كتاب مالك المطلبي "ذاكرة الكتابة – حفريات في اللاوعي المهمل "

يمكن لمن ينتهي من قراءة كتاب مالك المطلبي "ذاكرة الكتابة – حفريات في اللاوعي المهمل "، يمكنه ان يصنفه ضمن الانطباعات التي تتكفل بها ذاكرة الكاتب، وهي ذاكرة لم يكن قادرا على طمسها بل عمد الى ايقاظها لغويا، مهما كانت اللغة زائفة،كما يقول، مقارنة بالاشخاص والعلامات، وبالاثار الثقافية والسياسية التي عايش الكاتب نموها منذ بداية خمسينيات القرن الماضي وحتى عام 2003، وبالضبط 9/4/2003، حيث " الحرب – والتحرير "، كما جرى هذا التعبير عند غونتر غراس وكيزابرو- اوي الياباني، اللذين تبادلا رسالتين حول الوضع المتشابه بين البلدين قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، ثم اخذ المطلبي على عاتقه التعليق على الرسالتين انطلاقا من التجربة العراقية التي اعترف المؤلف بفارقها البنيوي وتقاربها النسبي معا اذا قيست بالتجربتين.
استغرق الكتاب 153 صفحة ، وهو مقالات انسانية ذات اسلوب ادبي ومحتويات تتوزع بين تجمعات مثقفي بغداد في المقاهي، وبعض مظاهر الانثربولوجيا العامة في ريف من ارياف الجنوب العراقي (حول مدينة العمارة) وعادات السكن في فندق بغدادي متواضع اثناء خمسينيات القرن العشرين، وشئ من الذكريات الشخصية التي تمحورت في تجربة من تجارب الطفولة ذات التطلعات والفضول، العناد والنكوص، فاللاوعي الذي كان قبل ان تحفره الكتابة مهملا، باشر كلامه بلغة ثانوية (الكتابة)ولكنها مشبعة بنضج الكاتب وتملصه، الى حد كبير، من ضغط الرقابة البروتوكولية، اذا جاز هذا الوصف، فحين ياخذ الطفل (الذي هو الكاتب لا غيره) بالمغامرة في تجهيز بنطلون عشوائي، مع والده والخياط، وفي ارتداء السروال الكاركاتيري، في المدرسة الابتدائية الجنوبية يكون المظهر حدثا يتمادى في كونه اضحوكة تعجيبية، لا يستطيع الطفل السيطرة على معناها. وفي الكتابة بعد عقود من الحادثة.. امكنه اعادتها الى جوها.. باسلوب يكاد يطابق الواقعة. ليس هو المرح ولكنه الضحك الذي يمتلئ به كيان قارئ يمتلك خيالات طفل.
في الكتاب، ايضا، وصف لواحدة من الاختلاطات التي لا تنفك عن عدم الوضوح بين الحياة العامة المشتركة بين المسلمين والصابئة وبين الانفصال العقائدي في الحياة الشخصية، حين يشرب الطفل المسلم ماءً من خزان خاص بالطلبة الصابئة، فكل شئ يثور ويضطرب في هذا الطفل ابتداءاً من جوفه وانتهاء بعائلته وعادات التطهير الديني بالماء الجاري وفي مثل هذه الحادثة يصيرللعقائد صياغتها الجنينية. ان القطعة الاخيرة في الكتاب، المسماة " الرقص العام " يمكن ان تكون تأملا طويلا، بسيكولوجية الجماعات بعد 1958، اي بعد سقوط الملكية العراقية والاعلان الاحتفالي بالجمهورية من وجهة نظر الشعب في الجنوب، والذي يريد ان يشارك باي ثمن بالرقص العام الذي كان يمارس بالعاصمة بغداد.
ان الخسائر المادية والمعنوية تتشارك مع المعاملات الشرعية بكل حيلاتها، وتخفف من آلام الزمن الماضي، لانه مضى.. هكذا ببساطة..على انّ آثاره.. لا تستطيع ان تمحو نفسها وتدلف وراء ظرفها الزمني.