هذا الشريط مخصّص لاستعراض آراء مفكرين عرب حول التطوّر ... ويمكن لأيّ زميل المساهمة بإيراد ما لديه بخصوص هذا الموضوع .. كما أنّه يمكن نقاش الأفكار الواردة المنقولة وعدم نقاشها أحياناً: لا يعني الاتفاق معها بشكل كامل .. وبداية سأنقل رأي للمفكّر اللبناني أنطون سعاده حول التطور:



يقول أنطون سعادة في كتابه الأشهر / نشوء الأمم / وفي فصل نشوء النوع البشريّ الآتي:


الفصل الأوّل : نشوء النّوع البشريّ.


التّعليل العلميّ:


إنّ الحقائق الّتي اكتشفها الإنسان ومنها أنشأ المدارس العلميّة العصريّة ابتدأت بتسجيل الملاحظات التّاريخية والمشابهات الطّبيعية فتنبّه تدريجاً لتقارب الأنواع من حيوان ونبات قبل نشوء مدرسة التّطوّر الحديثة، حتّى إنّ مؤرخّاً وعالماً كبيراً عاش في القرن الرّابع عشر. الخامس عشر (ابن خلدون) استطاع أن يدوّن لنا بلغتنا ما لاحظه الفلاسفة قبله من أنّ للكائنات الحيّة اتصالاً غريباً معناه أنّ آخر أفق بعضها مستعدّ لأن يصير أوّل أفق الّذي بعده [واتّسع عالم الحيوان وتعدّدت أنواعه وانتهى في تدريج التّكوين إلى الإنسان](1). ولم يكن هذا القول من الكلام الملقى على عواهنه ولا طائل تحته، بل كان نتيجة ملاحظات دقيقة، لم يتح لها أن تبلغ درجة الكمال بالاستقصاء والتّحريّ حتى كان القرن الماضي الّذي أخرج لنا الدّروينيّة.



لاحظ القدماء أنّ أوّل أفق الإنسان متّصل بآخر أفق الحيوان كأشباه الإنسان الأوران ــ أوطان والغورلاّ والشّمبنزي. ولعلّ الفينيقيّين كانوا أوّل من اهتمّوا بغرابة الشّبه بين القرود العليا والإنسان، إذ هم أول قوم رحلوا في سبيل الاكتشاف والعلم وكانت رحلة حنّون (Hanno) الفينيقيّ القرطاضيّ إحدى الرّحلتين العلميتّين الجغرافيّتين الأوليين اللّتين حدثتا في العالم المتمدّن وكلتاهما فينيقيّتان. فقد ارتحل حنّون حوالي 520 ق. م، بستّين مركباً كبيراً وكان القصد من رحلته إيجاد محطّات قرطاضيّة على شواطئ مراكش أو إمداد المحطّات الموجودة بالقوّة. ولكنّه لم يقتصر على ذلك بل تقدّم جنوباً إلى نهر الذّهب (Rio de Oro) وجزيرة كرني أو هرني، ثم تابع وجاوز نهر السّنقال. وقد سافر هذا الأسطول الفينيقيّ سبعة أيام وراء غمبيا. وفي إحدى الجزر وجدت هذه البعثة رجالاً ونساءً يكسو أجسامهم الشّعر [سمّاهم التّراجمة غورلاّ] فحملت بعض إناث هذه [الغورلاّ] معها ولكنّها اضطرّت في الطّريق إلى قتلها وحملت جلودها إلى هيكل يونو (2).
كان ذلك أوّل اتّصال العالم المتمدّن بأشباه الإنسان، ثم مرّت أجيال قبل نشوء مدرسة الاستقصاء الّتي أخذت على عاتقها درس علاقات الكائنات الحيّة بعضها ببعض. وفي هذه الأجيال العديدة كان التّعليل الدّينيّ التّعليل الوحيد لنشوء الإنسان وسائر الكائنات. فلمّا نشأت هذه المدرسة ابتدأت بالملاحظة الظّاهريّة الّتي أدّت إلى تقرير ما ذكره ابن خلدون في مقدّمته، ثمّ أخذت تتدرّج في الارتقاء حتّى اكتشفت العلاقات البيولوجيّة الوثيقة فيما بين الكائنات الحيّة وبين هذه والجماد.

رأت المدرسة العلميّة أنّ الإنسان ليس إلاّ كائناً واحداً من الكائنات الحيّة، وأنّه خاضع للنّظام الجاري عليها كلّها. فحيث الحياة في كلّ مظاهرها غير ممكنة لا يستطيع الإنسان أنّ يعيش. ولمّا كان الإنسان مظهراً من مظاهر الحياة العامّة فلا يمكن البحث في كيفيّة نشوئه على حدة ولذلك لا بدّ من جعل السّؤال [من أين جاء الإنسان ؟] ضمن نطاق سؤال أوسع هو: منّ أين جاءت الحياة ؟

وليس القصد من بحثنا هذا الدّخول في سلسلة الأبحاث الفلسفية العلميّة الّتي ينطوي عليها هذا السّؤال، لذلك نكتفي منه بالحصول على النّتيجة التي تهمّنا في درسنا نشوء النّوع البشريّ وهي أنّ الإنسان جزء من الحياة نشأ بالتّطوّر حتّى بلغ شكله الحاليّ، ولذلك فعهد نشوئه يرجع إلى عهد نشوء الحياة نفسها(3).

