الفكر الحر محمود كرم

بـقـيَ الـفـكـر الـحـر عـلـى امـتـداد الأزمـنـة يـكـابـد كـل أشـكـال الـعـسـف والـقـمـع والاضـطـهـاد وبـقـيَ أصـحـابـه يـدافـعـون عـن حـقـهـم الـكـامـل فـي وجـودهـم وممـارسـة فـعـلـهـم الـثـقـافـي والـفـكـري ..

ولـم تـسـتـطـع مـحـاولات الإبـادة الـفـكـريـة وعـمـلـيـات الأدلـجـة اعـتـقـال الـفـكـر الـحـر داخـل الـمـربـعـات الـخـانـقـة أوسـجـنـه فـي الـسـراديـب الـمـعـتـمـة وشـهـدت الـمـعـركـة بـيـنـهـمـا فـصـولا ً كـثـيـرة فـي الـصـراع الـحـاد وكـانـت أن ألـقـت بـتـداعـيـاتـهـا الـقـاتـلـة عـلـى أصـحـاب الـفـكـر الـحـر واتـهـمـوا دائـمـا بـتـخـريـب روح الأمـة والـعـبـث بـالـتـراث والـنـيـل مـن الـمـقـدسـات والـعـمـل ضـمـن الـطـابـور الـخـامــس ..

وتـوضّـحـت مـعـالـم ومـلامـح الـفـكـر الـحـر مـع بـدايـات الأزمـنـة الـحـديـثـة حـيـنـهـا أخـذ مـنـحـى ً واضـحـا ً فـي تـبـنـي الـفـكـر الإنـسـانـي الـكـونـي الـبـعـيـد عـن جـغـرافـيـة الانـتـمـاءات الـضـيـقـة و الـهـويـات الـخـانـقـة وثـقـافـة الأفـضـلـيـات الـقـاتـلـة وقـداسـة الـتـابـوهـات الـسـيـاسـيـة والـديـنـيـة وعـمـلَ عـلـى الانـحـيـاز الـمـتـفـهـم لـروح الأخـوة الـبـشـريـة وقـيـم الإنـسـانـيـة بـعـيـدا ً عـن تـنـاقـضـات الأديـان وحـروبـهـا الـفـكـريـة وأحـقـادهـا الـمـتـوارثـة ..

ولـيـس مـستـغـربـا ً أن الـفـكـر الـحـر الـمـنـعـتـق مـن أدران الـمـلـوثـات الـمـؤدلـجـة يـُجـابـه بـحـرب ٍ شـرسـة مـن قـِـبـل الـذيـن يـجـدون فـيـه تـهـديـدا ً حـقـيـقـيـا ً لـمـوروثـاتـهـم الـمـاضـويـة وهـشـاشـتـهـم الـفـكـريـة الـتـي لا وسـيـلـة للـحـفـاظ عـلـيـهـا مـتـمـاسـكـة إلا بـمـحـاربـة الـفـكـر الـحـر ونـعـتـهِ بـالـشـيـطـانـيـة والـعـمـالـة وإفـسـاد الـمـعـتـقـدات والـتـطـاول عـلـى الـمـقـدسـات ..

ولـم يـتـجـه الـفـكـر الـحـر فـي حـراكـه الـثـقـافـي الـفـعـال لـمـخـاطـبـة الـعـواطـف ودغـدغـة الـمـشـاعـر بـل اتـجـه بـصـورة أسـاسـيـة لـتـحـريـك الـعـقـل وتـحـريـره مـن الأغـلال والـقـيـود الـتـي لا زال يـرسـف بـهـا ولـذلك دعـوتـه لـمـواجـهـة الـتـابـوهـات الـعـريـضـة فـي ثـقـافـة الـمـجـتـمـع لـيـس الـغايـة مـنـهـا نـسـفـهـا لـمـجـرد الـنـسـف فـقـط بـل لـكـي تـكـون هـنـاك مـسـاحـة حـقـيـقـيـة وحـرة للـعـقـل يـتـحـرك فـيـهـا ويـنـظـر إلـى الأمـور بـعـقـلانـيـة ومـنـطـقـيـة وكـلـمـا اتـسـعـت هـذه الـمـسـاحـة فـي الـتـفـكـيـر كـلـمـا كـانـت قـدرة الإنـسـان عـلـى الـتـحـرر مـن الـمـوروثـات الـفـكـريـة الـمـقـيـدة للـتـفـكـيـر الـحـر والـمـسـتـقـل كـبـيـرة وفـاعـلـة ..

ولا يـعـنـي تـركـيـز الـفـكـر الـحـر عـلـى إيـجـاد مـسـاحـات رحـبـة للـعـقـل إهـمـالـه للـجـانـب الآخـر فـي الـذات الإنـسـانـيـة وهـو جـانـب الـروحـانـيـة بـل يـسـعـى الـفـكـر الـحـر لـتـرسـيـخ هـذا الـجـانـب فـي الإنـسـان مـن خـلال تـركـيـزه عـلـى أن الـروحـانـيـة الـفـردانـيـة مـهـمـة لأنـهـا تـعـنـي تـشـرب الـفـرد الأخـلاق الـعـامـة الـتـي تـهـدف إلـى تـأسـيـس قـنـاعـة فـكـريـة لـديـه مـفـادهـا أن هـدفـه فـي الـحـيـاة أن يـكـون مـفـيـدا ً لـنـفـسـه ولـعـائـلـتـه ولـكـل الـذيـن مـن حـولـه ولا يـتـعـمـد إلـحـاق الأذيـة بـنـفـسـه وبـالآخـريـن ..

