هل يخضع الإنسان لنفسه عندما يخضع للعقل؟

حتّى يضفي بعض الفلاسفة والمفكّرين بعدا إنسانيا وتقدّميا وتحرّريا على التشريعات الأخلاقية ويحرروا الإنسان من التشريعات الدينية وفروض وتعاليم الطبيعة( الكوناتيس عند سبينوزا...) أرجعوا مصدر التشريع الأخلاقي للعقل وهم بذلك يعتقدون أنّهم حرّروا الإنسان من الخضوع لسلطة خارجية عنه وجعلوه يخضع لنفسه.
فهل يخضع الإنسان لنفسه عندما يخضع للعقل؟ هل يظلّ العقل صديقا حميميا في الفرد بل هو الفرد نفسه إذا نظرنا إليه على أنّه سلطة آمرة ناهية؟

إنّ الإجابة تتوقّف على المعنى الذي ننسبه للعقل.
أ‌- فإذا نظرنا للعقل على أنّه ملكة تفكير فردية تتحدّد ماهيتها حسب معرفة الفرد وتجاربه في الحياة، قلنا إنّ الإنسان عندما يخضع للعقل يخضع لنفسه بل أفضل من ذلك نقول إنّه عندما يخضع لعقله يخضع لنفسه، بإعتبار أن لا وجود لعقل مطلق ثابت الخصائص بالمعنى الديكارتي.
ب‌- أمّا إذا نظرنا للعقل كما ينظر إليه ديكارت ك "أعدل الأشياء توزيعا بين الناس" ، قلنا إنّه قدرة لا تنبجس في الأفراد وتتحدّد بملامحهم بل هي قدرة ثابتة المعالم تلتحق بهم وهي هي نفسها في كلّ شخص بمبادئها الفطرية (ديكارت، لايبنيتس...) ومقولاتها القبلية (كانط).
والواقع أن هذه النظرة التحنيطية للعقل والتي تزعم أنّها خلّصت الإنسان من العبودية لما هو خارجي وجعلته يخضع لنفسه، هي في الحقيقة تستعبده بطريقة خفية. ففي الدّين يخضع الإنسان لسلطة الإله وفي هذه الفلسفات المثالية وقع تأليه العقل وإخضاع الإنسان له. والفرق الوحيد بين السلطتين هو أنّ سلطة الإله هي سلطة مفارقة بينما سلطة العقل هي سلطة محايثة. فأيّ بعد إنساني لهذه النظرة للعقل وأوامره الأخلاقية –كما يرى ذلك كانط- مطلقة. يبدو أن البعد الإنساني والأخلاقي حقيقة لا يكون إلاّ في حال الإختلاف بين النّاس، أمّا التوحيد والتدجين فهو منطق شمولي (كلّياني) لاأخلاقي ولاإنساني. وخروج ديكارت من هذا المأزق بالقول إنّ العقل موزّع بالعدل بين النّاس وكلّ فرد يسوق عقله بطريقة مختلفة هو كلام غير مقنع ولا يرفع من قيمة الفرد ولا يجعله سيّد نفسه، أوّلا لأنّه يجعل للإنسان عقلا آخر يسوق به هذا العقل وهذا غير صحيح. وثانيا لأنّ الإختلاف منظور إليه كعلامة للسلبية وليس للحرّية.

تأليه العقل:

يمكن أن نتحدّث عن تأليه للعقل للأسباب التالية: إذا كان العقل هو أعدل الأشياء توزيعا بين النّاس كما يقول ديكارت(1596-1650) فهذا يعني أنّه هو نفسه عند كلّ شخص، فكيف يقول كلّ واحد منّا أنّ له عقلا يخصّه ؟ ثمّ لماذا أتحدّث عن عقلي إذا كان لا فرق بينه وبين عقل غيري؟ نستنتج من هنا أن العقل غريب عن الفرد حتّى وإن كان يوجد فيه. ولسائل أن يسأل ما علاقة الغربة بالتألّه؟ إن العقل هو صوت الأمر والنهي، أي أنه لا يجاري هوى الذات، فهو بإختصار صوت الواجب تماما كصوت الإله. فهو المتحكّم والموجّه تماما كالإله. العقل هو إله القرن المعاصر. و قد سبق للمعتزلة أن أشاروا لهذه العلاقة إذْ اعتبروا العقل مصدر تشريع يناظر القرآن الصادر عن الله حتّى أنّهم حمّلوا الشعوب التي لم تتلقّ رسالات سماوية مسؤولية كفرهم لا لشيء إلاّ لأنّ لهم عقولا.أضف إلى ذلك فإنّنا إذا تأمّلنا تطوّرالحضارة الإنسانية وقفنا على الأشكال المختلفة التي يتّخذها الإله. كان الإنسان البدائي يعبد الأصنام فجاء اله الأديان السماوية على أنقاض الأصنام في الوثنية، والآن يأتي دور العقل على أنقاض الإله في الأديان وكلّ ذلك بفعل التطوّر الحضاري و تظلّ ماهية هذه العناصر الثلاثة (الصنم والله والعقل)هي السلطة والتوجيه والتحكّم. ونظرا لهذه العلاقة الوطيدة بين الإله والعقل ثار نيتشه (1844-1900) على الدين والوعي معا.