واطلقوا فيها بخار اخبروهم انه يحتوي على مادة allergen, وهي مادة يمكن ان تسبب الحساسية. نصف الاشخاص الخاضعين للتجربة اصيبوا بمشاكل تنفسية واثناعشرة شخص منهم اصيبوا بطفحة حساسية قوية. بعد ذلك جرت " معالجتهم" بأدوية جرى اخبارهم انها جديدة وفعالة للغاية. بفترة قصيرة اصبحوا جميعا اصحاء. في واقع الامر لم يكن هناك اي مادة باعثة على الحساسية والادوية كانت محاليل ملحية. في هذه التجربة نرى في البداية تأثير الناسيبو الشرير ثم يتبعه تأثير البلاسيبو الصالح.

ماجرى مع الشاب ديريك آدمز ، Derek Adams, عام 2007، يمكن اعتباره من اغرب الاحداث، حيث شارك في تجربة تناول ادوية مكافحة الكآبة على امل الموت بسبب فشله في الحب. ديريك يقوم ببلع 29 حبة، معتقدا انها جرعة كافية ليموت. غير انه يندم على ذلك ويتوجه الى المستشفى على الفور وهناك ينهار وضغط دمه منخفض ونبضه عالي للغاية. جرى نقله على الفور للمعالجة واعطائه سوائل الانترانيفوذ بدون فائدة. غير ان احد الاطباء جاء وذكر ان ادمز يشارك في تجربة كلينيكية على تأثير مضادات الكآبة وانه من مجموعة الادوية الوهمية (البلاسيبو). عندها فهم ادامز ان الدواء الذي استخدمه لامفعول له وخلال نصف ساعة عادت اليه صحته.

الخوف من المرض يمكن ايضا ان يعدي الاخرين. في عام 1998 وفي ولاية تنيسيا الامريكية اعتقد احد المعلمين ان رائحة البزين منبعثة في المدرسة. المعلم اصبح يشتكي من الوعكة ووجع الرأس ودوخان وصعوبة في التنفس. وبسبب ذلك جرى اخلاء المدرسة. في الاسبوع اللاحق مئات الطلاب راجعوا الطبيب مصابين بالاعراض ذاتها. غير ان الطبيب لم يستطع العثور على اي سبب طبي لهذا الشعور، وعلى الرغم من المعاينة والبحث وتحليل الهواء لم يجري العثور على اية نسبة من البنزين او التلوث في الهواء. فيما بعد اظهرت دراسة ان العديد من الطلاب الذين شعروا بالمرض سمعوا او رؤا ان احد الطلاب اصبح مريض. بمعنى ان الطلاب اصبحوا مرضى لانهم كانوا ينتظرون ان يمرضون بالاعراض نفسها.

الميكانيزم الذي يقف خلف هذا الامر غير واضح حتى الان، بسبب انه من الصعب الحصول على موافقة السلطات على اجراء تجارب يمكن ان تؤدي الى ضرر او استفحال مرض المشاركين بالتجربة. ومع ذلك ينطلق الباحثين من العديد من الفرضيات اعتمادا على انها عملية معقدة يشارك فيها الخلايا العصبية والانفعالات الكيميائية والبسيكولوجية، بما فيه الادراكية الاجتماعية.

العمليات العصبية الكيمائية بنتيجة النشاطات الدماغية تعلب دورا هاما حسب التجارب التي يقوم بها البروفيسور الفذ Fabrizio Benedetti من جامعة تورين الايطالية. البروفيسور تمكن من البرهنةعلى ان انتظار الالم يمكنه ان ينشط احد الهرمونات kolecystokinin, CCK, وهو يعمل كأشارة تحفيزية في الدماغ ويدخل في تركيب عملية نقل الالم. مثلا اذا قام الاطباء بتحذير المريض انه سيتألم بعد لحظات ينبعث هرمون CCK لدى المريض وينشأ الشعور بالالم. وبمعنى اخر فإن التوقعات السلبية تؤدي الى نشوء القلق الذي بدوره يؤدي التأثير على مجموعة من العمليات الدماغية.

يشير البروفيسور الى اننا لازلنا بعيدين عن معرفة الميكانيزم غير ان الكثير من اجزائه مكتسب بالتعليم ليتحول الى ردة فعل اوتوماتيكية. اي إذا كان لشخص تجربة ان مشاعر سلبية ، بما فيها الالم، ستنشأ عند سلوك معين سيكون في انتظار رد الفعل محفزا إطلاق ماهو متوقع وعايشه سابقا من حادث مماثل اثار الانزعاج والالم. هذه الظاهرة معروفة من مختلف الدراسات بما فيه الدراسات الامريكية والتي تشير الى ان ستة من عشرة ممن جرى معالجتهم بتسميم الخلايا يصابون بالغثيان عندما يكونون في طريقه الى المستشفى التي تعالجهم والتي تلقوا فيها المعايشة المزعجة.

لذلك تعتبر اللعنات الالهية الصادرة عن السحرة ورجال الدين وعقوبات الاطفال المنزلية لها التأثير العميق نفسه على معايشة الانسان والاضرار بصحته حصوصا في المذاهب التي تركز على العقاب خالقة وسوسة تنتهي بنشوء الامراض العصبية والنفسية والوقوع في الكآبة والامراض. لهذا السبب ينصح الاطباء بعدم الاقتصار على الجوانب السلبية المظلمة او التركيز عليها، عند اخبار المعني، حتى لاتنشأ امراض وتعقيدات جديدة وتتجذر القديمة ويسوء الوضع الصحي والبسكولوجي للانسان. ان الاطراف التي تخطأ في التعاطي مع القدرات النفسية تجازف بأن تصبح "ساحر اسود" على النمط الذي سبق ذكره اعلاه، بغض النظر إذا كان الفاعل طبيب ام رجل دين ام احد الوالدين.