الامراض العقلية والقنوات العصبية

في السابق كان الانسان يعتقد ان الامراض العقلية سببها الجن او الالهة او القوى الشريرة وان ليس لهم علاقة بأعضاء الجسم، خصوصا وان الانسان لم يكن يعلم بوظيفة الدماغ. بل ووصل الاعتقاد بالبعض ان العقل مخلوق بذاته، وعلاقته بالقلب. غير ان الان تمكن الباحثين من الوصول الى ان منشأ هذه الامراض هو الدماغ. ذلك بسبب ان المصاب يملك مركزا دماغيا اما اكبر او اصغر بالمقارنة بالشخص الصحيح ولوجود قنوات معطلة في الدماغ.

حتى اليوم يتمكن الاطباء من معالجة الاصابات من نوع كسر العظم او مرض السكري او السرطان، لكونهم مرتبطين بأنسجة متضررة او مقاييس يمكن التأثير عليها او التهابات بالامكان اكتشافها. هذه المظاهر تعطي الامكانية على إكتشافها في وقت مناسب ومعالجتها وبالامكان متابعتها لاستخدام علاج ديناميكي.

استمر الامر كذلك الى ماقبل بضعة سنوات حيث قام الاطباء بإجراء عمليات جراحية لرؤية مظاهر اعراض امراض بدون القدرة على معرفة خلفيتها. والمقصود الامراض البسكولوجية مثل الكآبة المرضية والشيزوفرينيا والتي نعلم ان جذورها في الدماغ ولكن ليس لها آثار ظاهرة مثل تضرر في الخلايا العصبية او مقاييس غير طبيعية.

لعدة سنوات مضت كان الاعتقاد ان هذه الامراض عوارض نفسية يمكن معالجتها بالجلسات ومساعدة المريض على فهم مرضه. وعلى الرغم من ان cognitiv terapi والاشكال الاخرى من المعالجة النفسانية بدون شك ادوات قوية في معالجة الامراض النفسية والعقلية نفهم اليوم انها لوحدها لاتكفي.

العديد من الامراض العقلية تملك اسباب جسدية تماما مثل بقية الامراض ولذلك لايمكن التخلص منهم لمجرد المحادثة تماما كما لايمكن ذلك مع الامراض الاخرى. التصوير الشعاعي للدماغ اظهر انه وعلى الرغم من ان الدماغ عند المرضى يمكن ان يظهر لنا وكأنه طبيعي غير ان الاشارات العصبية تتبع طرق مختلفة غالبا بالمقارنة مع الاصحاء.

من خصائص الدماغ ان كل منطقة منه تملك وظيفتها الخاصة التي لوحدها لاتستطيع القيام بحل المهامات. مثلا ردة فعلنا على إهانة يجري التحكم فيها بتعاون من قبل مركز تحليل الوضع والذاكرة والغضب والقدرة على ضبط النفس ومركز اتخاذ القرار. إذا فشل احد هذه المراكز في التعاون نجازف بالوقوع في ردة فعل عنيفة بشكل غير متوازن مع الفعل او مثيرة للسخرية او ترتد علينا بتهديد اكبر.

وعلى الرغم من ان الاختصاصيين لازالوا يجهلون الكثير الا انهم اصبحوا يعرفوا ان جزء من اسباب العديد من الامراض العقلية هو عدم كفائة قسم من مراكز القرار او لعدم كفائة قنوات الاتصال بين المراكز.

غالبا يوجد سبب جيني لهذا الخطأ في الخلق، بحيث ان الشخص يتعرض منذ ولادته لاحتمالات كبيرة على تطوير المرض مثلا الشيزوفرينيا او التوتر بنتيجة صدمة. هذا لايعني ان الشخص بالضرورة سيصل الى هذه الحالات المرضية ولكن يعني ان دماغه مسلح بشكل اسوء لمعالجة هذه الاحتمالات بحيث انها قد تخطأ في ارسال الاشارات وتجبر مراكز اخرى على اتخاذ القرار الخاطئ.

المعرفة المبدئة لاسباب هذه الامراض ادت الى تقديم وسائل جديدة للمعالجة. مثلا الجنود الذي يملكون مؤهلات جينية لتنمية مرض التوتر الموضعي نتيجة صدمة يمكن استثنائهم منذ البداية من المهمات ذات المجازفات العالية.

