يهود العراق، ذكريات وشجون


من هو المسئول عن الفرهود؟
الأيام الأخيرة في محلة حنون صغير في بغداد القديمة

بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
قضيت طفولتي الباكرة في محلة حنون صغير في بغداد القديمة حيث كنا نسكن مع "سِيّدي" (جدي) الحاخام مئير معلم رحمين مؤلف كتاب "مقتطفات من كلام الرب" (بغداد، مطبعة شوحيط، 1936-1939) في سبعة أجزاء باللغة العبرية. وكنت أراه طوال ساعات لا نهاية لها جالسا وهو يؤلف كتابه هذا دون ملل أو تعب، وقد ترك مهنة الصياغة التي اشتهرت بها عائلته ليتجنب الغش الذي يمارسه بعض الصياغ في خلط المعادن الثمينة بالخسيسة، وذلك عن تقوى وحبا في الأمانة وطاعة الرب وليتفرغ لواجباته الدينية في سبيل الدين والعلم، يحقق ويؤلف ويراجع المخطوطات والكتب الضخمة. ولكي يكرس وقته لوجه الله والعلم قامت جدتي "مسعودة" بإدارة مشغل للتطريز المقصيات بخيوط الذهب والفضة تعمل فيه ما لا يقل عن ثلاثين عاملة لإعالة العائلة. ولعل أخي مراد ورث منها موهبته الفنية في الرسم ورثت أنا منه هذه المثابرة على المطالعة وحب الكتب والتأليف.
ومنذ صغري أدركت بأني لا أصلح للتجارة التي كان يمارسها الكثير من يهود العراق. كنت في الثالثة من عمري، عاشقـًا لكحلا ابنة عمتي ريما، ذهب الجميع وبقينا وحدنا في البيت وقد أصابنا الملل. عرضتُ علي ابنة عمتي عرضا لا يمكن ليهودي رده: "تالي (تعالى) انبيع!"، قالت: "ميسيغ (ممنوع) تطلع للدرب لَيْكونْ يضغبك المسلم"، قلت: "وليش يضربني المسلم؟". أجابت: "ألم يحذرك والداك؟" لم آخذ تحذيرها بمأخذ الجد، فتشت عن بعض الملاعق والشوكات والسكاكين الفضية "من شغل العجم"، وهي من مهر والدتي الذي دقق والدي في الحصول على كل حاجة شرطها في وثيقة الزواج. فحسب تقاليد اليهود تقدم عائلة العروس الجهاز والمهر للعريس، تصل تكاليفها في بعض الأحيان إلى أن يقضي والد العروس العمر في تسديد ديونه. فتحت الباب بعد أن صعدت على كرسي ووضعت الملاعق الفضية وغيرها على طبق من الصيني. ضحك بعض المارة لصغر سن هذين "التاجرين": "هذولي غير أيهود؟ والله بعد مفقسوا (لم يخرجوا) من البيضي وقيشتغلون بالتجارة!". جاء "ويحد ليبس جراويـّة وزبون": "وِلْكُم هذا شِِنْهَـوْ ؟ هذا بيش اتبيعونه؟"، قلت: "أبدينار"! حمل لابس الجراوية الطبق وسار في طريقه غير مكترث لصراخي وأنا متشبث بذيل دشداشته: "وين الدينار، وين الفلوس؟"، دفعني ومضى دون أن يجرؤ أحد على اعتراض طريقه. عدت باكيا إلى البيت، قالت كحلا، "مقلتولك لا تطلع للدغب (الدرب)؟". غضب الوالدان، وقالت أمي: "وي غماد!(رماد عليك) مقلتولك لا تطلع للدغب ليضغبك المسلم؟، الله سوالك نيس! (هذه كرامة من الله)، مليح ما طلع خناق الولاد وذبحك!". وقال الوالد: "قَـتْغيد أخلص خبزك هسّه؟ قلتولك مغة (مرّة) وألف لا تطلع للدغب ابحدك تغا يضغبوك!"، (أتريد أن اقضي عليك الآن! ألم أقل لك ألف مرة ومرة لا تخرج لوحدك، سيضربونك!" علق عمي يونا على الحادث: "هذا أشلون تاجر؟، ما شا الله علينو، من أول غزاته انكسرت عصاته!".
بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
وأدركت منذ ذلك الحين، من تجربتي الأولي الفاشلة في التجارة بأنني لا أصلح لمثل هذه المهنة التي مهر فيها يهود العراق خاصة. ثم جاء الإثبات الثاني على عدم صلاحيتي للتجارة حين قالت لي الست فاطمة في مدرسة السعدون ضاحكة، بعد أن فشلتُ في حلّ مسألة في درس الحساب عندما امتحنتني بالرياضيات: "وِلَكْ انتَ شلون يهودي؟ أشو عجبا إنت ما شاطر بالحساب؟، مو كل اليهود لازمين البنوك والحسابات مال كل الدوائر الحكومية بالعراق والسوق بيدهم وحتى الإسلام يعزلون ويّاكم يوم السبت، هاي شلون ايهودي انت؟". صدقت الست فاطمة هذه المرة أيضا، فقد فشلت في كل صفقة تجارية عقدتها في حياتي، سوى في زواجي الأخير من فتاة فنلنديّة "خايفة رَبْها وغشيمة" مثلي.
وعندما كنت أسافر في كل عطلة صيفية وفي سنوات التفرغ للأبحاث لإنجاز الكتب التي بدأت بتأليفها (سلالة مثل جدّي) التقيت ببعض الأصدقاء ممن كانوا متفوقين في الرياضيات في مدرسة شماش، ووجدت ما شاء الله، أنهم قد أصبحوا من أصحاب الملايين في إنكلترا والولايات المتحدة. ثم يسألونني فيما إذا كنت نازلا في فندق هيلتون أو غيره، فأقول لهم بل في مضافة الجامعة، فيتعجبون قائلين: "ما انت صاير دكتور وبروفيسور! وكشخة وقلابالغ، لَكَنْ أحْسَـنِـلْـنا اشتغلنا بالتجارة! فنحن ننزل في أفخر الفنادق!" وعندما يعلمون بأن عليّ أن أقدم حسابات ووصولات للجامعة ولضريبة الدخل عن كل فلس أصرفه، وخاصة أجرة المواصلات والفنادق وشراء الكتب، قالوا: إذا فألقابك فارغة "ما تْطَعّم خبز". فإذا نسيت طلب الوصولات من سائق تاكسي مثلا، وكثيرا ما أنسى، "فقد راحت عليّ!". أما أحد الأساتذة "الشطار" فقد كان يذهب إلى محطات القطار والباصات ليفتش عن بطاقات سفر مهملة فيأخذها ويضيفها إلى قائمة المصاريف لكي لا تطلب منه ضريبة الدخل أعادة بقية المنحة.

          *               *               *

بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
بدأت العلاقات بين اليهود والمسلمين تتأزم يوما بعد يوم بعد أن أخذت أسماء مثل هتلر وموسليني والنازية والمحور والحلفاء والفتوة وكتائب الشباب، تتردد في نشرات الأخبار والصحف وفي حديث الكبار، وأخذت العلاقات الحميمة التي كانت تربطنا بجيراننا من المسلمين والمسيحيين تصاب بالبرودة والفتور ثم تتفاقم فتصبح عدائية وعنيفة أحيانًا.
خرجت أختي كلادس فرحة بثوب الدانتيلا الذهبي في يوم عيد رأس السنة العبرية "لتكشخ" (تفتخر) أمام جدتنا بثوبها الجديد الذهبي الزاهي، أمسكت بها "مْسِلمييّ كبيغي" (بالغة) حسدًا ومزقت ثوبها قائلة: "إي بنت السبت، اشو روحي عيدي، دنشوفك!" ورجعت باكية محمرة العينين وقد أصابها الهلع: "المسلمييّ شقتا الدغييتي (مزقت ثوبي) الجديدي!".