أثبتت العلوم الطّبيعيّة على اختلافها أنّ الحياة أقدم كثيراً ممّا قال به التّعليل الدّينيّ، وأنّ الأنواع من حيوان ونبات متّصلة اتصالاً وثيقاً ينفي مبدأ الخلق المستقلّ. وفوق كلّ ذلك أثبتت الكيمياء وحدة العناصر الّتي تؤلّف ما هو عضويّ وما هو غير عضويّ(4) فيكون ما ذهب إليه الفيلسوف السّوريّ الكبير أبو العلاء المعريّ من ارتباط الحيوان بالجماد رأياً يتّفق كلّ الاتّفاق مع نتائج المدرسة العلميّة:

والّذي حـــارت البريّة فيه     حيوان مستحدث من جماد


ومهما يكن من شيء فجميع الأدلّة تثبت أنّ اتصال الكائنات الحية بعضها ببعض كان تسلسليّاً ممّا لم يبق مندوحة من التّسليم بنظريّة التّطوّر. والتّطوّر هو التعليل العلميّ لنشوء الإنسان نوعاً من أنواع الحياة قائماً بنفسه.

وقد اكتشف علم طبقات الأرض والأحافير بقايا بشريّة قديمة جدّاً وآثار شراذم بشريّة في حالة وحشيّة. ووجد العلماء من هذه البقايا والآثار أنّ أشكال الإنسان في تلك الأزمنة المتطاولة في القدم كانت أحطّ من أشكال الإنسان الحديث، كالإنسان الهيدلبرغي والإنسان النيندرتالي. وإنسان جاوى (Pithecanthropus Erectus) الذي اكتشف بقايا جمجمته ديبوى (Dubois)، هو من أغرب الاكتشافات المسهّلة لنا تتبّع خطوات الإنسان في طريق ارتقائه من الحيوانات العليا.




نقد التّعليل العلميّ:


لا نستطيع، ممّا أبرزه لنا العلم، أن نعيّن بالضّبط الزّمن الّذي ابتدأت فيه الحياة. ولا يمكن إقامة الدّليل، بكلّ معنى الكلمة، على كيفيّة حدوث التّطوّر منذ بدء الحياة حتّى نشوء الإنسان، إذ ليس بين البشر الكاتبين من كان شاهداً يسجّل تفاصيل هذا الحدث الخطير، فمن يطلب من العلم أنّ يروي حكاية تطوّر كلّ كائن حيّ كما حدث تماماً لا يحصل على جواب. ولكنّ التّعليل العلميّ يأتي بدلائل تعطي برهاناً معقولاً لوجودنا وكيفيّة حدوثه. ولكلّ فرد يطّلع على هذه الدّلائل أنّ يرى لنفسه هل هي كافية لإقناعه أم لا ؟

استطاع العلم أن يقيم لنا أدلّة تقنعنا بأنّ الأنواع العديدة الّتي تملأ الدّنيا إنّما هي تنّوعات حياة عامّة وتركّب عناصر أوّلية واحدة تمتدّ في سلسلة تطوّرات يغيب أوّلها وراء الطّيات الجيولوجيّة. وكلّ ذلك، طبعاً، لا يسجّله العلم تسجيل شاهد عيان، بل يتوصّل إليه بالمقارنة والمقابلة ودرس خواصّ الكائنات الحيّة والجماد، كما يتوصّل رجال القضاء إلى تتبّع أثر المجرم ومعرفته من الأدلّة والشّبهات المتجمّعة لديهم، حتّى إنّه مهما أصرّ المجرم على الإنكار يظلّ القضاء يأتيه بأدلّة وشواهد حتّى يفحمه فيعترف بجريمته وليس عليها شاهد عيان.

وصحيح أنّ العلم لمّا يتوفّق إلى تعيين كيفيّة حدوث كلّ نوع بصورة قطعيّة؛ وعلى الخصوص كيفيّة حدوث النّوع البشريّ، هل كان باشتقاق أب واحد أو جماعة آباء أو جماعات نوع واحد. وكذلك لمّا يتوفّق إلى تعيين المكان الّذي نشأ فيه النّوع البشريّ بالضّبط ، وإن كان جمهور العلماء يرجّحون نشوءه في أواسط آسيا. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ العلم لم يتوصّل إلى كشف القناع عن سرّ تنوّع الكائنات، بل إنّ ما لديه من الحقائق والأدلّة البيولوجيّة والأنتروبولوجيّة والكيماويّة والجيولوجيّة الخ. يجعل العقل يدرك بالمنطق والشّواهد ترابط الكائنات في سلسلة تطوّر الحياة. بل إنّ التّطوّر قد قام عليه الدّليل والبرهان الجزئي، فلبعض النبّاتات استعداد غريب للتّطوّر، والإنسان نفسه قد تطوّر بعد نشوئه، فبين الإنسان العصريّ والإنسان الهيدلبرغيّ أو النيندرتاليّ شوط من التّطوّر لا يستهان به.

أمّا أنّ الإنسان نشأ بالتّطوّر فما لا جدال فيه وأمّا كيفيّة حدوث التّطوّر، أكان بتجمّع تغيّرات بطيئة تحت تأثير البيئة المتطوّرة أم بالتّغير الفجائيّ استعداداً للدّخول في بيئة جديدة فممّا لم يتّفق عليه العلماء لحاجتهم إلى استكمال اختباراتهم. وقد كانت النّظريّة الأولى القائلة بالتّغير البطيء وفاقاً للانتخاب هي السّائدة. ولكنّ نفراً من العلماء الحديثين يعتقدون بسبق التّطوّر لموافقة البيئة وبحدوثه دفعة واحدة(5).