وعاءُ العقل والعلم و وعاء العمل ..!
جرى ويجري تمجيد العقل البشري تمجيدا مغاليا وأصبح كل شئ يُقاس بالعقل ويُقال هذا معقول وذاك غير معقول وما هو معقول فهو جدير بالإحترام والإتباع والعمل بموجبه وما هو غير معقول يجدر تركه وتجنّبه ولكن هذا المعيار أو الميزان لم نجد كثيرا من الناس يتصدّون لفكرة ماهيّته وكيفيّة عمل آليّته بل قليلا ما نجد أحدا يسأل ماهو العقل؟ وكلما نعرفه عن العقل أنه منظومة وظائف الدماغ ذلك العضو البشري المحفوظ في رأس الإنسان أو الكائن على تنوّعه وقد تراكمت الظنون والمعتقدات حول الدماغ وأصبح هو الرئيس الذي يُدير كل الأفعال والأفكار والأعمال .
لم ينصرف الناس إلى التساؤل عن ماهيّة العقل وآلياته قدر عُشر معشار تساؤلاتهم عن ماهيّة الله سبحانه ووجوده.
ولو سلّمنا ( أي وافقنا بعد عميق التفكير وتقليب وجهات النظر) أن العقل هو المسؤول الأكبر وحيث أنه نتاج الدماغ وهو بطبيعة الحال الوعاء المادّي للعقل وأعطينا أو أدخلنا معلومات محدّدة إلى دماغ إنسان محدد وطلبنا منه أن يُحاول تشغيل دماغه وفق منهج محدّد أيضا فهل تكون النتائج متطابقة أي أن المخرجات التي يتوصّل لها دماغ إنسان آخر هي نفسها مخرجات جميع الناس الآخرين؟
إذا وجدنا إختلافا بين مخرجات أدمغة الناس فماذا يعني هذا؟
ربما يعني أن الأدمغة ليست متماثلة عند جميع البشر أو أن المنهج المتّبع لم يعمل بنفس الكفاءة والإستيعاب، على فرض أن المدخلات تمت بطريقة خالية من الخطأ أو الإختلاف.
وربّما يكون هناك دماغ أكفأ من الآخر ولكن أيضا ربما كانوا بنفس الكفاءة والمؤهلات عندذاك يحقّ لنا التساؤل عن الأسباب . وقبل تلك الأسباب ربما خطر على بالنا أن مخرجات كل دماغ ما هي إلاّ وجهات نظر يُعالجها دماغ كل إنسان وفق خصائصه ومكوناته وهكذا يضعف أمامنا مفهوم العقل وقوّة حقيقة ما إعتمدنا عليه وقد نتوصّل إلى ظواهر جانبية تشير إلى أن العقل لا يجب الإعتماد عليه تماما للأسباب التي ذكرنا ولأسباب مثيلة أخرى كثيرة
وعندما نكون برغم كل الإعتبارات والإختلافات قد توصّلنا إلى مخرجات نعتبرها نهائيّة فهل أن الإنسان الذي كان ركنا مهما في إنتاجها مستعدّ للعمل بها مباشرةً؟ أزعم ُ أنا والعلم عند الله ان هناك تفاوتا كبيرا بين مبادرة وإسراع بعضهم وبين تلكّؤ وتخلّف البعض الآخروكله يتعلّق أو يتغاير مع القناعة أو التصديق أو الإيمان بتلك المخرجات والحقائق.
فقد رأيت زملاء لي في العمل عند تصميم إحدى المكونات الإنشائيّة وفق الأساليب العلميّة المتّبعة والموثوقة لا يجرؤ على تنفيذ تلك النتائج بل يُحاول أن يزيد عليها أو يُنقص إلى أن يطمئنّ باله ووجدتُ آخرين يجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية للأخذ بكامل ما توصّلوا له عن طريق المنهج العلمي والحسابات الرياضيّة الموثوقة ، فما الفرق بين الإثنين؟ والدماغان مؤهلان تأهيلا متماثلا وسلكا نفس الأسلوب في التوصّل إلى مخرجات متماثلة .
إن هذا التردد يرجع إلى وجود فوارق في المكونات الدماغيّة وبالتالي في المخرجات التي كانت من مفاهيم عقليّة متشابهة .
