عبد الله القصيمي: الأصولي المنشق



أنا هذه الأيام متفرغ تماماً لقراءة أعمال الكاتب السعودي الراحل عبد الله القصيمي (1907 ــ 1996): أشهر الملحدين العرب في العصر الحديث وأكثرهم إثارة للجدل، ليس بسبب إلحاده بالتحديد، ولكن لمفارقات مساره الفكري الموسوم بتقلبات وتحولات حادة وجذرية ما تزال غير مقروءة بشكل كامل حتى الآن.

فالرجل بدأ حياته الفكرية في الثلاثينيات من القرن الماضي سلفياً متحمساً، وكانت له صولات مشهودة في الدفاع عن العقيدة السلفية (الوهابية تحديداً) التي كانت تمثل بالنسبة له "العقيدة السليمة الصحيحة"، حتى إنه تحمل الطرد من الأزهر في العام 1932 لأنه هاجم أحد علمائه بسبب كتابته مقالاً يتهم فيه الوهابيين بالجهالة، بعدها ألف عدة كتب فقهية انتقد فيها الأزهريين بمنتهى العنف، فاكتسب شهرة واسعة في أوساط الرأي العام السلفي في مصر والسعودية، وزادت شهرته بعد أن دخل في سجال فكري مع بعض الليبراليين المصريين في ذلك العصر (محمد حسين هيكل مثلاً بسبب كتابه عن "حياة محمد")، فارتفعت أسهمه أكثر، وصار ملء السمع والبصر، وهنا أصدر كتابه "الثورة الوهابية" (1936)، وهو كتاب دعائي يروج للفكرانية الوهابية وللدولة السعودية الناشئة بطريقة مثالية، ثم كتابه الشهير في نقد / تكفير الشيعة "الصراع بين الإسلام والوثنية" (1937) الذي صنع منه أيقونة نادرة عند الوهابيين في ذلك الوقت، حتى وصل صيته إلى الملك عبد العزيز بن سعود شخصياً، فاهتم به وأوصى به خيراً، وكانت الذروة عندما أُثني عليه في منابر الحرم واعتُبر من أعلام المدافعين عن حرمة الإسلام (نظم إمام الحرم وخطيبه آنذاك الشيخ عبد الظاهر أبو السمح قصيدة كاملة في مدحه) بل إن بعض المتحمسين من شدة إعجابهم به قالوا إنه "أوتي مهر الجنة، ولن يضيره ما يفعل بعد ذلك".

كان القصيمي، إذاً، في طريقه إلى أن يصبح واحداً من أساطين الوهابية في العصر الحديث، وكانت الطريق أمامه ممهدة ليأخذ هذا الموقع، بيد أن لله في خلقه شئون، ولا يمكن أبداً التنبؤ بما يمكن أن يصير إليه الإنسان في المستقبل.

ففي لحظة واحدة، ودون مقدمات واضحة، صدم السلفي المتشدد الجميع عندما اتخذ لنفسه مساراً مناقضاً تماماً لما كان عليه، تغير حال الرجل، وانقلب انقلاباً كاملاً على تاريخه، وبدأ ينفض عقله وقلبه من اليقينيات و المقدسات الدينية كلها، ثم ارتد عن الإسلام، وأصبح ملحداً لا يشق له غبار، يشعل الحرائق في كل مكان بكتاباته الاستفزازية التي تكسر الطابوهات الدينية بلا هوادة، وقد كانت البداية مع كتابه المثير "هذي هي الأغلال" (1946) الذي كشف فيه عن عقل بات يحلق بعيداً جداً عن التصورات الطوباوية للخطابة السلفية (الوهابية)، لكنه ما يزال محتفظاً، بقدر ما، ببقية من إيمان (أي أن نقده حتى تلك اللحظة كان موجهاً للفكر الديني / الإسلامي وليس للدين / الإسلام نفسه)، ثم ازداد الأمر وضوحاً مع توالي كتبه: "العالم ليس عقلا" (1963)، "عاشق لعار التاريخ" (1965)، "هذا الكون ما ضميره" (1966)، "كبرياء التاريخ في مأزق" (1966)، "أيها العار إن المجد لك" (1971)، "فرعون يكتب سفر الخروج" (1971)، "الإنسان يعصى.. لهذا يصنع المعجزات" (1972)، "العرب ظاهرة صوتية" (1977)، "الكون يحاكم الإله" (1981)، "يا كل العالم لماذا أتيت؟" (1986)، التي أثبت فيها، واحداً بعد الآخر، أنه أصبح فعلياً خارج مدار الإسلام بشكل كامل ونهائي، وهكذا انقطع الرجل كلياً عن ماضيه، ودمر كل الجسور التي تربطه بمعتقداته السابقة، ما جر عليه كثيراً من المتاعب، وأغضب الدوائر الرسمية في السعودية لكونه من المحسوبين عليها، حتى وصل الأمر بالملك إلى تخصيصه برسالة طالبه فيها بالتوبة والرجوع إلى الحق، لكنه ظل ثابتاً على موقفه، وفي سبيل ذلك لقي ما لقي من العداوات والملاحقات وهدر الدم والطرد والاغتراب والعزلة والمنع دون أن يتراجع أو حتى يفكر في التراجع عن اختياراته الفكرية الصادمة.