انواع الامراض العقلية PTSD; Posttraumatiskt stressyndrom. احد الاشكال الصعبة لمرض القلق المرضي ( او التأنيب المرضي!) الذي يجعل المرء على الدوام يتذكر ويفكر بمعايشات مؤلمة سابقة. المشاركين بالحروب والمتعرضين للانتهاكات مثل الاغتصاب او التعذيب تستمر معايشاتهم المؤلمة تلاحفهم بنفس القوة كل مرة تعود الاحداث في مخيلتهم للظهور. في الوقت الذي يكون الشخص العادي قادر على إعادة تصور الاحداث المؤلمة، مثلا عندما يحرق اصبعه، بدون ان يشعر بالالم فإن الاشخاص المصابين بهذا المرض لايتمكنون ذلك بمعزل عن الشعور بالالم النفسي والفيزيائي.

OCD; Obsessive-compulsive disorder. سابقا كان يسمى السلوك القسري العصبي وهو حالة تتضمن الفعل القسري والتفكير القسري. مظاهر هذا المرض تظهر بعدة اشكال. غالبا، ولكن ليس على الدوام، يتبع الفعل القسري طابع ثابت مثلا اطفاء واشعال الضوء لعدد من المرات المحددة، عند دخول الشخص او خروجه من الغرفة او المشي بطريقة خاصة مثلا الابتعاد عن السير على بلاطة ذات لون او شكل خاص عند السير في الغرفة. الشخص المصاب يعايش مشاعر عنيفة من القلق والتأنيب إذا جرى منعه/منعها عن ممارسة طقوسه القسرية والحالة تؤدي الى تأثير سلبي قوي على نظام الحياة اليومية الى حد وصف المصاب بالمعوق.

عند المصابين بهذا العارض نجد ان اقسام من الدماغ تكون اصغر من الطبيعي، وعلى الاخص منطقة في فص الجبهة تسمى orbitofrontala cortex (OFC) والقسم الامامي من gyrus cinguli (ACC; Anterior Cingulate Cortex). إضافة الى ذلك فإن قنوات التواصل بين هذه المناطق وبين limbiska syst. نشاطها قليل. كلا المنطقتين ضروريات عند عملية اتخاذ القرار. عند وجود خطأ في هذه الدورة تكون العصبية في اعلى مستوياتها خوفا من ارتكاب خطأ. لهذا السبب يقوم المصاب بتكرار العملية مرات على امل ان يحصل على جائزته الدماغية ليرتاح، غير ان الجائزة لاتصل.

ADHD; Attention-defict hyperactivity disorder. هذه الحالة هي الاكثر شيوعا عند الاطفال. المرض يسبب نشاط عالي من الحركة الدائمة وصعوبة في التركيز. وعلى الرغم من ان المرض مزمن الا ان اغلب المصابين يتعلمون التحكم بمظاهر اصابتهم عندما يكبرون.

الكثير من الباحثين استخدموا التصوير الدماغي من اجل البحث عن اسباب المرض، وعلى الرغم من ان النتائج ليست على الدوام مطابقة الا انه توجد العديد من المؤشرات الواضحة. القشرة الدماغية cerebrala cortex في الفص الامامي عادة تكون اقل عند الاطفال يعانون من هذه الاعراض. والدماغ الاصغر ، والتي بشكل رئيسي تتحكم بالحركة، ايضا صغيرة.

بمساعدة المسح الشعاعي توصلت الباحثة Margaret Semrud-Clikeman من جامعة ميتشيغان من الوصول الى ان الصغر يصل الى 16% بالمقارنة مع دماغ الاطفال الاصحاء. غير ان هذا الفرق فقط لدى الاطفال الذين لا يتناولون عقاقير للمعالجة. من هنا يمكن الاستنتاج ان العقاقير قادرة على ترميم الضرر.

Schizofreni مرض عقلي خطير يؤدي الى الهلوسة ورؤية تصورات خيالية واضطرابات في التفكير والمشاعر. الجينات تلعب الدور الرئيسي في مدى احتمال الاصابة بهذا المرض غير ان انطلاقة المرض تبدأ عند تعرض الشخص لاعباء اجتماعية ونفسية كبيرة او بسبب الادمان على المخدرات.