لنأخذ الجانب المكمّل من هذه الظاهرة ونسأل عن السبب وعن مصدر تلك الجرأة أو الإيمان بالعمل فيماتوصّلنا له من التلكّؤ في ذلك أو عدمه!
مالذي يجعلنا نعمل ما تعلّمناه وما الذي يمنعنا من ذلك؟
إنه ولا شك ليس مهمة عقليّة إذ لو كانت كذلك لتم إنجازها في نفس الوقت الذي توصّلنا فيه إلى الحقائق العقليّة ، ولكن مهمة التنفيذ والعمل منفصلة تماما عن العمليّة العقليّة وقد تكون هناك تغذية عكسيّة ولكن مناط العمل أصبح من الواضح مختلفا ومنفصلا عن مناط الفكر.
وان القيام بحسابات ومقارنات ومعالجات للمعلومات المختلفة مختلف كليّا عن المبادرة للعمل بموجب المخرجات التي تنتج عنها وأن العمل بها يستلزم أحيانا إرادة قويّة أو رغبة أو إختيار بين خيارات لا رابط بينها وهكذا.
إذا أن نباشر أو نبادر للعمل فيما أخرجه العقل لنا هو أمر مختلف عن التفكير وله مناطٌ أو موضعٌ مختلف عن موضع التفكير والذي هو الدماغ
ماالذي يجعل الإنسان بعد أن يعلم كثيرا من الحقائق ويُصدّق بها ، لكنّه لا يعمل بها؟ وعندما نسأله أما علمت بكذا وكذ؟ فيقول نعم فنسأله إذا لماذا لم تعمل به فيقول خجلا أو خوفا او حبّا أو كرها به وغير ذلك من الأسباب فأي عضو في الجسم الإنساني هو المسؤول عن هذه الأفعال؟ إن الدماغ قد توصّل إلى معلومات محدّدة وسلّمها لمختلف أجزاء الجسم الإنساني فلماذا لم يفعل بها .
لا بدّ أن مثل هذا المناط أو الوعاءالآخر أن تتوفّر له شروط ولوازم لكي يجعل مختلف أجزاء الجسم البشري تعمل وفق المخرجات العقليّة وكأن المخرجات العقليّة ليست إلاّ برنامج تشغيل للفعاليات العمليّة وأنها تعالج بيانات من نوع آخر ليست عقلية أي ليست فكريّة بل هي بيانات تتعلّق بالإرادة والرغبة والأفضليات والحب والكراهية والخجل أو الحياء ، من الجرأة والخوف من الشجاعة والمبادرة الفوريّة من التردد وهكذا .
بل أننا عندما نقرر ماذا نرغب أن نعمل بالمعلومات التي زوّدنا بها الدماغ باعتباره وعاء العقل فإن القرار يرجع إلى الدماغ لصياغته بشكل يؤمّن تنفيذه ولكن النتائج التي يستخرجها الدماغ ليست هي التي أوجبت التنفيذ.
ماذا نفهم من كل هذا؟
نفهم من كل هذا أن المعرفة لا تتم في الوعاء العقلي وحده بل أن التفكير وحده هو الذي تتم معالجته في الدماغ بأساليب التفكير التي يعمل يها الدماغ ولكن عمليّة المعرفة لا تتم إلاّ بعد أن نستخدم منظومة أخرى وهي منظومة وعاء الرغبات والأفضليات والإرادة والعواطف وعمق التصديق وغيره مما يجعل أحدنا يُريد شيئا أو ينفر منه فيتركه فإما أنه يجعله يبادر إلى فعله أو أن يتقاعس عنه أو ينفر من القيام به كلّيّا.
