كيف نفهم آيات القتال في عصر الحلول السياسية؟

تحدثت في مقالة سابقة بعنوان المحتوى الموضوعي للقرآن عن ضرورة البحث في الآيات القرآنية عن محتواها الموضوعي الذي يتجاوز خصوص سبب نزولها وظرفيتها الزمانية والمكانية حتى نكتشف ما في القرآن من عمق نفسي واجتماعي وحضاري يؤهله ليكون كتاب هداية مطلقة في كل زمان ومكان..
في هذه المقالة أضرب مثالاً لإبراز المحتوى الموضوعي للقرآن وهو الآيات التي تتحدث أو تأمر بالقتال..
هناك عشرات الآيات في القرآن تتحدث عن القتال أو تأمر به، ولكننا اليوم في عالم ينحسر فيه خيار القوة العسكرية ويحل بديلاً عنها القوة المعرفية والاقتصادية والسياسية حتى أننا نسمع أصواتاً في الدول المتقدمة تطالب بتفكيك جيوشها أو تقليص ميزانياتها لما يسببه بقاؤها من تكاليف اقتصادية باهظة دون فائدة كبيرة، فسويسرا مثلاً قلصت ثلث جيشها، وهناك دعوات للاستغناء عنه بشكل كامل، مما يعني على الأقل أن دور الجيش دور هامشي وأن سويسرا لا تعتمد على القوة العسكرية، ومع ذلك فقد حققت مصارفها شهرةً عالميةً حتى صارت مستقطباً لأموال كل من يرغب في حماية مدخراته ممن يعيشون في بلدان لا تتمتع باستقرار حكومي ولا يملك أماناً مصرفياً.
 مثال آخر من اليابان التي لا تمتلك سوى قوات دفاعية، وقد هزمتها أمريكا هزيمةً عسكريةً نكراء في الحرب العالمية الثانية ومع ذلك تعد إحدى أهم الدول المتقدمة في العالم وتغزو أمريكا ذاتها اقتصادياً.
 في المقابل تنفق دول عربية عشرات المليارات على شراء الأسلحة وتكديسها دون أن تحقق لها هذه الترسانة الضخمة تقدماً أو احتراماً بين العالمين.
وإذا كان التطور البشري وصل إلى درجة ينظر فيها إلى القوة العسكرية بأنها خيار ثانوي، وأن مركز ثقل تقدم الأمم هو في نهضتها الاقتصادية والمعرفية، فربما يتوصل البشر في المستقبل إلى الإلغاء الكلي لخيار الحرب والاعتماد الكامل على وسائل المواجهة السياسية والاقتصادية كما يحدث الآن بين الدول المتقدمة التي استبعدت خيار الحرب في العلاقات بينها، فلم نعد نتخيل أن تنشب حرب بين فرنسا وبريطانيا، أو بين أمريكا واليابان، وإنما منافسة اقتصادية وسياسية ومعرفية..
في واقع ينحسر فيه خيار القوة العسكرية ويتحول إلى دور هامشي يصبح تبني خيار العنف أو الدعوة إلى القتال دعوةً نشازاً معزولةً عن السياق الحضاري..
ما هو الموقع الذي ستظل تحتله آيات القتال في ظل هذا الواقع الجديد؟؟..
هل ستتعطل فاعليتها وتصبح تراثيةً تتناول شأناً تاريخياً منسوخاً، أم أن هذه الآيات ستكبلنا عن اللحاق بركب التقدم البشري فنبادر إلى اختراع معارك عسكرية بأنفسنا حتى لا نعطل آيات القتال وبذلك نظهر أمام البشر بأننا نحن دعاة العنف وأعداء التقدم البشري مسوغين ذلك بما يفرضه علينا قرآننا أي نقدم لهم عذراً أقبح من ذنب فنسيء لقرآننا حين نصوره معادياً للتقدم البشري ومتأخراً عن مسار الحضارة..
هل نبادر مثلاً بتسيير الجيوش لغزو أسبانيا وفرنسا حتى ننشر ديننا، مع أن العالم لم يعد يستوعب هذه الطريقة لنشر الأفكار على خلاف الروح التي كانت سائدةً في زمن البعثة والقرون الأولى؟؟
هنا تأتي أهمية البحث عن المحتوى الموضوعي لآيات القرآن الذي لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان والظروف..
لفهم هذا المحتوى الموضوعي لا بد أن نطرح سؤالاً: ما هي العلة التي شرع القتال لأجلها في القرآن.
هل العلة هي أن فيه سفكاً للدماء وقتلاً للآخرين؟؟
لا يمكن أن يكون هذا مقصداً قرآنياً والقرآن ذاته يمتن على المؤمنين بوقف إراقة الدماء سواءً دماءهم أو دماء أعدائهم "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم"...
إن معنى القتال في القرآن فيما يظهر يتعلق بجانبين: جانب يخص المقاتِل، والجانب الآخر يخص بالمقاتَل.