انتقالنا إلى محلة البتاويين
استبشرنا بانتقالنا عام 1936 إلى دارنا الجديدة التي بناها والدي من مهر أمي بعد أن باع حصتها في بيت جدي بسبب شق شارع الملك غازي الجديد. انتقلنا إلى دارنا الجديدة التي خططها الوالد وأشرف على بنائها بنفسه أمام بستان مامو في محلة البتاويين، وسمي شارعنا فيما بعد بشارع الرافدين وكانت أختي أسبرونس كلما دخلت الدار تذكر رقمها لنستطيع تذكر العنوان للعودة إليه بمساعدة "أولاد الحلال" إذا تاه أحدنا في محلتنا الجديدة وتقول باعتداد لتمكنها من القراءة: "رقم الدار، بستان مامو، 6 د / 13 / 1"، ثم تقرأ ما كتب على تاج الباب: "سـنة 1936"، وكانت دارنا من أوائل الدور التي بنيت في بستان مامو بالبتاويين، تحتوي على 5 غرف كبيرة وغرفتين صغيرتين فوق المرافق وغرفة الكيل (المخزن) سكنت في إحداهما جدتي بعد أن تأرملت، وتتوسط الدار حديقة داخلية كبيرة. وفي أيام العزّ هذه كان أبو علوان بائع الحليب الذي كان يسكن في كوخه الطيني أمام بيتنا ويعمل أيضا "بستانجيا" عندنا، يأتي ببقراته إلى دورنا ليحلب البقرة أمامنا، فقد كان الباعة يحملون بضاعتهم إلينا، إلى أن شـيدت أمانة العاصمة سوقها الحديث الذي بني أمامه كنيس "صلاة مئير طويق" فأصبحنا نذهب إلى السوق. وكانت زوجته أم علوان تساعد والدتي في بعض أمور المطبخ والتي كانت والدتي "المدامة" مدرسة اللغة الفرنسية سابقا و"التندعي بيها" (فخورة معجبة بنفسها) "تستنكف" العمل في المطبخ وحتى الدخول إليه. وكانت باهيزة أم محمد زوجة أبو علوان الثانية خبّازة العائلة. وكانت الوالدة تأخذني إلى تنور باهيزة قرب كوخ أبو علوان وزريبة بقرتيه لنشتري الخبز. وعندما كانت باهيزة ترانا مقبلين من بعيد كان وجهها المستدير "كالقمر ابو ارباطعش" يضيء بابتسامة رائعة. كانت صديقة حميمة لوالدتي أكثر من أم علوان، وكان الوالدة ترشدهما في تربية الأولاد ومعالجة أمراض الأطفال وتزودهما بما يزيد من الملابس والطعام عن الحاجة، وترسل لهما في الأعياد الحلوى والبخشيش. فإذا رأتنا صاحت باهيزة: "صلوات على النبي صلوات! سامي بيك وأمه المدامة جايين خطّار عدنا!" ثم تردف قائلة: "صلوات على هل عيون السود، صلوات! والله لأخبزلك حنونة (قرص صغير يخبز للأطفال خاصة) تلوگ الحلگك". وتأخذني بين ذراعيها لأري كيف "تستوى الحنونة" ورائحة الخبز الناضج تعبق من ثيابها فأشعر بالحب والعطف يغمرانني وأنا بين ذراعيها، فأهنأ من حرارتين، حرارة التنور (الفرن) وحرارة كلمات الترحاب بنا وما تبديه من حب وحنان نحوي وأنا بين ذراعيها وهي تقبل وجنتيّ. ثم تناولني الحنونة اللاذعة بحرارتها ورائحتها العطرة وهي تقول بحب وعطف: هاي الحنونه لعيون سامي"، فأشعر بأني طفل مدلل لوالدتين تحبانني وتعطفان عليّ.
بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
وكانت هناك امرأة أخرى معجبة "بالعيون السود"، جارتنا راشيل ام حسقيل مدرسة أختي كلادس، فما أن تراني ألعب خارج الدار حتى تطلب من كلادس: "ابدالك لزمينو قداغيد أبوسو" (فداك، امسكيه لأني أريد تقبيله). لا أدري لماذا كنت أحب قبلات باهيزة الرقيقة برائحة الخبز الحار في ثيابها السوداء الصوفية وغطاء الرأس الأسود المعقود على رأسها، ولماذا يصيبني القرف من عطر "القلونيا" الذي كان يفوح من الست راشيل بثيابها الأوروبية. هل كان بسبب اعتدادها بنفسها كمعلمة تحصل على كل شيء بالأوامر، كما كان يفعل والدي؟ هل بسبب قبلتها الرطبة المغتصبة الجسورة تأخذها غصبا بدون "حنّـونة" ودون ترحاب يفيض من القلب. كانت تناديني "سامي تال (تعال) دبوسك!" فأرفض فتطلب من أختي كلادس "أبدالك صيدينو دبوسو"، وتنصاع أختي كلادس لأوامر معلمتها، وتمطرني الست راشيل بالقبلات الرطبة، فأفلت من يديها، حتى ضجرتُ وصحتُ بها ذات يوم غاضبا وأنا امسح مكان القبلة: "ولك إنتِ متستحين تتحاغشين بالغجيل؟" (ويلك ألا تخجلين من التحرش بالرجال؟)، ضحكت الست راشيل ضحكة عالية، "هذا اشلون ولد وكيح (جسور)، ابن أربع سنين وشيّف نفسو غجال (رجل) !". ثم تروى لزوجها وللأصدقاء ما قلته لها وهم "يغوصون" من الضحك وتصبح هذه النكتة مدار حديث الرجال والنساء في حَـيّـنا لمدة أسابيع. ومنذ ذلك الحين صار كل من يراها من المعارف، يقول لها ضاحكا: "ويلك! ألا تخجلين من التحرش بالرجال؟"، وهكذا تأدبت وتابت الست راشيل من تقبيل "أبو عيون السود"، بعد أن كانت تظن أن لها الحق في القيام بكل ما ترغب فيه عن طريق الأوامر وبدون مقابل، لا لشيء سوى لأنها معلمة. عندما سمعت عمتي مريم وقد جاء لزيارتنا من العمارة، ما قال "أبو عيون السود" للست راشيل، قالت: "إي، عيونو السامي حلوة، عندو عيون مال عِـغْبِـي (الإعرابي / البدوي)". وعندما سمع أخي البكر ما قالته العمة، صاح: "أي والله! لَكَنْ (إذن) من اليوم انسميك أبو عيون العِغْبِـي"، وقال لأصدقائه فرحا: "من اليوم وغادي انسمينو السامي أبو عيون العِغْبِـي!" ومنذ هذه الحادثة بدأ الشقاق بيني وبين أخي البكر، فقد أفسد علي دائما فرحة ترحاب الفتيات والنساء بالعيون السود. وبقي يعدد "أصيات" (جمع صيت) (ألقاب) "الشرف" التي منحها لي حتى بعد أن سافرنا إلى لندن للدراسة لنيل لقب الدكتوراه من جامعة لندن. ثم أدركت فيما بعد بأن هذه عادة عراقية يتمتع بها الكبار بإغاظة الصغار وتحقيرهم لكي يشعروا بسطوتهم وجبروتهم على من هو أصغر منهم. واليوم يطبق العراقيون هذه العادة على الأقليات الأخرى، يطبقها السنة على الشيعة وبالعكس والعرب على الأكراد للغض من مكانتهم والتفتيش عن المثالب والعيوب في الآخرين ويزرعون الشقاق الذي ورثوه من سياسة الغزاة: "فـَرّقْ تَسُـدْ".
     هذه الصداقات الحميمة في البتاويين استمرت سنوات قليلة. وصرنا نحن أطفال اليهود نتكلم اللهجة الإسلامية بطلاقة مما اكسبنا ثقة بالنفس وشعورا بالمساواة. كان عزرا اليهودي الساكن في شارع في ظهر شارعنا رمزا لهذه المساواة. يلبس الدشداشة ويشد وسطه بحزام مثل صغار أولاد العرب من الطبقة العاملة وكان يلعب "الدعبل" و"الچعاب" و"الطره بلبل" مع كبار الأولاد المسلمين ويتبادل معهم السباب والضرب دون مراعاة لأحد. كان إذا "زاغله" (خدعه) أحدهم، يضربه على قفاه ويسبه بقوله: "ولك أخّ الكـ..ـة تزاغلني!"، فلا يرد عليه خصمه بمسبة بل يعتذر. مـّّر أحد "المعدان" من سكان "ورا السـدّة" وشاهد ما لا يستطيع عقله استيعابه، يهودي واسمه عزرا يضرب أولاد المسلمين ويشتمهم دون أن يردوا عليه ويعلموه درسا في آداب الصحبة وحسن المعاشرة مع المسلمين. ثارت نخونه البدوية وصاح متحرشا بعزرا: "ولك! انته شـسمك؟" فَـهِـم عزرا بأن هذا الغريب عن "العگـد" (المحلة) يتحرش به ويريد اختلاق سبب لضربه وتأديبه. رمى عزرا الكعاب من يده بغضب وانتصب واقفا ورفع يديه وأبرز صدره ونطح به خصمه وصاح به غاضبا: "ولك آني إسمي <عـِذْرا>!" فترنح الخصم لهذه النطحة المفاجئة وتراجع قليلا وخاصة عندما رأى أنه لا يوجد من بين المسلمين من "يَتفزّعْ لَهْ" وأجاب مفتشا عن طريق للتخلص من هذه الورطة التي زج نفسه بها، فقال: "ها زين، بس أگول! (طيب، أردت الاستفسار فقط!) وذهب لشأنه قانعا من الغنيمة بالهزيمة. ولا يعلم هذا القانع بالهزيمة أي مغنم غنم. فلو واصل هذا "الخايب" "العركة"، لتلت نطحة الصدر "براسية" (نطحة رأس أو كلّة) هائلة ولا نطحة زيدان لاعب كرة القدم في منتخب فريق فرنسا، ولسقط على إثرها مضرجا بدمه فلا يخرج من مستشفى "المجيدية" بأقل من أربع "قطبات" في جبينه.
بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
كان لعزرا هذا خمسة أخوة وكل واحد منهم "مگطّع ديس أمّه"، و"يودي الشيطان للشط ويرجعه عطشان". كان الباعة و"الحماميل" (العتالون) والجيران يتقون شـرّهم. كانوا يطيرون اكبر طيارات أم الشناشيل، يرسلونها بالخيوط المعززة بالصمغ ومسحوق الزجاج لكي يمنعوا الآخرين عن اصطيادها لأن خيطها الزجاجي يقطع خيوط الطيارات التي تتحرش بها وليصطادوا الطيارات الكبيرة الأخرى وخاصة "أم الصناطير" التي كانت تصفر متهادية بهيبة وجلال في تحليقها دون أن يبالوا من يطيرها، مسلم أو يهودي أو مسيحي، و"الما يعجبه خلّي يطخ راسه بالحايط". فإذا اقتربت طيارتهم ذات الذيل الواحد القلابة بخيطها ذي المسحوق الزجاجي، قلبوها على خيط "أم الصناطير" أو "أم الشناشيل" وجذبوه، فينقطع الخيط وتسقط، فيدوّي عگدهم والعگود (المحلات) المجاورة بصيحات الاستحسان والتعجب من مهارة هؤلاء الأولاد "العركاويين" الذين يشترون الشر بفلوس، ويعدو الأطفال والشبان بصخب وجنون وراء الطيارة الساقطة ليأخذوها غنيمة باردة لهم.
كان "عذرا" هذا وإخوته يجيبون على كل من ينادي على بضاعته من الباعة المتجولين بمسبة مقذعة ذات قافية طنانة متعارف عليها بين العتالين. كان يهبط ذات يوم درجات بيته إلى الشارع فسمع بائع اللبن وهو ينادي على بضاعته "اللبن" المحمولة بحقيبة الصفيح "بشكاسات" (اقداح) جميلة من الفرفوري الفاخر المصفوفة على رفوفها بداخل الحقيبة: "لبن! لبن!" فأجابه عزرا دون وعي منه وبصورة تلقائية: "كـ..ـا..ـت أمك إتْـگـَلـُبـَنْ!". ما أن انتهى عزرا من قافيته الرنانة حتى وجد فمه قريبا من أذن بائع اللبن الغريب عن المحلة وقد امتقع وجهه وعرت جسمه رعدة الغضب العنيف وأمسك بيد عزرا اليهودي: "ولك انت إلْ مَنْ دَتْسِبّه" (ويلك، من تسب)، صاح عزرا بأعلى صوته ليسمع أخوته ويأتون لتخليصه من هذه الورطة الغير متوقعة: "والله مو إلك! عبالي (ظننت) هذا إعلوي أبو اللبن مالتنا وآني وياه ميانة (وأنا ومعه صديقين دون كلفة بيننا)". وعندما رأى بائع اللبن أخوة عزرا المحاطين به وعلى وجوههم تصميم خوض معركة لا يسلم منها ولا تسلم "شكسات" اللبن، "داس على نفسه" (تمالك نفسه) وقبل العذر مرغما: "ترى لا تسوّيها بعد!" وما أن أبتعد البائع حتى بدأت "جوقة العفاط" وراءه وهي تتنافس بأطول "زيگ"، بحيث لو سمعها شيخان "العربنچي" من محلة "الميدان" كان سيخجل من عفطاته التي ستبدو فاترة أمام هذه الجوقة المتحمسة. وشيخان العربنچي هذا هو الذي تبارى مع وزير الدفاع الجنرال جعفر العسكري وغلبه في مباراتهما في العفاط. فما بالك بعفطات "عـذرا" هذا وإخوته التي كادت تصل إلى باب الشرقي والى سينما غازي.
               *          *          *تأزم العلاقات بين اليهود والعرب
بغداد القديمة
بغداد القديمة
في مثل هذا الجو المتسامح أيضا كنا نلعب مع أولاد باهيزة، محمد وحسنة ومع دحام ابن أخت باهيزة الذي اعتاد أن يأتي في أيام السبت ليسأل إذا كنا نريد أن "يِعْلِگ لمبة التبيت؟" (يشعل موقد "التبيت" إذا انطفأ. والتبيت هو طعام اليهود يوم السبت المكون من دجاجة محشوة بالتوابل والحمص واللحم، يوضع على نار خفيفة من مساء الجمعة والى ظهر يوم السبت بطول الليل وذلك لأن إشعال النار محرم أيام السبت عند اليهود)، أو لإشعال قنديل السبت ليضيء. وكان هؤلاء الصغار يأتون لمساعدة والدتي وخاصة في يوم السبت بعد ذهاب إستير في بعض الأحيان إلى عائلتها لعطلتها الأسبوعية. كنا نناديهم إذا انطفأ قنديل يوم السبت أو موقد (لمبة) "التبيت" ليشعلوها. ورويدا رويدا أخذ يشوب صداقاتنا شيء من البرودة. شعرنا بها للمرة الأولى عندما انقطع دحام عن المجيء يوم السبت والطرق على الباب: "أعْـلگلكم اللمبة؟" ويخرج غانما. رأيته ذات مرة من النافذة يسير في احد أيام السبت قرب دارنا وينظر إلى بابنا بخوف وحذر، ناديناه: "دحام وينك اشو مدنشوفك، هاي وين لين؟" رفض الاقتراب منا، قلنا له: "دحام! اشصار؟ شكو؟ مو كنت اتحبنا؟"، قال وهو يجتهش بالبكاء والسائل اللزج الأخضر يصعد وينزل من منخاريه، قال بخوف: "إذا أطب عدكم ماتگتلوني (إذا دخلت بيتكم ألا تقتلوني) ما تذبحوني؟" قلنا له بتعجب: "منو گلك نذبحك؟ وليش نذبحك!"، أجاب والدموع في عينيه: "الفتوة! گالوا لي لا تطب ببيوت اليهود، ترى أيذبحوك، گالوا هذوله اليهود يذبحون ولاد الاسلام بالعياد مالهم!". قالت الطباخة استيغ (استير) من محلة ططران والتي كانت تساعد الوالدة في تدبير البيت: "وي غماد! وي أبيل (الويل والثبور) وأسود على الفتوة القيعلمونو هكيذ تعلوم أسود ومصبوغ، سِـقْـطونوا (افسدوا) الولد الخايب علينا وسمّـمونو العقلو! أش بعد يطلعون (يخترعون التهم) علينا؟ دحّام! لا تخاف، ليهود ميذبحون احد!". ثم وافق أخيرا على أن "يطب ويعلگ اللمبة" (يدخل الدار ويشعل الموقد). خرج دحام من دارنا وقد أضاءت وجوهه ابتسامة عريضة بعد أن غسلت استير وجهه ويديه بالماء والصابون وملأت أمي جيوبه بالملبس والحلقون والبعابع (الكليچة) وهي توصيه: "سلمنا على خالتك باهيزة أم محمد، اشتقنا لها".
بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
     ثم حدثت حادثة أخرى تصاعدت فيها مشاعر الحذر والخوف من المستقبل. ففي احد أيام السبت التالية خرجتُ مع أخي البكر جاكوب، هذا الذي كان فخر العائلة، فقد أستطاع أن يقرأ كتاب "السيلابير" للغة الفرنسية للصفوف الابتدائية في مدرسة الأليانس وهو في سن الرابعة، وكان يتنافس مع صديقه أيلي خضوري (كدوري) الذي أصبح فيما بعد أستاذا للعلوم السياسية في جامعة لندن، على الأولية في صفهما. خرجنا للتنزه ولرياضتنا الصباحية وهي لقط التمر المتساقط من النخيل في بستان مامو الذي كان ما زال في أوج ازدهاره بسواقيه التي تسقى بالمضخات وأشجار البرتقال والنومي (الليمون) الحلو والحامض تنمو تحت ظلال النخيل الباسقة التي تحنو عليها بسعفاتها الوارفة. خرج علينا ولـد حافي القدمين في سن السابعة بين سـن أخي وسني وصاح: "ولكم يهود! ولد الكلب وين رايحين؟ لأنعل ابوكم يا بو دينكم، أطلعوا من هنا!" انحنى ليلتقط حجرا ليضربنا به، بادرته بحجر على ظهره ففر "يعوي" وهو يكفر بالدين ويهدد. تهيأ أخي للهرب فلما رآه قد فر هاربا قال متعجبا: "هايي أشلون مخفت مِنّو؟ اشلون ما نِهْزَمْت؟" قلت لأخي: "ليش اخاف منوّ؟ نحنا ثنين ونخاف منو وهوى ويحد؟ معينت أشلون أنهزم!" خجل أخي الذي تربى في محلة يهودية في بغداد حيث يصول فيها أولاد المسلمين ويجولون شتما وضربا بأولاد اليهود الذين اعتادوا الفرار واللجوء إلى دورهم اتقاء للشر، وإلا صاح الولد المسلم إذا تجاسر ورد عليه "يهودي جسر وعركاوي" الصاع صاعين: "يا امة محمد أيهودي كفر بديني!" وهكذا يتلقى اليهودي درسا لا ينساه مدى الحياة في آداب الذمة وآداب معاشرة المسلمين والخوف والحذر و"كِفْيانْ الشر" إذا سبه مسلم أو ضربه. ثم قال لي بعد أن أصبحت الاعتداءات على اليهود تتكرر وتزداد عنفا: "لا بد لنا من تعلم المصارعة للدفاع عن أنفسنا". وفي اليوم التالي جاء بكتاب "المصارعة الحرة" لعباس الديك المصارع العراقي، كان قد أشتراه من مكتبة المثنى. قيل عن عباس الديچ هذا انه فاز في مباراته مع بطل ألمانيا في المصارعة، فقد روى أصدقاؤنا الأساطير عنه وعن قوة وبطولة "عباس الديچ" وفنونه في المصارعة الحرة. تعلمنا من الكتاب "فك قبضة الياقة" بأن نعصر على إبهام قبضة الخصم لشل قوته "وفك الياخة" (ياقة)، والضغط على كف اليد والساعد لشل مقاومته كما يفعل رجال الشرطة أثناء القبض على المجرمين، وتعلمنا ما سميناه "ضرب المخيط" وهي مسكة مؤلمة توضع فيها إصبعين بين أضلاع الخصم لتشل حركته، و"الكـلابند" وهو وضع القدم وراء قدمي الخصم ودفعه إلى الوراء فيصرع على ظهره بسهولة. كانت هذه التدريبات قد عززت ثقتنا بالنفس فلم نعد ”ننهزم لأول مسبة وكفر بدين اليهود"، وصرنا نشترى "الشر بفلوس" لنجرب على الخصوم مسكات "عباس الديج"، حتى قال الوالد: "تغى لا تسيغون مثل العريضى بدرب الاسلام، ليطلعكم ويحد حامض بولة، ويهبشكم!" (لا تصبحوا معاكسين في درب المسلمين، فقد تلاقون مسلما سريع الغضب ويذيقكم الأمرين).
بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
وفي البتاويين لم تكن تهمة "أيهودي كفر بالدين" سارية المفعول. كنا أصدقاء "روح بالروح"، وإذا تخاصمنا مع المسلمين، نتبادل مسبة بمسبة وكفخة بكفخة، أو چلاقة بچلاقة، وتنتهي المشكلة. أما في محلات مثل الست هدية وعباس أفندي والمهدية والفضل والكرخ وغيرها من المحلات التي تسكنها الأغلبية المسلمة، فالويل لليهودي الغريب عن المحلة، فليس له "حرمة دفاع المسلم عنه" التي تمتد إلى "سابع جار". فإذا جرؤ مثل هذا اليهودي على رد المسبة بمسبة، فسرعان ما يصيح المسلم: "يا امة محمد! أيهودي كفر بديني!"، وتعال يابا خلصنا؟" إذ كثيرا ما تنتهي المسألة "بفشخات" يسيل فيها الدم، ويؤخذ الضحية إلى "القلّغ" أي مركز الشرطة، وهناك "لازم تلَعّـِب إيدك" (تدفع الرشوة) وتسوّي واسطات، لكي تخلص من الورطة التي وقعت فيها. كنا أخوتي وأنا "ولاد ما نقعد على أرض الله دقيقي راحة" كما كان يقول الوالد. ولكي تتخلص الوالدة من "وكاحتنا ولغاوينا" كانت ترسلنا في العطلة الصيفية عند خالي حاييم او عمتي هيلة اللذين كانا يسكنان في محلات سكن تقطنها غالبية مسلمة متعصبة.
أما المرة الأولى الذي وقفت فيها على معاملة المسلمين لليهود في بغداد القديمة فقد كانت عندما أرسلتني والدتي لتتخلص مني إلى بيت عمتي هيلة القاطنة في محلة "عباس أفندي". وقفت على عتبة الدار فجاء ولد صغير لابسا دشداشة وحافي القدمين وقال لي: إيهودي! شِتْسوّي (ماذا تفعل) واقف هنا؟"، قلت له كما اعتدنا أن نجيب في البتاويين على مثل هذا السؤال: "امشي سرسري! لانعل ابوك يابو الجابك (ومن ولدك)"، وبكل جسارة دخل الولد دار عمتي هيلة وصاح: "هذا إبنكم سبني، لازم أبسطه (أضربه) وأأدْبَه!" قالت له عمتي: "ميخالف ابني مشيها، كل المسبات عليّا!"، أجبتها بغضب: "لا علينو، علينو، أنعل أبونو يابو الجابو!"، صاحت عمتي: ابدالك إبن اخوي ابراهم شالوم، اسكت بقى، ليش هوني البتاويين، فتغيد تبلينا أببلوه؟". قدمت الملبس للولد وقالت له: "مشيها ابني، ميخالف، هذا جاي من البتاويين، هناك صايرين اليهود عشره ويا الاسلام مو مثل هنا!".
وفي مناسبة أخرى لمثل هذا الجلاء القسري من بيتنا في البتاويين لترتاح الوالدة من "وكاحتي"، كنت واقفا في ساعات الصباح على عتبة دار خالي حاييم في "الست هدية" أرقب "الجايين والرايحين"، فاذا ببنت صغيرة في العاشرة من العمر جاءت تتحرش بي: "ايهودي گواد، ابن الكلب! أش واگـف تسوي!، تتفرج على النسوان؟!". ظننت أن هذا "العگد" مثل البتاويين، مسبة بمسبة وتنتهي المشكلة، قلت لها باللهجة الإسلامية التي أتقنتها في مدرسة السعدون: "امشي گرعا (قرعاء)، انعل ابوچ يا بو الخلفچ!" وإذا بها "تصفق الصوت" بأعلى صوتها وتضرب رأسها صارخة: "يا امة محمد! إيهودي يگولّي گرعا!" (يهودي يقول لي قرعاء!) وإذا "بفزعة" تقوم على قدم وساق، وينسل الأولاد والشباب من كل حدب وصوب وهم يصرخون: "ولچ وينا اليهودي، لنلعنلچ دينه ووالْـدِيه!". أخذت الحجارة والطابوق تنهال والضرب "بالتواثي والمگاوير" تتلاحق على الباب حتى كاد أن يتحطم. أغلقت الباب بسرعة وهرعت بلانش وإيفلين وجاكلين بنات خالي وأقفلوا الباب الذي كان يدوى ويهتـز مع كل طابوقة ترمى عليه فدعمناه بتخت ثقيل، وصعدنا إلى السطح والبنات يبكين ويولولن: "وي غماد! وي ابيل! ابدالك سامي اسويت (ما عملت)! ساعة السودا ولا طلعت بغا (خارجا)! ليش قتخمل (أتظن) هوني مثل البتاويين؟ هوني يذبحوك والله!". وبعد ساعة هدأ ضرب الحجارة وساد السكون! جاء خالي حاييم وزوجته وموريس ابنهما البكر وأزاحوا أكوام الحجارة المتراكمة وسألوا "أش دعوى؟ أش ساغ؟"، أخبرتهم بحادثة "الگرعا" وسبها لي وصراخها: "يا امة محمد!". قالت سليمة زوجة خالي: "لكون تطلع لدغب بعد، تغا والله يقتلوك، غدا من الصباح ترجع إلبيتكم، بيش فتغيد تبلينا؟ا". وبعد أن غربت الشمس وحل الظلام، أردت أن أتنفس هواء نقيا باردا بدل هذا الهواء الحار الخانق في البيت ونظرات الاتهام واللوم تلاحقني. وقفت على العتبة، فإذا بالفتاة تأتي مسرعة مع والدها: "يابا! هذا هو ليهودي الگلي گرعا!" (يا أبي، هذا هو اليهودي الذي قال لي: قرعاء). صاح والدها وقد تهدج صوته من الغضب: "ولك گواد! ولك أنت گلتلها البنتي گـرعا؟" أدركت بالغريزة أنني لو دخلت مسرعا إلى البيت لعلم بأنني المعتدي، وقفت برباطة جأش وقلت له: "لا! مو آني، هذا واحد من الگرايب (الأقرباء) سمعنا اشگال (ماذا قال) للبنت، بسطناه (ضرناه)، ورجعناه البيته!". اخرج والدها سكينا من عبه وقال لي، اسمع ولك يا خَـلـَگ (خَـلِـق) إيهودي، والله والله! لو انته گايلها گرعا جان ذبحتك هسا!". أجبته: "لا عمّي! مگلتلك إحنا ضربناه ورجعنا البيته بالعلوية". وقال والدها: "زين سويتو رجعتو الأبن الكـ..ـة لمهجومه (الى بيته الخرب) كان هسا ذبحته!"، ثم أخذ بيد ابنته "الگرعا" وهي تشك فيما قلته وتتلفت لتتأكد من صدق كلامي، فجرها والدها من ذراعها وذهب. دخلت الدار وأنا أتنفس الصعداء ولا أكاد أصدق بنجاتي. ومنذ ذلك الحين وبعد "الهرجة" التي عملتها عمتي هيلة وسليمة زوجة خالي حاييم، تابت أمي من إرسالي "للتصييف" في بيوت أقربائنا في مناطق تسكنها الأغلبية المسلمة وأرسلنا الوالد بدلها لنتعلم اللغة العبرية بعد أن حرّمت وزارة التربية والتعليم تدريس اللغة العبرية، إلي الكنس اليهودية القريبة من دارنا مثل "كنيس أبو داوود" وهو من أقربائنا وكنيس مسعودة شمطوب، وأخيرا إلى كنيس مئير طويق قرب دارنا بعد أن تمّ بناؤها.