تُرى هل ان العلم كان وأصبح معنيّا بالعقل وممجّدا له ومُعليا لشأنه ؟ والفن والأدب والإنسانيات معنيّةٌ بوعاء العمل؟ أي أن العلم إعتنى ووسّع العناية بالفكر والتفكير أمّا الفن والأدب والأنسانيات والرغبات إعتنت بالعمل والفعل ؟
واليوم يواجه العلم نفسه موضوعة إنسانيّة كبرى في شرعيّة التعامل مع الجينات والمورثات وما يُعرف بالـ ( DNA ) و(RNA )وهل يُمكن تطبيقها على الإنسان؟ إن المعلومات المتوفّرة تتراكم وتبيّن لنا يوما بعد يوم إمكانيّة العمل بهذه العلوم وتطبيقها في حيّزالجنس البشري بعد أن تم إجراء الكثير من التجارب على مختلف أنواع الأحياء وأصبحت الهندسة الوراثيّة في متناول العلماء ويستطيعون أن يدخلوا أو ربما يُفكّروا علميّا بإدخال صفات جديدة وتوريث صفات ومحو أثر البعض الآخر ، فهل أن هذا العمل صحيح؟ هل هو شرعي؟ أم أنه لا يحقّ للإنسان أن يتدخّل في تغيير صفات الإنسان نفسه ومميّزاته لأنه لا يمتلك صورة واضحة عن الأفضل أو ما هو الصواب في كل هذا؟ بمعنى هل يجوز أن يجعل إنسانٌ ما خالقاً أو مساهما في خلق نوع جديد؟ هنا يواجه العلم ما يواجهه الأدب والفن وعدد من الفعاليات الإنسانيّة بما معناه مواجهة مهام وعاء العمل في البحث عن جواب لسؤال مهم وهو هل يجوز؟ فمن يُجيب على جواز أو شرعيّة مثل هذا الفعل؟ لا شك أن الدماغ باعتباره وعاءٌ للفكر والتفكير وهو نتاج أعلى طور من أطوار المادة كما يُقال لن يُجيب لأن الفكر والتفكير معنيّ بالمعالجات وكفاءتها ولكن أنرغب ؟ أم لا نرغب وهل هو أمرٌ مشروع أن لا وهل من حقّنا أن نفعل هذا أم لا ؟ كل هذه الأسئلة وما يُماثلها لا يمكن الإجابة عنها في عمليات عقليّة أو دماغيّة فحسب بل أن هناك شئ آخر معنيّ بها وهو وعاء العمل أي هل نعمل هذا أم لا نعمله أو هل نريد أن نفعل أم لا؟ أو هل هو مشروع أم لا وهل هو أخلاقي ؟ أم لا ؟ وما إلى ذلك.
لو تأمّلنا ما تقدّم مليّا نجد فعلا أن هناك وعاءان لعمليّة المعرفة ولا يُمكن أن تُستكمل تلك العمليّة بدونهما معا وهما وعاء التفكير ووعاء العمل .وأمّا وعاء الفكر والتفكير فتتم تغذيته بأصول التفكير ومقومات حُسن التفكير ولغرض تقويم أسس التفكير لدينا نعود إلى الفلسفة فهي التي تُساعدنا على حُسن التفكير وتوفّر لنا أسسه المنطقيّة وكيفيّة تطويره وتحسينه . ولكن بماذا نقوّم العمل والأفعال التي بينا أنه بدونها لا تتم عمليّة المعرفة؟
إن ما يمكن أن نستخدمه من علوم وفنون وقواعد لتقييم الأعمال الراقية من مثل الرغبات والأولويات والمحبّة والكراهيّة والإقتناع من عدمه مع توفّر مخرجات التفكير السليم من ذلك كله يمكننا أن نستخدم الأخلاق مثلا أو الأديان للتعرّف على ما يُقوّم حسن رغباتنا وميولنا وقناعاتنا ويبين لنا صدق نوايانا من كذبها ويُؤكد شرعيّة نزعاتنا المتنوعّة وما إلى ذلك وهذا كلّه إصطلح عليه كثير من القدماء من العلماء بفقه القلوب أي أنه منظومة الوسائل التي نقوّم ونُقيّم بها أعمال القلوب أي الأعمال التي تقع في فضاء الإرادة والرغبة والقناعة والحب والكراهيّة وغيرها مما سمّيناه بوعاء الأعمال أو الأفعال.
ونجد كذلك أنه ليس بوسعنا أن نستخدم العقل بديلا للعمل أو الفعل لأن العقل لا يُنفّذ مخرجاته تلقائيّا بل لا بدّ من تفويض وموافقة من وعاء العمل والأفعال أي كما يقول لنا الحاسوب في بعض الأحيان : إكبس أي مفتاح لغرض الموافقة ومواصلة تنفيذ البرنامج.