ولئن حير هذا التحول الراديكالي الجميع حتى الآن، إذ لم يستطع أحد من الذين نقبوا في سيرته (وهم كُثر) أن يحدد بالضبط العوامل الحقيقية التي جعلت القصيمي ينقلب على إيمانه وقناعاته ويرتد إلى الإلحاد بهذا الشكل الجذري العنيف والفجائي، فإن الأكيد أن الرجل كان أشهر من نار على علم فكرياً وإعلامياً في فترة ما من التاريخ العربي الحديث، فقد أثارت رؤاه وتصوراته وتحليلاته النقدية التي لم توفر ممنوعاً في الاجتماع الفكري والسياسي العربي إلا اقتحمته ونبشت في أعماقه إعجاب كثير من المفكرين الذين استقبلوها بالترحاب وتحمسوا لها بشدة (مثلاً: كتاب المفكر خالد محمد خالد "من هنا نبدأ" الذي أثار جدلاً واسعاً وقت صدوره في العام 1950 هو في معظمه تنويع على أفكار القصيمي التي تضمنها كتابه "هذي هي الأغلال")، فتشكل في الأوساط الفكرية العربية شيء اسمه "ظاهرة القصيمي" التي امتدت وتوسعت وفجرت نقاشات ومطارحات نقدية في منتهى الأهمية حول الإسلام / المسلمين / التاريخ العربي / المجتمع العربي / العقل العربي / المفاهيم العربية / التقاليد العربية (خاصة بعد هزيمة 67)، وتوزع المثقفون ما بين رافض له ومحذر من خطره (وهم الأكثرية، نذكر منهم سيد قطب الذي اعتبره مجرد منافق "يريد أن يطعن الطعنة في صميم الدين" وهاجمه بعنف في أكثر من مقال محذراً من الانسياق وراء "كفرياته")، ومؤيد متحمس له ومدافع عن حقه في التعبير عن أفكاره بحرية (الشاعر أنسي الحاج مثلاً الذي كتب يقول: "هذا الرجل القادم من الصحراء، الرافض كل شيء، الحر في وجه كل شيء، يتكلم كالشهيد الحي. ماذا يريد؟ يريد أن يفرغ الدنيا العربية من نفسها ويؤلفها على الحرية والعقل والكرامة. كتبه فضيحة تاريخية، فضيحة أن يكون العقل العربي قد ظل حتى الآن خالياً من عبد الله القصيمي")، وعلى كل حال، شهدت الفترة الممتدة بين العامين 1967 و 1972 ذروة شهرة القصيمي، فقد انتشرت أفكاره على نطاق واسع، وظل اسمه يتردد في الأوساط الثقافية بلا انقطاع، إلا أن هذه الشهرة ما لبث أن تراجعت دون أسباب واضحة، فابتداء من الثمانينيات، بدأت الأضواء تنحسر عنه تدريجياً، وأُسدل ستار من الصمت على أعماله، ونتيجة لذلك، انسحب الرجل من الحياة العامة، وعزل نفسه في بيته، وظل على هذه الحال: مهملاً منسياً إلى أن توفي في أحد مستشفيات القاهرة في يناير 1996 .