إلتحاقي بمدرسة السعدون النموذجية سنة 1938
بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
زارتنا السـت مارثا القاطنة في شارعنا في الدار الثالثة عن يمين بيتنا، قالت لوالدي بأن مدرسة السعدون النموذجية الداخلية، التي تديرها والتي كانت مخصصة لأبناء العائلة المالكة وكبار رجال الجيش والحكام والموظفين، أصبحت الآن تقبل طلابا خارجيين أيضا. ولكي تكمل المساواة بين الطوائف فيها ترجت من أبي أن يرسل لها "فد ولد ولدين" من بين أبنائه وبناته الستة ليكون فيها طلبة من اليهود أيضا إلى جانب أثنين من المسيحيين انضموا إليها حديثا، وأضافتْ بأن هذه مدرسة فريدة من نوعها في العراق، فهي مدرسة مختلطة للذكور والإناث وتطبق فيها المناهج الدراسية الحديثة ويعامل الطلبة فيها على قدم المساواة بدون إهانة الطلبة بالشتم والضرب كما هو متبع في طرق التأديب القديمة البالية في المدارس. وافق الوالد على إرسالي: "ميخالف، أدِزْلجْ (أرسل إليك) سامي هذا سبع عركاوي وميخاف"، ثم أرسل معي أخي ريمون ليكون تحت حمايتي وليوفر مصاريف الدراسة الباهظة في مدارس الطائفة "الإسرائيلية" كما كانت تدعى قبل قيام دولة إسرائيل تفاديا للعنة "الذل والمسكنة" التي حاقت باليهود لو سمّيت بالطائفة اليهودية، ثم سميت بعد قيام دولة إسرائيل وقذف دار الطائفة بالحجارة بسبب ذكر "الطائفة الإسرائيلية"، بـ"الطائفة الموسوية". عقّبَ والدي على حديث الست مارثا حول المساواة الظاهرية باليهود: "لا خُصْمَت (أي انتهت المشكلة) لَكَنْ (إذًا) غاح تكمل السبحة مال المساواة ويّاهم".
كان يوم التحاقي بمدرسة السعدون يوما مشهودًا وحافلا بالمفاجآت العجيبة. قال والدي وهو يتهيأ للذهاب إلى "الأوفيس" وهو شركة "أندرو واير" للإستيراد والتصدير ويعمل مديرًا عاما لحساباتها: "خذو الريمون وروحوا للمدرسة وقلاّ المارثا: أبويي إيسلم عليكي وقعدينا بالمدرسة مثل ما قلتِي". لم يرسل معنا لا أبو علوان مرافقا لنا كما اعتدنا ولا يحزنون: "خَطَشْ أبو علوان؟ ما إنتَ سييغ غجال، ليش أنتَ ولد بَـبّـا" (ما الحاجة الى أبي علوان، لقد أصبحت رجلا، هل أنت طفل رضيع؟)" كنت مع أخي ريمون الطالبين اليهوديين الوحيدين. كشفت معاملة الطلاب لي عن ازدراء الزملاء المسلمين والمسيحيين لليهود والسخرية من جبنهم الذي كان يضرب به المثل. جاء أحد التلاميذ يسألني السؤال المعتاد في العراق: "أنت مسلم لـُو إيهودي؟" قلت "إيهودي!"، فإذا به يصرخ مستهزئا ويفرك كفيه: "ترى هذا إيهودي، إيهودي، تعالوا شوفوا!" فأقبل باقي الطلاب صارخين بجذل: "أيهودي! أيهودي! وينا اليهودي؟" وإذا بأحدهم يركع على ركبة واحدة وكأنه يصوب بندقية ويصيح بصوت مرتعد: "أبدالك حسقيل، طقت لـُو ما طقـّت" (أفديك يا حسقيل (اسم يطلق على كل يهودي)، اخبرني هل انطلقت البندقية أم لا)، كأنه من خوفه لا يستطيع التمييز بين انطلاق وعدم انطلاق الرصاصة فيطلب من صديقه حسقيل أن يخبره بذلك. وقد علمت فيما بعد أن هذه التمثيلية الهزلية الشعبية كانت تقام للسخرية من اليهود الذين جندوا في الجيش العراقي ويهزؤون من رعبهم وخوفهم أثناء التدريب على إطلاق البنادق. وقد روى لنا عمي موشي مئير رحمين معلم الصيدلي بأنه عند تخرجه من كلية الصيدلة في بغداد ودعي مع خريجي الكليات العراقية والجامعات الأوربية للتدريب (وكان بينهم السيد نعيم دنكور من كبار رجال الأعمال في لندن اليوم)، في دورة ضباط الاحتياط سنة 1938، وجاء دوره في التمرين على إطلاق النار والتصويب نحو الهدف، تجمع حوله الخريجون وهم يقولون ضاحكين هازئين: "تعالوا نگلا (نقول) الموشي إذا طقت لو ماطقت" (تعالوا نخبر موشي إذا كانت البندقية قد انطلقت أم لا). دهشوا لإصابته الهدف بدقة ولم "يتوهول" (يضطرب) عند انطلاق الرصاصة، وقالوا له مهنئين: "يعني ما لازم نسألك أشقال قلبك حسقيل من طقت الطقاقة". (لا حاجة لأن نسألك يا يهودي ما جرى لقلبك عندما انطلقت البندقية)". قال أحد المعلقين العراقيين بعد حرب الأيام الستة، "والعجيب هو كيف جعلتْ إسرائيل من اليهود الشرقيين الذين كانوا مشهورين بجبنهم، جنودا حاربوا ببسالة ضد الجيوش العربية؟". ولكن الدهر دولاب.
     وبعد هذه المهزلة قام طلاب آخرون بعرض تمثيلي ساخر آخر. حملوا تلميذا صغيرا وصاروا يتغنون بلهجة شبيهة بلهجة يهود بغداد وهم يسيرون به:
               حسقيل إمدلع صليتونـو          ودونوا للصاغايـو
               وأمـو تـبـكي وغايو          والفينة ابغاسو تفتر
                         طلع اسـمو بالـدفـتـر

بغداد القديمة
بغداد في الثلاثينات
     كان أحدهم يتصنع البكاء كأنه أم حسقيل الهلعة المولولة من تجنيد ولدها المدلع الذي تصلي على أذياله والذي يؤخذ إلى التجنيد في السراي (الصغايو)، والآخر يتظاهر بالبكاء كأنه أم حسقيل والثالث يدير الفينة (القبعة التي يعتمرها المتدينون اليهود) على رأس حسقيل المسطول والمترنح من خوفه من التجنيد، والرابع يتظاهر بأنه يكتب أسم حسقيل في دفتغ (سجل) التجنيد. ثم أدركت فيما بعد إنهم يمثلون تمثيلية هزلية ساخرة من أمهات شباب اليهود اللواتي كن يهلعن ويولون عند تجنيد أبنائهن وسوقهم إلى لجنة تسجيل المجندين الإجباريين وخوفهم ورعبهم من التجنيد. وبعد صخبهم وضحكهم من هاتين التمثيليتين الهزليتين الارتجاليتين وهم ينظرون إليّ بشماتة واستهزاء وقد أخذتني الدهشة والحيرة من حماستهم المتأججة هذه ومن تهليلهم كأنهم انتصروا في معركة، صاح أحدهم: "ولك إيهودي بس نطلع من المدرسة راح انعلمك النبي عربي!".