وهكذا توصّلنا بمساعدة بعض المفكرين المتصوّفة وسواهم إلى أن العمل والفعل يحتاج إلى قناعة وإلى رغبة وأولويّة وشروط ذاتيّة فضلا عن المتطلبات الفكريّة ولا تتم المعرفة إلاّ بالوعائين معا وأن كلا منهما يحتاج إلى قواعد للعمل فكما أن للتفكير قواعد وشروط علينا أن نراعيها فإن للعمل والأفعال قواعد هي الأخرى وشروطا علينا أن نراعيها لنتعرّف على ما هو صواب مما ليس بصواب وما يجدر بنا فعله مما يجدر بنا تجنّبه .
من هنا نفهم لماذا لا يجدر بنا أن نقوم بأعمال معيّنة تم تحريمها في بعض الأديان ولماذا لا يوجد حرج من الأفعال الإخرى وهذا كله لا يتعلّق بمخرجات التفكير التي ربما تقدّم لنا حساباتها بالإستناد إلى كل حال.
كما تجدر الإشارة إلى أنه توجد تغذية عكسيّة بين وعاء التفكير ووعاء الأعمال وعلى وجه الدقّة نقول توجد علاقة جدليّة أي تبادل تأثير بينهما ولكن يُخطئ تماما من يظنّ أن التفكير هو كل شئ في عمليّة المعرفة وأن الدماغ باعتباره وعاءً للعمليات العقليّة هو المكان الذي تتم فيه كافة القرارات وتُحسم فيه عمليات المعرفة على إختلافها إذ بذلك يحذف ركنا مهما وهو وعاء العمل او المكان أو الوعاء الذي تتولّد فيه النوايا على إتخاذ عملٍ ما حتّى ولو تم الحصول على نتائج المخرجات العقليّة في الدماغ .
ويحقّ للبعض أن يُسمّون تلك الأعمال الراقية أي الآراء التي يتم إتخاذها في وعاء الأعمال بأعمال القلوب وبالتالي نفترض حصولها في القلب وليس الدماغ ونكون قد إعتبرنا أو إفترضنا القلب وعاءً لأعمال راقية لا تختلف عن أيّة أعمال ظاهرة أخرى غير أنها ليست معنيّة بالقيام والقعود أو المشي أو تناول الطعام أو السرقة أو الكذب بل معنيّة بالحب والكراهيّة والصدق والأمانة وسواهامن الأفعال المرتبطة بالأمور السامية وليس الأفعال المعروفة التي نعلم متطلبات معالجاتها ومثلما وجدنا أن هناك قواعد للأعمال المختلفة وشروطا ومنها ما هو صحيح مما هو غير صحيح بالإستناد إلى تلك القواعد فكذلك القلوب لها قواعد وشروط، وتلك القواعد والشروط هي التي تضعها الأخلاق والأديان مثل ما يجب تجنب التفكير فيه من ما هو مفضّل كما يحصل للعلوم العقليّة المختلفة التي هي نتاج الوعاء الدماغي باعتباره أرقى طور من أطوار المادّة كما يُقال وسنفترض أيضا أن القلب هو أعلى طور من أطوار الحركة التي تُعنى بإنتاج أعلى طور من الأعمال كالإرادة ، وليست هذه الإفتراضات شيئا فنطازيا بل هي مما يُصطلح به في البحث العلمي أي كما نقول لتكن القوة الفلانيّة (س)مثلا ويستطيع القارئ الكريم أن يتذكّر أن معظم أطباء القلب يكادون يُجمعون أن القلب الإنساني ليس مجرّد مضخّة تقوم بعمل تدوير الدم في جسد الإنسان فلقد تم التوصّل إلى علاقة بين القلب والدماغ وهناك أخبار متنوّعة حول ذلك لا نريد الخوض فيها لضيق المجال ولكن نودّ الإشارة إلى أن القلب هو العضو الإنساني الأساس والذي يتوفّر على الحركة وهي شكل من أشكال الأعمال والأفعال بما يوفّر الطاقة والشغل وهو عنصر العمل الأساس في حين أن الدماغ لا يستطيع إنجاز فعالياته بدون الطاقة التي يُديرها القلب وكل له وظيفته
والسلام عليكم.