الحقيقة أن أفكار القصيمي، وإن كانت قد تعرضت لوابل من الهجوم والتسفيه والتجريح، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن بعضاً منها، خاصة تلك التي تعرضت للإشكاليات السياسية والفقهية والاجتماعية والفكرية التي تؤثث فراغات الحالة العربية الراهنة (المسائل المرتبطة بالمجال السوسيو ــ سياسي العربي وإشكالية تخلف المجتمعات العربية تحديدا)، هي أفكار معتبرة وجديرة بالتفكير والتأمل. صحيح أنه لم يقدم في مجمل أعماله منظومة فكرية متماسكة ومحكمة يمكن أن ترقى إلى مستوى "النظرية"، فمعظم كتاباته عبارة عن تأملات وخواطر منثورة بلا ترتيب منهجي، إلا أن هذه التأملات والخواطر، المرسومة في لغة شعرية جميلة، والمعجونة بسخرية مرة ولاذعة، تسلط الضوء باقتدار على كثير من مكامن الخلل في العقل العربي / الإسلامي الحديث.

هذا ونشير إلى أن الدراسات والأطروحات التي تناولت سيرة وأفكار القصيمي وموقعه ومكانته في الحياة الفكرية العربية الحديثة كثيرة جداً، إلا أن أفضلها وأشملها وأكثرها جديةً وحياداً وتوثيقاً هو كتاب / أطروحة الألماني يورغن فازلا: "من أصولي إلى ملحد: قصة انشقاق عبد الله القصيمي" (1996) الذي تناول فيه حياة هذا المفكر المغيّب ومسار تحولاته الفكرية من خلال ثلاث مراحل: مرحلة الالتزام الديني الكامل (سلفي وهابي متشدد)، مرحلة النقد الداخلي للإسلام (كتابه "هذي هي الأغلال")، مرحلة النقد المعادي للإسلام (مرحلة الإلحاد).

أنصح بالاهتمام بهذا المفكر المفترى عليه وقراءة كتبه الممنوعة.. إن لم يكن للاستفادة بشكل مباشر من مراجعاته النقدية، فلتنشيط العقل واستفزاز ملكة التفكير والمساءلة التي خصنا الله بها فأهملناها حتى تآكلت وتفسخت كما تآكل وتفسخ كل شيء من حولنا.

إكتشاف الفرق بين الحب والشهوة



ظلت الحدود بين الحب والشهوة منطقة رمادية غير واضحة المعالم، فاحتار إزاءها الإنسان على مرّ آلاف السنين. لكن العلماء يقولون الآن إنهم تعرفوا، للمرة الأولى، إلى الفروق العصبية بين العاطفتين في الدماغ. 
ويقول هؤلاء إن أفضل طريقة لشرح عمل كل من الحب والشهوة إن هذه الأخيرة تنشّط جزء الدماغ المعني بالشعور باللذة، بينما يعمل الأول على إسباغ «المعنى» على هذه اللذة. ويأتي هذا التوضيح المهم ضمن أول «خارطة» مفصلة لموقعي الحب والشهوة في الدماغ رسمها العلماء بعد متابعتهم الموجات المنبعثة من أدمغة متطوعين عُرضت عليهم صور مثيرة جنسيا وأخرى لأولئك الذين يحبونهم.

ووفقا للورقة المنشورة على دورية «جيرنال اوف سيكشوال ميديسين» فقد أفادت معلومات مستقاة من عشرين دراسة أن كلاً من منطقتين يؤدي دورا أساسيا عندما يتعلق الأمر بالحب والشهوة. والمنطقة الأولى هي insula «التلافيف» والثانية  striatum «المخطَط». ويذكر أن هذا الأخير تحديدا يؤدي الدور الرئيس سواء عندما يشعر الإنسان بالحب أو بالشهوة.

ووجد العلماء أن الرغبة الجنسية تنشط جزء «المخطط» المسؤول عن الإحساس باللذة ليس نتيجة المتعة الجسدية وحسب بل تذوّق الطعام أيضا. وفي المقابل، فإن التلافيف تعطي لهذه اللذة معناها في وجدان الإنسان، وعلى هذا النحو فهي تترجمها الى شعور بالحب. على أن الحب بحد ذاته ليس عاطفة منقاة من «الشوائب». فجزء المخطط المعني بمعالجة هذا الحب، معني أيضا بما يحدث عندما يصبح الانسان مدمنا للمخدرات.