     وبعد انتهاء الدراسة والتحرش المستمر بي وهم يشيرون بإصبعهم إلى رقبتهم بالذبح، ثم يشيرون بأصابع يدهم المجموعة، أن انتظر حتى ترى ما سنفعله بك! شعرت بالاستلاب والضياع والعزلة الغريبة "كالأيتام في مأدبة اللئام"، وخرجت معهم متوكلا على الله. أحاط بي هؤلاء التلاميذ وقالوا: تعال نتباطح (نتصارع) وإلا نبسطك!" قلت لهم: "نزلوا لي واحد واحد لُو اثنين اثنين، مو كلكم سوى!" ضحكوا ساخرين من جوابي ومتعجبين من عدم هروبي وموافقتي على المنازلة. صاح عصام: "هذا اشايف نفسه؟" أصدر رئيسهم عبد الرحمن الجابي وهو أكبرهم سنا أمره لتلميذ مسيحي: "ولك خيري انزله!". وبسرعة وضعت رجلي اليمنى مثل "عباس الديچ" وراء قدميه وضربته "بكلابند" ودفعت خيري إلى الساقية القريبة أمام منزل آل بابان قرب المدرسة. بهت خيري وأصدقاؤه المشجعين وهم يرون بطلهم خيري مستلق على ظهره في الساقية وقد طار حذاؤه من رجله. تناولت الحذاء، (وهو والكالة <مركوب ينتعله العراقيون في البيت غالبا>، السلاح المحبب عن العراقيين نساء ورجالا في ضرب الخصوم، واستعملوه في ضرب تمثال صدام حسين بعد إسقاطه في ساحة الفردوس في بغداد عام 2003) وركبت صدره ورفعت "القندره" وصحت به "ها تسلـّم لو لا؟"، قال خيري بصوت متوسل: "لا بس! بس!" (كفى! كفى!). صاح أصدقاؤه معاتبين: "ولك خيري، أثاري (نرى) أنت ماكو أبراسك خير!" توجهت إلى أصدقائه الآخرين والحذاء بيدي: "يلله منو ينزل وراه"، فصاحوا بصوت واحد: "لا! لا ! ولله أنت صرت صديقنا، طلعت إلنا سبع مو (غير) مخنث مثل اليهود"، وهكذا أصبحت واحدا من "الربع" (الشلة) ووراء عبد الرحمن الجابي في الرئاسة.
انقسمنا فيما بعد إلى فريقين، فريق من الطلاب المسلمين من أبناء الزوجات المسيحيات اللواتي تزوجن بعراقيين درسوا في ألمانيا وسويسرا وانكلترا وغيرها من البلدان الأوربية ومن أبناء التركيات، فانضممت إليهم لأنهم كانوا يشعرون مثلي بأنهم أقلية مستضعفة أمام الأغلبية من أبناء المسلمات العربيات. تزعمت مع إياد علي غالب أبناء الأقلية، وتزعم عبد الرحمن الجابي وأخوه طالب وفيصل ابن رشيد عالي الكيلاني الأغلبية من أبناء العربيات. أصبح الجو متوترا مشحونا بالخوف، الأخبار عن انتصارات هتلر "زعيم ألمانيا الذي لا يقهر"، وصوت يونس بحري يلعلع وهو يذيع من "باري" في إيطاليا "حيي العرب"، ويتحدث بحماس عن انتصارات المحور في جميع الجبهات الحربية وزحفه في شمال إفريقيا نحو العلمين واندحار الحلفاء. صارت جدران ساحة اللعب في مدرسة السعدون لوحة لعرض الشعارات السائدة في الشارع وبين أفراد الشعب المتحمسين لانتصارات المحور وهي محفورة في طابوق الجدران والمنقوشة من قبل الطلاب بعلامات الصليب المعقوف وجملا تمجد الزعيم الألماني "فليعش هتلر حامي العرب"، "أبيدوا المكروبات"، "انكلترا بالقندره" و"لا مسيو، لا مستر / الله بالسما وعلى الأرض هتلر!" وغيرها من الشعارات. وعلقت إدارة المدرسة آيات قرآنية "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، وأحاديث نبوية، مثل "إخشوشنوا فان الترف يزيل النعم". وكان أبناء كبار ضباط الجيش يأتون ببزّات عسكرية مهندمة بالقايش والحزام العريض وصولجان القيادة وعلى أكتافهم الصغيرة رتبة رئيس أركان الجيش وغيرها. وصار شباب "الفتوة" و"كتائب الشباب" يتبخترون بزيهم العسكري ويفتشون اليهود في الطرقات بحثا عن اللاسلكي والمرايا وغيرها من أدوات التجسس المزعوم، لإرسال الإشارات الضوئية للطائرات البريطانية.
وبعد مدة بشرتنا الست أم ساطع مساعدة مديرة المدرسة بأن وزارة المعارف أوصت بالسماح للطلبة غير المسلمين بحضور دروس القرآن الكريم مع إخوانهم المسلمين دون المشاركة الفعلية في حفظ القرآن. وجدت في هذه الخطوة شيئا من المساواة لأننا كنا نقضي دروس القرآن خارج الصف بملل وبشعور بأننا مختلفون عن الأغلبية المسلمة. أخذ صديقي عبد الرءوف يطلب مني "تسميعه" آيات "جزو عم" التي كان عليه حفظها عن ظهر قلب. وكنت أصحح له أخطاء القراءة والحفظ فأحفظ الآيات معه. وكان إذا جاء دوره ينسى أحيانًا بعض الكلمات فأهمس له بها. وفي ذات يوم لاحظت الست أم ساطع همساتي له فغضبت وقالت له: "أمْ مُداك! وسليمة التگرفك يا عبد الرءوف! ولك أيهودي يعلمك القرآن؟" ضحك التلاميذ من ملاحظة مساعدة المديرة وشعر عبد الرءوف بالحرج وصار يعتمد على نفسه في الحفظ دون الاتكال على مساعدتي.
كنـّا ذات يوم نلعب وحدنا وفجأة قال عبد الرءوف وكان أكبر مني سنا وحجما: "سامي! أنتَ اشايف نفسك؟، أشو تعال نتباطح!". وافقت، تماسكنا وكان حذرا هذه المرة من "الكلابند" الذي صرع خيري بسهولة فاستعملت معه "المخيط" بدس إصبعين بين إضلاعه، فلما اعتدل لشعوره بالألم "ضربته بالكلابند" فسقط وصرعته. انتفض واقفا وهو ينظر حواليه فيما إذا كان أحد الطلبة قد شاهد الصراع، ثم قال لي محذرًا: "سامي لا تگول لَحّد إنتَ بطحتني، ترى عيب على المسلم يبطحه إيهودي". احترمت طلبه ولم أفضحه سوى الآن بعد مرور 66 سنة وباسم مستعار، أرجو أن يغفر لي كشفي لهذه الفضيحة.الصدام مع فيصل بن رشيد عالي الكيلاني
وفي شهر ابريل من عام 1941 ازدادت تحرشات فيصل ابن رشيد عالي الكيلاني بزملائي من أبناء الزوجات الأجنبيات وخاصة التحرش بي شخصيا، فقد كنت الطالب اليهودي الوحيد إلى جانب الطالبة سمحة قزاز والذي يعارض زعامته، وأصبحتُ هدفا لكل الدعاية النازية. وعندما ألّف رشيد عالي الكيلاني والد فيصل وزيرا، تشجع ابنه وصار يعتدي على أبناء الأقليات المسلمة والمسيحية وخاصة على سامي اليهودي: "راح تشوف إشلون أنكسّـر راسكم"! ضجرت مع أياد وخيري من اعتداءات فيصل وقلنا له: "أشو من صار أبوك وزير طلعت عينك" (منذ أن أصبح أبوك وزيرا أصبحت أكثر جسارة واعتدادا بنفسك). أنشاء الله تسقط الوزارة ويطلعوا الأبوك بالچلاق (بالرفسات)". غضب فيصل من قولنا وشتمنا وأضمر لي هذه المسبة. وبعد شهرين من سقوط الوزارة الأولى، أي في 12 أبريل 1941 سمعت في نشرة الأخبار الصباحية التي كان والدي يستمع إليها يوميا قبل ذهابه إلى "ألأوفيس" نبأً هالني: "سقطت الوزارة وعين فخامة السيد رشيد عالي الكيلاني رئيسا لوزراء الحكومة الجديدة". توقعت الشر من فيصل، فعندما كان والده وزيرًا اشتد اعتداؤه علينا، فكيف بنا وقد أصبح ابن رئيس الوزراء "وبالَك بالَك، وهَللّه هَللّه (تعبير يعني: إفسح الطريق لهذه الشخصية المهمة)، وبعد منو يقدر يحچي ويياه". قلت في سري: "الله استرنا من هل بلوه!"