سنان أحمد حقّي
مهندس ومنشغل بالثقافة
جرى ويجري تمجيد العقل البشري تمجيدا مغاليا وأصبح كل شئ يُقاس بالعقل ويُقال هذا معقول وذاك غير معقول وما هو معقول فهو جدير بالإحترام والإتباع والعمل بموجبه وما هو غير معقول يجدر تركه وتجنّبه ولكن هذا المعيار أو الميزان لم نجد كثيرا من الناس يتصدّون لفكرة ماهيّته وكيفيّة عمل آليّته بل قليلا ما نجد أحدا يسأل ماهو العقل؟ وكلما نعرفه عن العقل أنه منظومة وظائف الدماغ ذلك العضو البشري المحفوظ في رأس الإنسان أو الكائن على تنوّعه وقد تراكمت الظنون والمعتقدات حول الدماغ وأصبح هو الرئيس الذي يُدير كل الأفعال والأفكار والأعمال .
لم ينصرف الناس إلى التساؤل عن ماهيّة العقل وآلياته قدر عُشر معشار تساؤلاتهم عن ماهيّة الله سبحانه ووجوده.
ولو سلّمنا ( أي وافقنا بعد عميق التفكير وتقليب وجهات النظر) أن العقل هو المسؤول الأكبر وحيث أنه نتاج الدماغ وهو بطبيعة الحال الوعاء المادّي للعقل وأعطينا أو أدخلنا معلومات محدّدة إلى دماغ إنسان محدد وطلبنا منه أن يُحاول تشغيل دماغه وفق منهج محدّد أيضا فهل تكون النتائج متطابقة أي أن المخرجات التي يتوصّل لها دماغ إنسان آخر هي نفسها مخرجات جميع الناس الآخرين؟
إذا وجدنا إختلافا بين مخرجات أدمغة الناس فماذا يعني هذا؟
ربما يعني أن الأدمغة ليست متماثلة عند جميع البشر أو أن المنهج المتّبع لم يعمل بنفس الكفاءة والإستيعاب، على فرض أن المدخلات تمت بطريقة خالية من الخطأ أو الإختلاف.
وربّما يكون هناك دماغ أكفأ من الآخر ولكن أيضا ربما كانوا بنفس الكفاءة والمؤهلات عندذاك يحقّ لنا التساؤل عن الأسباب . وقبل تلك الأسباب ربما خطر على بالنا أن مخرجات كل دماغ ما هي إلاّ وجهات نظر يُعالجها دماغ كل إنسان وفق خصائصه ومكوناته وهكذا يضعف أمامنا مفهوم العقل وقوّة حقيقة ما إعتمدنا عليه وقد نتوصّل إلى ظواهر جانبية تشير إلى أن العقل لا يجب الإعتماد عليه تماما للأسباب التي ذكرنا ولأسباب مثيلة أخرى كثيرة
وعندما نكون برغم كل الإعتبارات والإختلافات قد توصّلنا إلى مخرجات نعتبرها نهائيّة فهل أن الإنسان الذي كان ركنا مهما في إنتاجها مستعدّ للعمل بها مباشرةً؟ أزعم ُ أنا والعلم عند الله ان هناك تفاوتا كبيرا بين مبادرة وإسراع بعضهم وبين تلكّؤ وتخلّف البعض الآخروكله يتعلّق أو يتغاير مع القناعة أو التصديق أو الإيمان بتلك المخرجات والحقائق.
فقد رأيت زملاء لي في العمل عند تصميم إحدى المكونات الإنشائيّة وفق الأساليب العلميّة المتّبعة والموثوقة لا يجرؤ على تنفيذ تلك النتائج بل يُحاول أن يزيد عليها أو يُنقص إلى أن يطمئنّ باله ووجدتُ آخرين يجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية للأخذ بكامل ما توصّلوا له عن طريق المنهج العلمي والحسابات الرياضيّة الموثوقة ، فما الفرق بين الإثنين؟ والدماغان مؤهلان تأهيلا متماثلا وسلكا نفس الأسلوب في التوصّل إلى مخرجات متماثلة .
إن هذا التردد يرجع إلى وجود فوارق في المكونات الدماغيّة وبالتالي في المخرجات التي كانت من مفاهيم عقليّة متشابهة .