الجانب المتعلق بالمقاتل –الفاعل- هو أن يتحقق في هذا الفرد أو الجماعة الحالة القصوى من الاستعداد النفسي لبذل الجهد وللمخاطرة في سبيل الله. القتال في معناه العميق هو أن تكون مستعداً للموت في سبيل إحقاق الحق، أما الجانب الذي يتعلق بالمقاتل –المفعول- فهو تحقيق الردع وكسر شوكته..
استحضار هذا المعنى الذي يحققه القتال ضمانة بألا نخلط بين الغاية والوسيلة، فالقتال ليس مقصوداً لأجل القتل وسفك الدماء ومن المحال أن يكون هذا هدفاً شرعياً، إنما شرع القتال من أجل كسر شوكة الظالمين، وأمر المؤمنون به من أجل اختبار صدق إيمانهم وإلى أي مدى هم مستعدون للمخاطرة بحياتهم في سبيل الحق الذي يؤمنون به..
في سورة محمد وهي التي تسمى أيضاً سورة القتال يقول الله تعالى "فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت"..
إن ذكر القتال يجلب الرعب للذين في قلوبهم مرض، وهنا يبرز معنى للقتال ومراده فالذي يرعب هؤلاء المنافقين بالتأكيد لن يكون حرصهم على حياة الآخرين، بل إن مصدر رعبهم هو خشيتهم على أنفسهم لأن هذه الآيات تضعهم في اختبار قاس فتفضح كذبهم في ادعاء الإيمان لأنهم يؤثرون السلامة الفردية على التضحية في سبيل الحق..
يبرز معنى القتال والعلة التي شرع لأجلها في آيات أخرى منها قوله تعالى "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور"..فالقتال يهدف إلى ابتلاء ما في الصدور واختبار الصدق..
إذاً حين يقول لنا القرآن "قاتلوا" فإن هذا الأمر لا يقتضي أن نمسك سيوفنا أو مدافعنا وننطلق للقتال العشوائي دون اعتبار للواقع والمآلات، بل إن المحتوى العميق في هذا الأمر هو أن يتحقق فينا الاستعداد النفسي الكامل للتضحية في سبيل الحق والاشتباك مع أعداء الحق بكل قوة لتحقيق الإثخان فيهم وكسر شوكتهم غير مبالين بالخطر، والحالة النموذجية لهذا الاشتباك تتمثل في المعنى الحرفي للقتال حين تدعو الظروف الاضطرارية لذلك، لكن دون هذه الحالة القصوى درجات قد تتمثل بالمواجهة السياسية والإعلامية والحضارية، وهذه الحالات وإن لم يكن فيها الشكل التقليدي للقتال إلا أن فيها حقيقته ومعناه وعلته، وهو استنتاج ليس متكلفاً فالمعنى اللغوي لكلمة القتال يحتمل صرفها إلى معنى مجازي، فنحن نستعمل في لغتنا تعبير "إنني أقاتل في سبيل ما أؤمن به" دون أن يعني ذلك أن تمسك سلاحاً بالضرورة، بل إن المعنى الذي يفهمه الناس من هذا التعبير هو أنك مستعد للذهاب إلى أبعد مدى في الدفاع عما تؤمن به .
إذاً لا تناقض بين وجود آيات القتال وبين مواكبة التطور البشري، فالأمر بالقتال في القرآن لا يعني إقحامه  في أي زمان ومكان، بل يعني تحقيق غاية نفسية واجتماعية وحضارية، والقتال بمعناه الحرفي لا يكون إلا حين تلجئنا الظروف الاضطرارية إليه ونحن كارهون "كتب عليكم القتال وهو كره لكم".
 أما حين يتواضع البشر في زمان ما على وسائل أخرى أكثر سلميةً لإدارة العلاقات بينهم كما يحدث في زماننا هذا بشكل نسبي فإننا أول المرحبين بهذه الوسائل الجديدة، بل ينبغي أن نكون نحن المبادرين للدعوة إليها متأثرين في ذلك بالروح السلامية التي يبثها القرآن فينا "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، هذه الروح الزاهدة في القتال عبر عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال معبراً عن ضيقه من الاضطرار للفتوحات العسكرية " وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار ، لا يصلون إلينا منه ، ولا نصل إليهم".
 القبول بصيغ جديدة لإدارة العلاقات البشرية لن تعني تعطيلاً لآيات القتال، فمحتواها الموضوعي يظل قائماًَ متجاوزاً لتبدل الظروف وهو بذل الحالة القصوى من الاستعداد النفسي التي يكون المرء فيها مستعداً للموت في سبيل الحق، أما غاية كسر شوكة الظالمين فيمكن أن تتحقق اليوم بالقوة السياسية والإعلامية والتفوق الاقتصادي، دون الاضطرار إلى خيار لم يعد العالم ينظر إليه نظرة بطولة وإعجاب كما كان الحال في أزمان عابرة، بل صارت الدعوة إليه في هذه الأيام نشازاً..