توكلت على الله وذهبت إلى المدرسة. عرجت على بيت إياد علي غالب لنذهب سوية ونتدبر الأمر، "هذا اشراح ايخلصنا منه؟" كان الجو دافئا وركبنا المراجيح في ساحة اللعب ونحن بانتظار قدوم فيصل وربعه وما سيقول عن تسنّم والده لأرفع وظيفة في العراق بعد أن فرّ الوصي عبد الإله وحاشيته إلى الأردن وأرسل الملك الطفل فيصل الثاني ووالدته "في ضيافة إجبارية" إلى حامية مدينة أربيل تحت حراسة ضباط احتياط كان منهم المحامي أنور شاؤل. وفجأة وأنا أتنافس مع أياد في أيّنا "يتمرجح" إلى الأعلى أكثر، أقبل فيصل وبيده "توثية" (عصا من شجر التوت)، ونزل الدرجات إلى ساحة اللعب ووراءه "ربعه" وهو ينادي بأعلى صوته: "وين سامي اليهودي! والله لأطلعلك عينك بهل التوثية! شلون اتكول انشاء الله تسقط الوزارة ويطلعوا الأبوك بالچلاق، هسه سقطت الوزارة وصار أبوي رئيس الوزراء، يا لله انزل!" نزلت من المرجوحة ونزل إياد معي، هجم فيصل بالعصا وصار يضرب بها في الهواء يمينا ويسارا أمامي والعصا تصفر في كل مرة تمر بضع سنتمترات من أمام عينيّ وتقترب رويدا رويدا ورفاقه يشجعونه بقولهم، " حيل أضربه، حيل طلّع له عينه" (اضربه، بقوة، أفقئ له عينيه)، تراجعت إلى الوراء وفيصل يواصل تقدمه حتى حصرني إلى الجدار المنقوش بالشعارات العدائية. أخذ أصدقاؤه يرددون مع كل صفير للعصا أمام عينيّ بحماس: "طَلّعْ له عينه، طلع له عينه!" توقعت أن تكون الضربة التالية على عيني وتفقئوها. صحت بيأس: "فيصل بس عاد، بس عاد!"، واصل فيصل لعبته الخطرة وهو يزداد حماسة: والله أطلع لك عينك!" أغمضت عيني عندما مرت العصا من أمام عينيّ وشعرت بالهواء يضرب جبيني، وبيأس وأنا مستند إلى الجدار المزين بالشعارات النازية والتحريض على اليهود، جمعت قوتي وأنا مغمض العينين وضربت بقبضة يدي وجه فيصل "بالعمياوي". ندت منه صرخة "آخ يابا!". فتحت عيني وأنا لا أصدق أني أبصر، وشاهدت العصا طائرة في الهواء وفيصل يغطي وجهه بكفيه وهو يصيح: "آخ يابا، اليهودي طلّع لي عيني!ٍ" وهو يعدو باتجاه غرفة المديرة مارثا وأصدقاؤه وراءه وهم يقولون له، "خابر أبوك، خابر أبوك وقل له على سامي اليهودي!" والتفتَ إليّ إياد وأبني فاضل الجمالي وقالوا "الله سلـّم، هم زين فضت ابهاي" (من الأفضل أنها انتهت بهذه النتيجة).
رن جرس "الاصطفاف لتحية العلم" قبل الموعد المحدد له، وقلت في سرّي "ألله الستار!". صاحت المديرة وعلى وجهها إمارات الانزعاج وبيدها لأول مرة مسطرة التأديب: "جميعا، اصطفاف!". وقف إياد وخيري وغيرهما وهمسا لي، "إحنا وياك!". صاحت الست مارثا بصوت متهدج من الغضب وفيصل واقف إلى جانبها وقد احمرت عينه اليسرى وبللت الدموع وجهه وهو يشير إلي مهددا. "سامي تعال هنا!"، تقدمت إليها فقالت بغضب: "أفتح إيدك!"، فتحتها، ضربتني ضربة على يديّ لم تؤلمني جسديا ولكنها آلمتني نفسيا. قلت لنفسي: "والله خوش! هو يتعدى وآني آكلها، ضربني وبكى، سبقني واشتكى!"، وصاحت الست مارثا بصوت سمعه الجميع: "سامي إنتَ مطرود من المدرسة، ما تگدر (لا تقدر) ترجع بعد!" بدت على وجه فيصل إمارات التشفي وابتسم لأول مرة بعد الضربة القاضية. صاح إياد وخيري محتجين: "سامي ما متعدى، فيصل راد أيطلعله عينه!" ردت الست مارثا بحزم "إخرسوا! سامي مطرود!"، شعرت بما شعر به آدم حين طرد من الجنة، كان شعورا غريبا من الغبن والظلم والاضطهاد لا يحتمل. سرتُ نحو بوابة المدرسة أجر قدمي بيأس خانق وقد اظلمت الدنيا في عينيّ. أنقذني من يأسي صوت مارثا الهامس وأنا أمر من أمامها، "تعال باچر (غدا) وجيب أبوك وياك!" أومض بصيص من الأمل، لعل الطرد ليس نهائيا، وهناك أمل. ضيعت الوقت هائما في طريقي إلى أن تحل ساعة الانصراف وأعود إلى البيت لكي لا أفضح نفسي بالعودة مبكرًا، فقد كنا نحاسب على كل دقيقة نقضيها خارج البيت. تحاشيت النظر إلى أبي وأمي ولم اخبر أحدا بالطرد المشين. لم استطع النوم، كيف سيتلقى الوالد خبر طردي من المدرسة وهو لا يدعنا نجلس دقيقة واحدة دون أن يأمرنا بالدراسة والمطالعة؟: "إدْرِسْ! لو عدد الدقايق الأقِـلّـك بها دْرِسْ تدِرسْ كان طلعتْ غاس (ألأول)!. ماذا سيقول لو علم بأني كنت مطرودا ولم انضم إلى صف الدراسة نهارا كاملا؟ استمع الوالد كعادته إلى نشرة الأخبار وتأزم الوضع في العراق مع بريطانيا ووعود هتلر وألمانيا بمساعدة الحكومة الصديقة الموالية وأنا حائر كيف أفاتح الوالد بهذه الكارثة؟ ما أن صاح بالفرنسية كعادته قبل ذهابه إلى الأوفيس: "مومو، أورفار!" (بما معناه: الى اللقاء يا أم الأولاد)، أجهشت بالبكاء، فالتفت إليّ والدي غاضبا متسائلا: "إنشا الله سويت لك مكسورة! أشكو؟" قلت بصوت مخنوق:
-     "مارثا المديري تغيد (تريد)اتشوفك!"
-     ليش أسساغ (صار) أش جرى؟
-     فيصل ابن رشيد عالي غاد يفقسا العيني!
-     ليش؟ أسويت لو، هيكذ مننو بينو بلا متسويلو شين؟ (ماذا صنعت، هكذا ضربك من نفسه دون ان تصنع له شيئا)
-     ليش؟ كِيف أنا أيهودي!
-     ليش معغفتونو الهذا العزا مالم، مقلتولكلم ساغو نازيين؟ (ألم أدرك هذا الأمر الخطير، ألم أخبركم بأنهم أصبحوا نازيين) .
تهيأت للسير إلى جانب أبي حذرا من أن تنوشني يده. نظر إلي متفحصا قبل أن نخرج من البيت: "هايي ليش جيوبك إمنفخا، أشو تال." تقدمت نحوه خائفا متوقعا الشر، فدس يده في جيبي، وصار يشتم كلما أخرج منه شيئا: أخرج الدعبل والچعاب وخيط المصراع (الدوامة) ومصراع ونبلة مصراع كسبتها من خيري في مباراة بيننا بالمصاريع إذ أفلحت بضرب مصراعه الذي سقط منهوك القوى بينما بقي مصراعى الناعوي يدوي ويدور بعناد فوق راحتي فضربت مصراعه، وبهذه الخطوة كان لي الحق في تحطيم مصراعه المصروع دون حراك على الأرض وكسره وأخذ نبلته غنيمة باردة. وضع محتويات جيبي الأيمن على الطاولة، ثم بدأ بإفراغ الجيب الأيسر لبنطلوني القصير، وهو يحرق الإرمّ، ويواصل الشتم والتهديد. أخرج المصيادة والحصو وسلك الكهرباء للدفاع عن النفس: "ولك هاي الذخيرة منين جيّبا؟ مندال ما تدرس وتتعلم خطغ ايسغ ابغاسك خيغ انت قتحويلك مثل هايي المكسغات التضيعو الوقتك!" (بدلا من أن تدرس وتتعلم لكي تنجح في الحياة أخذت تجمع مثل هذه الترهات التي تضيع وقتك؟)، وصادر الجميع.
سرنا في طريقنا الى المدرسة، نظر والدي إلى قميصي وقال لي: "ولك ليش الدكمة ويقعي (لماذا الزر ساقط)، ليش غكبتك (ركبة رجلك) وسخي، هسه قابل قتمشي على اغكبك (ركبتيك)؟ وهايي كندرتك ليش مصبغتا؟ سيغي بيضا، حتي لو قتمشي على وجّها".