لنأخذ الجانب المكمّل من هذه الظاهرة ونسأل عن السبب وعن مصدر تلك الجرأة أو الإيمان بالعمل فيماتوصّلنا له من التلكّؤ في ذلك أو عدمه!
مالذي يجعلنا نعمل ما تعلّمناه وما الذي يمنعنا من ذلك؟
إنه ولا شك ليس مهمة عقليّة إذ لو كانت كذلك لتم إنجازها في نفس الوقت الذي توصّلنا فيه إلى الحقائق العقليّة ، ولكن مهمة التنفيذ والعمل منفصلة تماما عن العمليّة العقليّة وقد تكون هناك تغذية عكسيّة ولكن مناط العمل أصبح من الواضح مختلفا ومنفصلا عن مناط الفكر.
وان القيام بحسابات ومقارنات ومعالجات للمعلومات المختلفة مختلف كليّا عن المبادرة للعمل بموجب المخرجات التي تنتج عنها وأن العمل بها يستلزم أحيانا إرادة قويّة أو رغبة أو إختيار بين خيارات لا رابط بينها وهكذا.
إذا أن نباشر أو نبادر للعمل فيما أخرجه العقل لنا هو أمر مختلف عن التفكير وله مناطٌ أو موضعٌ مختلف عن موضع التفكير والذي هو الدماغ
ماالذي يجعل الإنسان بعد أن يعلم كثيرا من الحقائق ويُصدّق بها ، لكنّه لا يعمل بها؟ وعندما نسأله أما علمت بكذا وكذ؟ فيقول نعم فنسأله إذا لماذا لم تعمل به فيقول خجلا أو خوفا او حبّا أو كرها به وغير ذلك من الأسباب فأي عضو في الجسم الإنساني هو المسؤول عن هذه الأفعال؟ إن الدماغ قد توصّل إلى معلومات محدّدة وسلّمها لمختلف أجزاء الجسم الإنساني فلماذا لم يفعل بها .
لا بدّ أن مثل هذا المناط أو الوعاءالآخر أن تتوفّر له شروط ولوازم لكي يجعل مختلف أجزاء الجسم البشري تعمل وفق المخرجات العقليّة وكأن المخرجات العقليّة ليست إلاّ برنامج تشغيل للفعاليات العمليّة وأنها تعالج بيانات من نوع آخر ليست عقلية أي ليست فكريّة بل هي بيانات تتعلّق بالإرادة والرغبة والأفضليات والحب والكراهية والخجل أو الحياء ، من الجرأة والخوف من الشجاعة والمبادرة الفوريّة من التردد وهكذا .
بل أننا عندما نقرر ماذا نرغب أن نعمل بالمعلومات التي زوّدنا بها الدماغ باعتباره وعاء العقل فإن القرار يرجع إلى الدماغ لصياغته بشكل يؤمّن تنفيذه ولكن النتائج التي يستخرجها الدماغ ليست هي التي أوجبت التنفيذ.
ماذا نفهم من كل هذا؟
نفهم من كل هذا أن المعرفة لا تتم في الوعاء العقلي وحده بل أن التفكير وحده هو الذي تتم معالجته في الدماغ بأساليب التفكير التي يعمل يها الدماغ ولكن عمليّة المعرفة لا تتم إلاّ بعد أن نستخدم منظومة أخرى وهي منظومة وعاء الرغبات والأفضليات والإرادة والعواطف وعمق التصديق وغيره مما يجعل أحدنا يُريد شيئا أو ينفر منه فيتركه فإما أنه يجعله يبادر إلى فعله أو أن يتقاعس عنه أو ينفر من القيام به كلّيّا.