ويشرح فريق العلماء في جامعة كونكورديا الكندية، الواقف وراء البحث، هذا الأمر بالقول إن الحب «يصبح عادة تتأتى عندما تؤتي الرغبة الجنسية ثمارها». لكن الدورية الطبية تنقل عن البروفيسير جيم فوس، قائد فريق البحث، قوله: «بينما وفر التقدم العلمي للباحثين السبل الى فهم عميق لموقع الذكاء والقدرة على التحليل والحل. يظل المشوار طويلا عندما يتعلق الأمر بأسرار الحب». ويضيف قوله: «اعتبر الدراسة التي قمنا بها حجر الزاوية في ما آمل أن يصبح أرضية تمهد الطريق الى أبحاث صلدة في مجال العلوم الاجتماعية العصبية. وكل أملي أن تؤدي هذه الأرضية بدورها الى رفع النقاب كاملا عن هذه العاطفة المحيّرة». 

اديان الفطرة


بقلم: جان فرانسوا دورتتيه (Jean-François Dortier)


البابا والاقزام، بحثا عن الدين الاول

تجربة

[ درست أجيال من علماء الأناسة المجتمعات البدائيّة على أمل العثور على آثار الدين الأوّل. وتباعا، اعتبرت أحيائيّة الأقزام البيغمي، ثمّ طوطميّة السكان الأصليّين لأستراليا، ثمّ شامانيّة البوشمن، الدين الأوّل. لكنّ هذه النظريّات انتقدت بشدّة، قبل أن يتمّ التخلّي عنها. فهل يمكننا اليوم العودة إلى هذه المسألة من زاوية نظر جديدة تماما؟ هذا ما يحاوله هذا المقال (*) الذي صدر ضمن سلسلة الملفّات الكبرى لدوريّة العلوم الإنسانيّة في عددها الخامس نهاية العام 2006 تحت عنوان "أصل الأديان"… وهو بقلم جان فرانسوا دورتييه، مؤسّس ومدير دوريّة "العلوم الإنسانيّة" (Sciences Humaines) ومؤلّف عدد من الكتب الهامّة في علوم الإنسان، منها "الإنسان، ذاك الحيوان الغريب" (2004) و"العلوم الإنسانيّة، بانوراما المعارف" (2009)، و"قاموس العلوم الإنسانيّة" (2004) و"تاريخ للعلوم الإنسانيّة" (2006) و"المخّ والتفكير" (2005)(**)]

*******************


في عام 1923، دعم البابا بيوس الحادي عشر رحلة استكشافية إلى قلب الغابة الأفريقيّة لدراسة الأقزام (البيغمي) (1). ولم يكن الغرض تبشيريّا، بل للتحقّق من نظريّة "التوحيد البدائي" التي كان الأقزام البيغمي بحسبها يعتقدون في إله واحد. وهكذا تمّ إرسال علماء أناسة للقاء رجال الغابات الأقزام، وكان من بينهم القسّ الأب بول شيبستا (Paul Schebesta) المبشّر النمساوي الذي قام برحلات عديدة إلى أقزام الكونغو المعروفين باسم "بمبوتي" (bambuti) وخصّص لهم العديد من مؤلّفاته. وقد أكّد في كتابه "البيغمي" (Les Pygmés) الصادر سنة 1940 عن دار غاليمار بباريس عثوره على تطابقات مثيرة بين الإله الأعلى للأقزام، خالق كلّ الأشياء، وإله الكتاب المقدّس.

ومنذ ذلك الحين، قام علماء الأناسة بتصحيح وجهة نظر الأب القسّ. وبالطبع، فإنّ مجمع آلهة الأقزام البيغمي يضمّ إله أعلى يقال إنّه أنجب الزوجين الأوليين أبوا اليشر: "تولّي" (Tollé) وأخته "نغولوبنزو" (Ngolobanzo). إلاّ أنّ هذا الإله، البعيد والمفارق، لا يتدخّل في الحياة العاديّة. وبالمقابل، فإنّ الأشباح - أو الأرواح الخيّرة - هي التي تساعد على توفير الصيد والحماية من الأمراض. إنّها تقف في وجه الشياطين والأرواح الشرّيرة التي تسكن الغابة، وترأس الكثير من الطقوس التي تنظّم الحياة اليوميّة، فتظهر في طقوس التلقين والصيد وتضميد الجراح والخصوبة والجنازات، الخ.