هـل تـجـدون أن هـنـاكَ عـقـلانـيـة ومـنـطـقـيـة فـي الـمـسـلـكـيـات وأسـس الـتـفـكـيـر لـدى أغـلـبـيـة مـجـتـمـعـاتـنـا الإسـلامـيـة مـن حـيـث إنـهـا لا زالـت تـمـارس فـعـلـهـا الـثـقـافـي وفـق مـقـتـضـيـات الـنـصـوص الـتـراثـيـة الـمـاضـويـة وتـدافـع عـنـهـا وكـأنـهـا مـنـاطـق مـحـرمـة لا يـجـوز أن تـجـوسـهـا أقـدام الـنـقـد الـفـكـري الـحـر ولا زالـت غـارقـة فـي وحـول الـخـرافـات والأوهـام والـخـزعـبـلات الـديـنـيـة ولا زالـت تـرهـن عـقـولـهـا لـتـفـسـيـرات ديـنـيـة وأصـولـيـة ربـمـا كـانـت صـالـحـة لـذلك الـوقـت الـغـابـر والـبـدائـي ولازالـت مـجـتـمـعـاتـنـا غـيـر قـادرة عـلـى تـجـلـى الأبـعـاد الـروحـانـيـة فـي مـنـطـق الأديـان مـن حـيـث إنـهـا عـلاقـة وجـدانـيـة وروحـانـيـة مـبـاشـرة بـيـن الإنسـان والـسـمـاء ولا يـحـق لأحـدٍ الـتـدخـل فـيـهـا فـي حـيـن حـولـت مـجـتـمـعـاتـنـا الـديـن إلـى مـجـرد أشـكـال هـنـدسيـة مـزخـرفـة مـسـلـوبـة الـروح و الـمـعـانـي وجـمـالـيـة الـعـلاقـة الـخـاصـة الـمـبـاشـرة ولـذلك حـيـنـمـا يـسـعـى الـفـكـر الـحـر إلـى مـواجـهـة تـلك الـممـارسـات والـمـسـلـكـيـات والـثـقـافـات والـتـابـوهـات فـأنـه يـركـز عـلـى أن للـعـقـلانـيـة دور مـهـم وأسـاسـي فـي تـجـلـي الأبـعـاد الـحـقـيـقـيـة للأشـيـاء ومـن ثـمّ الـتـعـامـل مـعـهـا عـلـى هـذا الأسـاس الـذي يـرى كـل شـيء عـبـر عـدسـة صـافـيـة لا تـفـسـد عـلـيـه رؤيـة كـل مـاحـولـه بـوضـوح تـام ويـعـرف مـن خـلالـهـا مـسـئـولـيـاتـه تـجـاه نـفـسـه ومـجـتـمـعـه والـديـن وتـحـدد لـه عـلاقـتـه بـالـواقـع الـسـيـاسـي والـثـقـافـي ويـُـرجـع الأمـور إلـى مـقـيـاس الـعـقـل والـمـنـطـق ولـيـس رهـن حـاضـره ومـسـتـقـبـلـه للـمـاضـي وللـتـفـسـيـرات الـمـطـلـقـة والأحـكـام الـنـهـائـيـة ..

الـفـكـر الـحـر لا يـقـبـل الـتـرويـض الـمـؤدلـج ويـحـارب آفـة الـخـضـوع للـمـسـلـمـات الـفـكـريـة ويـؤمـن بـالآفـاق الـرحـبـة ويـذهـب مـع امـتـدادات الـمـدى إلـى نـقـطـة الـضـوء الأخـيـرة لـذلك يـتـقـلـص فـيـه الـمـطـلـق إلـى درجـة اللاوجـود ويـمـارس فـعــلـه الـثـقـافـي مـدعـومـا ً بـآلـيـات الـنـقـد الـحـر وكـل الأشـيـاء تـخـضـع عـنـده للـمـسـاءلـة والـنـقـد والـمـكـاشـفـة والـتـمـحـيـص ..

ومـن هـنـا يـتـجـه الـفـكـر الـحـر لـكـي يـكـون مـسـتـقـلا ً بـاعـثـا ً للـضـوء الـذي يـتـمـدد فـيـه كـالـهـواء الـنـقـي ولا يـخـضـع للـفـكـر الـسـائـد الـمـتـخـشـب الـثـابـت عـنـد نـقـطـةٍ مـعـيـنـة وكـمـا يـقـول جوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير :

( إن الفرد لوحده يكون مستقلاً عاقلاً يتمتع بالقدرة على النقد فإذا انخرط بين كتلة الجماهير فقد استقلاليته وطاش لبه وماتت الحاسة النقدية عنده )