تُرى هل ان العلم كان وأصبح معنيّا بالعقل وممجّدا له ومُعليا لشأنه ؟ والفن والأدب والإنسانيات معنيّةٌ بوعاء العمل؟ أي أن العلم إعتنى ووسّع العناية بالفكر والتفكير أمّا الفن والأدب والأنسانيات والرغبات إعتنت بالعمل والفعل ؟
واليوم يواجه العلم نفسه موضوعة إنسانيّة كبرى في شرعيّة التعامل مع الجينات والمورثات وما يُعرف بالـ ( DNA ) و(RNA )وهل يُمكن تطبيقها على الإنسان؟ إن المعلومات المتوفّرة تتراكم وتبيّن لنا يوما بعد يوم إمكانيّة العمل بهذه العلوم وتطبيقها في حيّزالجنس البشري بعد أن تم إجراء الكثير من التجارب على مختلف أنواع الأحياء وأصبحت الهندسة الوراثيّة في متناول العلماء ويستطيعون أن يدخلوا أو ربما يُفكّروا علميّا بإدخال صفات جديدة وتوريث صفات ومحو أثر البعض الآخر ، فهل أن هذا العمل صحيح؟ هل هو شرعي؟ أم أنه لا يحقّ للإنسان أن يتدخّل في تغيير صفات الإنسان نفسه ومميّزاته لأنه لا يمتلك صورة واضحة عن الأفضل أو ما هو الصواب في كل هذا؟ بمعنى هل يجوز أن يجعل إنسانٌ ما خالقاً أو مساهما في خلق نوع جديد؟ هنا يواجه العلم ما يواجهه الأدب والفن وعدد من الفعاليات الإنسانيّة بما معناه مواجهة مهام وعاء العمل في البحث عن جواب لسؤال مهم وهو هل يجوز؟ فمن يُجيب على جواز أو شرعيّة مثل هذا الفعل؟ لا شك أن الدماغ باعتباره وعاءٌ للفكر والتفكير وهو نتاج أعلى طور من أطوار المادة كما يُقال لن يُجيب لأن الفكر والتفكير معنيّ بالمعالجات وكفاءتها ولكن أنرغب ؟ أم لا نرغب وهل هو أمرٌ مشروع أن لا وهل من حقّنا أن نفعل هذا أم لا ؟ كل هذه الأسئلة وما يُماثلها لا يمكن الإجابة عنها في عمليات عقليّة أو دماغيّة فحسب بل أن هناك شئ آخر معنيّ بها وهو وعاء العمل أي هل نعمل هذا أم لا نعمله أو هل نريد أن نفعل أم لا؟ أو هل هو مشروع أم لا وهل هو أخلاقي ؟ أم لا ؟ وما إلى ذلك.
لو تأمّلنا ما تقدّم مليّا نجد فعلا أن هناك وعاءان لعمليّة المعرفة ولا يُمكن أن تُستكمل تلك العمليّة بدونهما معا وهما وعاء التفكير ووعاء العمل .وأمّا وعاء الفكر والتفكير فتتم تغذيته بأصول التفكير ومقومات حُسن التفكير ولغرض تقويم أسس التفكير لدينا نعود إلى الفلسفة فهي التي تُساعدنا على حُسن التفكير وتوفّر لنا أسسه المنطقيّة وكيفيّة تطويره وتحسينه . ولكن بماذا نقوّم العمل والأفعال التي بينا أنه بدونها لا تتم عمليّة المعرفة؟
إن ما يمكن أن نستخدمه من علوم وفنون وقواعد لتقييم الأعمال الراقية من مثل الرغبات والأولويات والمحبّة والكراهيّة والإقتناع من عدمه مع توفّر مخرجات التفكير السليم من ذلك كله يمكننا أن نستخدم الأخلاق مثلا أو الأديان للتعرّف على ما يُقوّم حسن رغباتنا وميولنا وقناعاتنا ويبين لنا صدق نوايانا من كذبها ويُؤكد شرعيّة نزعاتنا المتنوعّة وما إلى ذلك وهذا كلّه إصطلح عليه كثير من القدماء من العلماء بفقه القلوب أي أنه منظومة الوسائل التي نقوّم ونُقيّم بها أعمال القلوب أي الأعمال التي تقع في فضاء الإرادة والرغبة والقناعة والحب والكراهيّة وغيرها مما سمّيناه بوعاء الأعمال أو الأفعال.
ونجد كذلك أنه ليس بوسعنا أن نستخدم العقل بديلا للعمل أو الفعل لأن العقل لا يُنفّذ مخرجاته تلقائيّا بل لا بدّ من تفويض وموافقة من وعاء العمل والأفعال أي كما يقول لنا الحاسوب في بعض الأحيان : إكبس أي مفتاح لغرض الموافقة ومواصلة تنفيذ البرنامج.