ولنترك الآن الغابات المطيرة لننحدر بضع مئات الكيلومترات جنوبا. هناك، تمتدّ صحراء كالاهاري الكبرى. وهنا، لا وجود لأيّ نبات غزير ولا لحيوانات وفيرة، بل صحراء موشّاة بشجيرات وصخور ونقاط مياه ضحلة. وفي هذا المكان، تمكّن البوشمن من التكيّف ليعيشوا طويلا، على غرار الأقزام البيغمي، ضمن عصابات صغيرة من الصيّادين الملتقطين. وعلى غرارهم أيضا، كانوا يعتقدون في وجود أرواح غير مرئيّة. ففي المجمع الإلهي للبوشمن سان، يوجد إله أعلى هو "كاغّن" (Kaggen). وبما أنّ هذا الاسم يتطابق مع الاسم الذي يطلق على حشرة "فرس النبيّ" (la mante religieuse)، فقد ذهب في الظنّ أنّ السان يعبدون "فرس النبي". وفي الواقع، كما يقول ديفيد لويس ويليامز، فإنّ "هذه الحشرة لم تكن سوى أحد مظاهر كاغّن الذي كان يعيش بصفة عاديّة بوصفه "سان" عاديا، مع أسرته التي كان يخرج من أجلها إلى الصيد. وكان خيّرا وشرّيرا في آن واحد، أو بالأحرى لا هو بالخيّر المحض أو السيّئ المحض"(2).

وقد وصف دين البوشمن بأنّه "شاماني" بسبب تشابهه مع الطقوس التي تمارسها شعوب القطب الشمالي. فحين يتعلّق الأمر بشفاء مريض أو جلب المطر، يجتمع الرجال والنساء ليلا حول النار، ويغنّون ويرقصون ويصفّقون بأيديهم إلى أن تتولّى أحدهم – المتطبّب – غشية (3)، ويدخل في تواصل مع عالم الأرواح، ويتمكّن بذلك (أو يُعتقد على الأقلّ) من استخراج المرض من جسم المريض.

وهذه الطقوس القديمة يمارسها أيضا "البوشمن كون" (Bushmen Kun) الذين يعيشون على بعد مئات الأميال من السان. وقبل بضع سنوات، اكتشف الباحثون أن رقصات طقوس "سان" مماثلة لأحد رسوم لوحات الكهوف التي عثر عليها علماء الآثار على وجوه الصخور في المنطقة (4).

ولنصعد الآن إلى الشمال الشرقي من أفريقيا، ونحطّ الرّحال عند النوير الذين يعيشون في جنوب السودان وأثيوبيا (5). لقد اشتهر النوير عند علماء الأناسة منذ أن أنجز إدوارد إيفانز بريتشارد دراسته الكلاسيكيّة حولهم في عام 1940. والنوير تقليديا مربّو ماشية. وفي هذا المجتمع الأبوي (كي لا نقول الذكوري)، وشبه المترحّل ذي التنظيم المعقّد، تتداخل علاقات القرابة (العشائر وخطوط النّسب) مع التقسيمات الإقليميّة (القرى) والوحدات السياسيّة (القبائل). وعلى غرار الأقزام البيغمي والبوشمان، يعتقد النوير أيضا في وجود إله أعظم يسمّى"كووث"(Kwoth) يعيش في السماء وهو خالق كل الأشياء. إلاّ أنّ "كووث" ليس وحده من يسكن عالم الآلهة. إذ تعيش معه أرواح الأجداد والآلهة الطوطميّة. وتلعب هذه الآلهة العشائريّة أيضا دورا مهمّا في مخيال كلّ عشيرة (6). وعلى سبيل المثال، فإنّ طوطم بني "لينغ" هو "الروح الأسد". وبالتالي، فإنّ الـ"لينغ" يكرّسون عبادة لهذا الحيوان ولا يمكنهم قتله أو أكله. وهم يمثّلون هذا الحيوان الطوطم بـ"صنم" مخبّأ داخل بيت ولا يخرجونه إلاّ أثناء الاحتفالات. وقد تمّ وصف دين النوير بأنّه "طوطمي" بسبب حضور هؤلاء الأسلاف الطواطم فيه (7).