العديد من الدراسات اظهرت ان الدماغ لدى المصابين بالشيزوفرينا يبدو وكانه مبني ويعمل بطريقة مغايرة للاشخاص المعتادين. في دراسة كبيرة من عام 2008 استخدمت الباحثة الالمانية Andreas Meyer-Lindenberg, المسح الشعاعي من اجل قياس حجم اقسام الدماغ عند 500 شخص، نصفهم مصابين بالمرض. المعطيات اظهرت ان الهيبوكامبوس ، وهي منطقة دماغية تشارك بالذاكرة، والعديد من مناطق القشرة الدماغية الرمادية كانت اصغر عند المصابين بالشيزوفرينيا في حين ان مجموعة اخرى من المناطق الداخلية كانت اكبر. هذه المناطق تسمى corpus striatum.

المناطق الكبيرة لها اهمية في عملية المشاعر ومهمة كقناة تواصل مع بقية المناطق. ذلك يعني ان قنوات التواصل غير طبيعية لدى المصابين بالشيزوفرينيا. الاخاتبارات التي قام بها الباحثان Ian Ellison-Wright; Ed Bullmore اكدت ان المصابين بالشيزوفرينيا لديهم قنوات اتصال اقل في منطقتين من الفص الامامي ( Tininglob) وكرة التينينغ في الجانب الاسفل من الدماغ (الحركة). هذه المناطق بدورها تملك اهمية حيوية للتواصل مع مناطق اخرى.

معرفة دقائق عمل الدماغ لاغنى عنه للتوصل الى طريقة علاج مناسبة. هذا الامر برهنة عليه الباحثة هلين مايبيرغ عندما استخدمت علاج جديد. في احدى محاولاتها العلاجية استخدمت تكنيك " التحفيز العميق للدماغ" ويعني وضع اسلاك كهربائية في الدماغ في منطقة BA25 واطلاق نبضات كهربائية ليجري تحسن ملحوظ على 20 شخص بعد بضعة اسابيع، وصل تقديره الى النصف. هذا الامر يعطي الامل بأيجاد طرق علاج جديدة

Depression 10% من البشر عانوا من الكآبة المرضية العميقة ( السوداوية) مرة ما بحيث ان الثقة بالنفس والقدرة على ضبط المشاعر يخرجان عن السيطرة . المصاب يفقد الرغبة بأي شئ ولايجد متعة في ممارسة اي نشاط وينعزل عن الاخرين ويبقى يحدق في اللاشئ وهو يفكر في مشكلته ويعاني من التفكير بالانتحار.

المصاب بالسوداوية تظلم امامه الدنيا وتتأثر العمليات الحيوية للجسم ليصاب المرء بعدم القدرة على النوم ويفقد الشهية ويصاب بالتعب وتنشئ لديه مشاكل هضمية.

توصل الباحثين الى ان المرض ليس نابع عن مكان محدد وانما ناتج عن فقدان التوازن في العمليات العصبية بين العديد من المناطق في الدماغ. منذ عام 1999 كانت الباحثة هيلينا مايبيرغ من جامعة المدرسة الطبية في جورجيا الامريكية ان النشاط الدماغي يزداد في منطقتين من مناطق الفص الامامي في القشرة الدماغية، بعد ان تكون السوداوية قد انخفضت بفضل المعالجة في حين ينخفض النشاط في قسم اخر من المادة الرمادية واقعة في وسط اعماق الدماغ.

عندما جرى الطلب من اشخاص اخرين ان يفكروا بقضايا مأساوية تسبب لهم سوداوية مؤقتة حصلت النشاطات في ذات المناطق وانما بطريقة عكسية، حيث النشاط الاعلى يصبح منخفض والمنخفض يصبح اعلى. المنطقة العميقة تدعى Brodman area 25 (BA25) وثبت انها تملك دورا حاسما لبناء السودواية. هذه المنطقة لها وظيفة قيادية في تنظيم اعمال مجموعة من المراكز. Daniel Weinberger برهن ان هذه المنطقة اصغر عند الاشخاص المؤهلين جينيا للاصابة بالسوداوية. الامر نفسه نراه بالنسبة للميغدالا المسؤولة عن المشاعر السلبية. لذلك فغن الدماغ عند هذه المجموعة من الاشخاص غير مؤهلة لادارة المزاج ومن المحتمل حتى الثقة بالنفس والشهية والذاكرة، لذلك ترتفع الاحتمالات للاصابة بالسوداوية.