وهكذا توصّلنا بمساعدة بعض المفكرين المتصوّفة وسواهم إلى أن العمل والفعل يحتاج إلى قناعة وإلى رغبة وأولويّة وشروط ذاتيّة فضلا عن المتطلبات الفكريّة ولا تتم المعرفة إلاّ بالوعائين معا وأن كلا منهما يحتاج إلى قواعد للعمل فكما أن للتفكير قواعد وشروط علينا أن نراعيها فإن للعمل والأفعال قواعد هي الأخرى وشروطا علينا أن نراعيها لنتعرّف على ما هو صواب مما ليس بصواب وما يجدر بنا فعله مما يجدر بنا تجنّبه .
من هنا نفهم لماذا لا يجدر بنا أن نقوم بأعمال معيّنة تم تحريمها في بعض الأديان ولماذا لا يوجد حرج من الأفعال الإخرى وهذا كله لا يتعلّق بمخرجات التفكير التي ربما تقدّم لنا حساباتها بالإستناد إلى كل حال.
كما تجدر الإشارة إلى أنه توجد تغذية عكسيّة بين وعاء التفكير ووعاء الأعمال وعلى وجه الدقّة نقول توجد علاقة جدليّة أي تبادل تأثير بينهما ولكن يُخطئ تماما من يظنّ أن التفكير هو كل شئ في عمليّة المعرفة وأن الدماغ باعتباره وعاءً للعمليات العقليّة هو المكان الذي تتم فيه كافة القرارات وتُحسم فيه عمليات المعرفة على إختلافها إذ بذلك يحذف ركنا مهما وهو وعاء العمل او المكان أو الوعاء الذي تتولّد فيه النوايا على إتخاذ عملٍ ما حتّى ولو تم الحصول على نتائج المخرجات العقليّة في الدماغ .
ويحقّ للبعض أن يُسمّون تلك الأعمال الراقية أي الآراء التي يتم إتخاذها في وعاء الأعمال بأعمال القلوب وبالتالي نفترض حصولها في القلب وليس الدماغ ونكون قد إعتبرنا أو إفترضنا القلب وعاءً لأعمال راقية لا تختلف عن أيّة أعمال ظاهرة أخرى غير أنها ليست معنيّة بالقيام والقعود أو المشي أو تناول الطعام أو السرقة أو الكذب بل معنيّة بالحب والكراهيّة والصدق والأمانة وسواهامن الأفعال المرتبطة بالأمور السامية وليس الأفعال المعروفة التي نعلم متطلبات معالجاتها ومثلما وجدنا أن هناك قواعد للأعمال المختلفة وشروطا ومنها ما هو صحيح مما هو غير صحيح بالإستناد إلى تلك القواعد فكذلك القلوب لها قواعد وشروط، وتلك القواعد والشروط هي التي تضعها الأخلاق والأديان مثل ما يجب تجنب التفكير فيه من ما هو مفضّل كما يحصل للعلوم العقليّة المختلفة التي هي نتاج الوعاء الدماغي باعتباره أرقى طور من أطوار المادّة كما يُقال وسنفترض أيضا أن القلب هو أعلى طور من أطوار الحركة التي تُعنى بإنتاج أعلى طور من الأعمال كالإرادة ، وليست هذه الإفتراضات شيئا فنطازيا بل هي مما يُصطلح به في البحث العلمي أي كما نقول لتكن القوة الفلانيّة (س)مثلا ويستطيع القارئ الكريم أن يتذكّر أن معظم أطباء القلب يكادون يُجمعون أن القلب الإنساني ليس مجرّد مضخّة تقوم بعمل تدوير الدم في جسد الإنسان فلقد تم التوصّل إلى علاقة بين القلب والدماغ وهناك أخبار متنوّعة حول ذلك لا نريد الخوض فيها لضيق المجال ولكن نودّ الإشارة إلى أن القلب هو العضو الإنساني الأساس والذي يتوفّر على الحركة وهي شكل من أشكال الأعمال والأفعال بما يوفّر الطاقة والشغل وهو عنصر العمل الأساس في حين أن الدماغ لا يستطيع إنجاز فعالياته بدون الطاقة التي يُديرها القلب وكل له وظيفته
والسلام عليكم.
سنان أحمد حقّي
مهندس ومنشغل بالثقافة