نــــواة مـــشتركة؟

وبهذا، يغدو الأقزام البيغمي أرواحيّين ما داموا يمارسون عبادة الأرواح-الحيوانات وقوى الطبيعة، ويغدو البوشمن شامانيّين ما داموا يوسّطون الشامان في استرضاء الآلهة، ويغدو النوير طوطميّين ما داموا يقدّسون طواطم خاصّة بكلّ عشيرة.
لقد شهد تاريخ نظريّات الدين البدائي تباعا اتّخاذ الأرواحيّة والشامانيّة والطوطميّة نموذجا. إلاّ أنّه تمّ بالمقابل وتباعا، رفض كلّ من هذه الفرضيّات بعد تعرّضها لنقد عنيف وقاس. وفي نهاية المطاف، قرّر علماء الأناسة التخلّي عن البحث في مسألة أصل الدين والشعور الديني "مقابل الرغبة في وصف تنوّع أساليب العيش الموجودة في العالـم"(flowers.

إلاّ أنّه قد يكون من الممكن استئناف النظر في المسألة اليوم من منظور جديد، وباعتماد منهج مختلف. فمفاهيم الطوطميّة والأرواحيّة والشامانيّة هي إرث من تاريخ طويل لأبحاث علميّة. وتعكس كلّ واحدة من هذه التسميات الاهتمام الموجّه من قبل علماء الأناسة على وجه مخصوص من وجوه الأديان المتدارسة : الأساطير الطوطميّة عند السكّان الأصليين لأستراليا، شخصية الشامان في آسيا، المعتقدات الأحيائيّة في ديانات أفريقيا السوداء. إلاّ أنّ التركيز على الأنواع المختلفة من الممارسات الدينيّة أعمانا عن حقيقة بسيطة وأساسيّة، وهي أنّ لهذه الأديان، في ما وراء تنوّع أشكالها، تجانسا قويّا قائما على نواة مشتركة من الممارسات والمعتقدات.

وتتضمّن هذه النواة المشتركة أربعة عناصر أساسية هي : 1) اعتراف جميع الديانات التقليديّة بوجود عالم غير مرئيّ يسكنه الأرباب: آلهة، أرواح، أسلاف أو قوى خارقة للطبيعة. 2) سعي البشر إلى إرضاء تلك الأرواح باستخدام طقوس-صلوات واحتفالات جماعيّة، وطقوس استرضائيّة. 3) الدين يفرض على الأفراد قواعد السلوك، والواجبات والمحظورات التي تنظم حياة المجتمع. 4) وسطاء المقدّس - الشامان، الكاهن، العرّاف أو عريف الحفل - هم المسؤولون عن ترؤّس الطقوس ونقل المعارف المتعلّقة بعالم المقدّس. وبهذا، تكون الأرواحيّة والطوطميّة والشامانيّة، في ما يتجاوز اختلافاتها، قائمة على هذا البنيان المشترك نفسه.