     شعرت بالانكسار، حتى والدي تركني وحيدا. كنت أفكر بشيء واحد لأنقذ كرامتي! قلت بتوسل: "ابدالك پاپا، كل شين قللي بس لا تقلي بوسا الإيدا الست مارثا" (فداك يا أبي، قل لي كل شيء ولا تقل لي قبّل يد الست مارثا). قال أبي بغضب: "متمشي بقا، مظل بس هذا العزا التِلْطِمْ عْلِينو!" (ألم يبق لك مشكلة أخرى تهتم بها؟)
     دخلنا المدرسة وكان فيصل وأصدقاؤه قد علموا بمجيئي مع الوالد ووقفوا ينتظروننا قرب غرفة المديرة. والظاهر أن والده، رئيس الوزراء، فهم أن ما جرى بين ابنه وسامي اليهودي هو "لعب جهال" (أطفال صغار) ولم يتدخل في أمر معاقبتي، وكان باستطاعة كلمة منه تحطيم مستقبلي أو إرسال من يؤدبني بطريقة غاشمة أو يعتدي على عائلتي. وهذه مأثرة ما أزال أحفظها لرشيد عالي الكيلاني بالرغم من اتهامه بمسؤوليته عن حوادث "الفرهود"، فقد تعلمت منه العفو عند المقدرة. وإلى اليوم أترحم على آبائه وأجداده على ترفعه عن عقاب طفل في عمر ابنه. ألم يكن باستطاعته أن يجعل مصيري ومصير عائلتي مثل مصير عائلة قشقوش اليهودية التي أبيدت عن بكرة أبيها في بغداد دون ذنب اقترفته سوى إخلاصها وحبها للعراق وبقائها فيها بعد الهجرة الجماهيرية؟ ألف رحمة على آبائك وأجدادك يا كيلاني.
أغلقت مارثا المكتب وراءنا.
-     خير إنشاء الله؟
-     ترى هذا سامي زيّـفها (بالغ في أعماله)، ضرب أبن رئيس الوزراء وبعد شويا ويطلع له عينه.
-     فيصل بِدا، وهو هدده بتوثيته بتطليع عينه، شتريدين يسوي!
-     ليش ممخلي واحد ما سوّى وياه مشكلة. هاي الأميرة حرق إيدها بالشمس بالعـدسـة ويا إياد علي غالب، سكتنا! هل مرة ويا ابن رشيد عالي، وبهل إيام ويا الأسلام يتضارب؟ والله ترى يگتلوه!
-     سامي بعده ولد جاهل (طفل صغير)، شمفهمه مسلم يهودي؟ أولاد وديلعبون! متعرفين المثل: "قاضي الأولاد خنق روحه".

-     گلّه (قل له) يدير باله وبعد خلّي يتكفّى الشر، راح اضربه شويه بالمسطرة گدام فيصل خاطر يسكت، ونرجعه للمدرسة.
لم أصدق أذنيّ، والدي يدافع عني لأول مرة ومارثا تعفو! إذًا، لا بدّ أن رشيد عالي الكيلاني نفسه عفا عني وإلا كيف تسمح لنفسها بالعفو عن اليهودي الذي ضرب مسلم، وليس ككل المسلمين فهو ابن رئيس الوزراء؟! خرجنا صامتين ورأينا فيصل وأصدقاؤه ينتظرون معاقبتي علنا على أحرّ من الجمر. قالت الست مارثا آمرة: "افتح إيدك!"، ومرت على كفيّ بلطف بالمسطرة. قلت في نفسي: "هم زين فضت ابهاي" (الحمد لله أن انتهت بهذه الطريقة). ولكن للتربية وللصُلْحَة بين الكبار والصغار لها أصولها، ولم يشأ والدي التخلي عنها: "زين دبوس إيد المديرة!". وقع علي هذا الاقتراح الأخير وقوع الصاعقة، ستهدر كرامتي أمام فيصل وأصدقائه. فكرت في مخرج من هذا المأزق، أمسكت يد المديرة البيضاء ووضعت إبهامي على ظهر كفها وقبلت أصبعي. كان الجو متوترا ولم يلاحظ أحدا ما قمت به. هتف فيصل وأصدقاؤه هتاف المنتصرين وقالوا: "باس ايد المديرة وبهدلناه!". قلت لإياد: "ليش آني غشيم وأبوس إيدها، تعال شوف شلون بست إيدها!" وضعت إبهامي على يد إياد وقبلت إصبعي. صرخ إياد ولك هاي من وين جبتها الهل دالغة (الفذلكة). أمسك بيد خيري وقبل الإبهام وهو يهلل ضاحكا: "هذا سامي سواها الحچاية مسخرة!" انتقلت عدوى الحماسة إلى أصدقاء فيصل وصار كل واحد منهم يقبل يد الآخر على الإبهام مهللين فرحين بهذه النكتة الغير متوقعة. وراحت على فيصل نشوة النصر في هذه المرة أيضا بعون الله وعون والده الشهم.
    
               *          *          *
    
     بدأت جراح الفرهود تلتئم رويدا رويدا، أو هكذا خيّل لي. خرجنا صيف عام 1947 نخبة من طلاب المدارس اليهودية في بغداد، من مدرسة فرنك عيني وشماش والمتوسطة الأهلية في مخيم للكشافة شمال العراق نتمتع لأول مرة بمشاهدة جمال جبال شمال العراق وينابيعها وبساتينها في مصيف صلاح الدين والسولاف وسرسنك وزاخو وساندور وغيرها من المدن الكردية الشمالية الرائعة الجمال بجبالها السامقة بحللها الخضراء وجداولها الرقراقة وطيورها المغردة بين أشجارها التي تنوء بثمارها. وبعد أن نصبنا مخيمنا في سرسنك ناداني أستاذ الرياضيات نوري منشي (واليوم يوجد شارع يحمل اسمه في طيرة الكرمل غرب سفح الجبل الأشم وشارع آخر في بيتح تكفا ("ملبس" حسب اسمها أيام الانتداب البريطاني) يحمل اسم الكاتب "سمير نقاش") وقال لي: "اذهب مع موريس شماش لرفع العلم على الصارية!". أخذت العلم العراقي وأنا مبتهج بهذا الشرف العظيم الذي حظيت به. أمسك موريس الحبل بيده لرفع العلم ووقفتُ وقفة استعداد مع تحية كشـفية وأنشدت تحية العلم العراقية:
          دُمْ عَلى هَامِ العُلَى يا عَلَمُ          خافِقًا تَحْمِيكَ بِيضٌ خُذُمُ
بدأ موريس يرفع العلم وظننت أنه يردد معي النشيد، أرهفت سمعي فإذا به يردد باللغة العبرية: "ويِزّاح ويِمّاح" (لـِيُـزَحْ وَلْـيـُمْـحَ)، لم أصدق ما سمعته وصحت غاضبا وتقدمت لأصفع موريس: "يا حمار، يا مجنون! ماذا تقول؟ هذا علمنا يا خائن! أتهين العلم!" امتقع وجه موريس واغرورقت عيناه بالدموع وصرخ في وجهي: "أتقول هذا علمنا؟ لو كان علمنا لما اغتصبوا أمي وأختي وقتلوا والدي أمام عيني لأنه دافع عن عرضه. هل اغتصبوا أمك وأختك وقتلوا أباك أمام عينيك يا ابن البتاويين؟ تعال اضربني تعال! تعال! هل سمعت صراخ والدك وهو يذبح أمام عينيك وتوسلات أمك وأختك طلبًا للرحمة؟ هل رأيت الشيخ الذي قطع رجلي جارنا الطفل الرضيع بحجليهما الذهبيين وسار في شارع غازي كالمنتصر الفاتح وهو يجلجل بجلاجل حجلي الذهب مترنمًا:
"اشحلو الفرهود لو أيعود يومية،           يا يُمّـا ويا يابا!

قل لي هل رأيتهم؟ من هو الخائن يا سامي، نحن أم هم؟ ألم نخدمهم كالعبيد ونسكت على ما صنعوه بنا؟ هل تعرف معنى عار الاغتصاب واليتم، هل تعرف؟" صعقتني كلمات موريس وغامت الدنيا في عيني وتجللت سماء سرسنك بالغيوم السوداء وتساقطت قطرات دم عذراء من العلم الذي توقف عند منتصف الصارية. شعرت باليأس والوحدة والضياع وصحت بموريس شماش: "كفى بربك! كفى! تعال نعود إلى معسكر الكشافة".
     لم أنم الليل بطوله وكان موريس يبكي ويئن ويقول: "اغتصبوا أمي وأختي وذبحوا أبي ويريد ابن البتاويين ضربي!" كنتُ قد سمعت في حينه عن مثل هذا الاغتصاب من بعض الأصدقاء وكتب عن مثل هذه الحادثة فيما بعد الأديب المحامي نزيل الدنمرك نور الدين وهب في قصته الواقعية التي تقشعر لها الأبدان "هتلر في الإبريق". بقيت حائرا متسائلا: لماذا حدث الفرهود؟ ومن هو المسئول عنه؟؟؟