عالم الأرواح

رأى إدوارد ب. تايلور (Edward B. Tylor) أنّ وجود النفوس، والأرواح الخفيّة لم يكن سمة من سمات "الأديان البرّية"، بل سمة كونيّة لجميع الديانات. فسواء ذهبنا عند الأقزام البيغمي أو البوشمن أو النوير، أو إلى أيّ مكان آخر في أفريقيا السوداء، فإنّنا سنكتشف مجمعا لآلهة متشابهة. ففي معظم المجتمعات الأفريقيّة، يوجد إله خالق، مجرّد إلى حدّ بعيد ومفارق، ولكنّه نادرا ما يكون موضوع عبادة حقيقية.
ففي الممارسة اليوميّة، يتمّ بالأحرى استدعاء حشد كامل من الكائنات غير المرئيّة، من الأسلاف، وأرواح الأدغال، والأبطال المؤسّسين، وآلهة العشيرة. وهذه الأرواح هي ما يطلق عليها في لغة الفون المستخدمة في البينين (داهومي سابقا)، اسم "الفودن" (Vodun): إنّها القوى الغامضة وغير المنظورة التي باستطاعتها التأثير على مصير البشر. وعند اليوروبا (Yoruba) في نيجيريا، فإنّ السائد هو العبادة التقليديّة للـ"أوريشا" (Orisha)، وهم الأبطال والأسلاف المؤلّهون. وعند الباولي (Baoulé) في ساحل العاج تسود عبادة "الأموين" (Amuin). وغالبا ما تمثّل هذه الأرواح من خلال أقنعة وتماثيل يتمّ استعراضها خلال الاحتفالات. وتتّخذ تلك المنحوتات الخشبيّة أشكالا إنسانيّة أو حيوانيّة، أو أشكالا هجينة تكون بشعة أحيانا. ولا يمكن للمرء إلاّ أن يرتبك أمام تشابهها مع الآلهة التي نجدها في جزر المحيط الهادئ، أو في أقصى شمال سيبيريا. ففي كلّ مجتمع من هذه المجتمعات، نجد مجمعا معقّدا من الآلهة والأسلاف والأرواح الممثّلة في شكل تماثيل وأقنعة. وكثيرا ما رسم السكّان الأصليّون لأستراليا تلك الآلهة الطوطميّة على جدران الصخور، وهم يقومون بتجديدها بانتظام خلال الاحتفالات الطوطميّة الكبرى. وسواء حططنا الرّحال في غابات الأمازون المطيرة، أو عند الإسكيمو أو قبائل الإنويت (Inuit) أو في معابد الصين أو اليابان، فإنّنا سنجد شخصيّات مماثلة : تختلف وجوه الأرواح باختلاف المكان (9)، ولكنّ وجودها واحد، إذ هو سمة عالميّة. وترتبط هذه الآلهة بأساطير (نشأة الكون، نسابة الآلهة، خلق الإنسان) تحكي ولادة الكون وبنيته، وولادة الآلهة، وظهور البشر، وعلّة وجود الأشياء.

الطقوس

الدين ليس مجرد اعتقاد في آلهة. إنّه يعرّف في المقام الأوّل من خلال عبادة آلهة بهدف استجلاب نِعَمِها. وهذه هي السمة الثانية المشتركة بين جميع الأديان. فالبوشمن يتضرّعون إلى الأرواح لتهبهم المطر وتشفي مرضاهم وتجعل الصّيد وفيرا. وتقوم الطقوس عند الأقزام البيغمي بنفس الوظائف: طقوس العبور (لإدخال الفتيان في مجتمع الرجال)، وطقوس الاسترضاء (من أجل الصّيد، والشفاء) (10). وفي المجتمعات الزراعيّة، على غرار اليوروبا، ترافق الاحتفالات الدينية موسم الحصاد، وتقوم الأخويّات السرّية (Geledes) بإخراج أقنعة الأرواح عند مراسم التلقين أو عند حلول كارثة بالجماعة (وباء مثلا). وإذا ما قارنا في هذا الصّدد الديانات التقليديّة في أفريقيا بما يوجد في أماكن أخرى، فإنّنا عاثرون لا محالة مرّة أخرى على حقيقة مشتركة تتمثّل في أنّ استدعاء الأرواح يتمّ في وقات محدّدة ومن خلال طقوس صارمة. إنّها تشارك في طقوس العبور (الجنازات، الأعراس، تلقين المراهقين)، وطقوس الاسترضاء الهادفة إلى تنمية الطرائد والزرع والضرع، أو لعلاج الأمراض. فالآلهة والطقوس المرتبطة بها متعلّقة بالتالي بالحفاظ على النظام الاجتماعي، وبقاء الجماعة، وحماية الأسرة والعشيرة والمجتمع. وخلافا للفكرة الشائعة، فإنّ الدين لا يهدف في المقام الأول إلى مواجهة الخوف من الموت، بل مواجهة مشاكل الحياة: الغذاء والدواء وتنظيم مكانة كلّ شخص داخل الجماعة.

أخصّائيو المقدّس

أمّا السمة الثالثة المشتركة بين الديانات التقليديّة، فتتمثّل في أنّها تعهد جميعها لأشخاص مخصوصين مسألة التواصل مع المقدّس. فعند البوشمن، فإنّ الشامان هو مترئّس الاحتفالات الجماعيّة، وهو من يتواصل مع الأرواح-الحيوانات خلال "رحلته" (الغشية). وعند النوير، لا وجود للشّامان بهذا المعنى الدقيق، ولكن إيفانز بريتشارد أشار إلى وجود من يختصّ بالتواصل مع الأرواح:" علاوة عن الكوا ميون (kuaa muon) الذي يرتبط بعلاقات طقسيّة مع الأرض، والوير (wir) المرتبط طقسيّا مع الماشية، يوجد عدد من المتخصّصين بالطوطم، وهم يتعاطون مع الأسود والتماسيح والطيور، الخ. وبالتالي، فهم قادرون على التأثير في سلوك هذه الحيوانات". وعند أقزام "أكا" (Pygmées Aka)، يتغيّر الوسيط مع المقدّس تبعا للطّقس، فكبير الجماعة هو من يستدعي "آزنغي" (è.zÉngì) إله الغابة، والعرّاف-المعالج هو من يستدعي الأرواح (با زيو)، ويلتجأ إلى رئيس القنّاصين في طقوس صيد الفيلة. وهذا الطقس الأخير شديد الشبه بالطقوس الشامانية (11).
وفي جميع المجتمعات التقليدية، فإنّ التواصل مع الأرواح وتنظيم الطقوس منوطان بعهدة مختصّين يطلق عليهم اسم شامان، أو كاهن، أو عرّاف، أو متطبّب، أو رئيس الاحتفال. ورغم أنّ وظائف هؤلاء غير متداخلة تماما، إلاّ أنّ النقطة المشتركة بينهم أنّهم جميعا وسطاء مع العالم الآخر.

أخلاقيّات وقوانين

نلاحظ عند أقزام الباكا (Baka)،أنّ الاضطرابات التي تحدث في المجتمع (صيد غير وفير، وباء، الخ.) تعتبر عقابا من الأرواح للأحياء لأنهم تصرفّوا بشكل سيّئ، كالتسبّب في النزاعات التي تقوّض المجتمع مثلا (12). ومن هنا، فإنّ الأرواح ضمانة لحسن سير المجتمع. وبالمثل، فإنّه حين يتلقّى شابّ تعليمه تحت رعاية الروح "جنغي (Jengi)، فهي فرصة لتذكيره بحقوقه وواجباته. فديانة الأقزام البيغمي، مثلها مثل ديانة البوشمن، هي المحدّد الأوّل للقانون وتماسك الجماعة. ولو ذهبنا إلى الجانب الآخر من العالم، عند البابوزيّين في غينيا الجديدة أو سكّان أستراليا الأصليّين، فسنرى هناك أيضا، كيف تحدّد المعتقدات والطقوس الدينيّة للجميع – ذكورا وإناثا- مدوّنات سلوك حول كيفيّة التصرّف في المجتمع. فالزّنا والسرقة والقتل مدانة في كلّ مكان، وهي تسبّب في كلّ مكان أيضا إغضاب الآلهة. فالدّين، في المجتمعات التقليديّة، ليس سوى راعي القانون والساهر على التماسك الاجتماعي. ولهذا السبب بالذات، تتّخذ الآلهة وجوها متوعّدة وواعدة في آن. وجميع المعدّات الطقسيّة الرمزيّة المرتبطة بها (الطواف، والأقنعة، والرقصات والأغاني، والصلوات…) إنّما يقصد بها جذب الانتباه والدعوة إلى القلق والتحيّر، والتأثير العميق في النّفوس.

مأسســــة الــدين

لفترة طويلة، سعى علماء الأناسة إلى البجث عن بقايا "دين أصلي" في الديانات الأحيائيّة، والطوطميّة، والشامانيّة. وقد أدّى هذا السعي إلى طريق مسدود، وذلك لسببين.
أوّلا، لأنّ الأقزام البيغمي، والبوشمن، والنوير ليسوا حفريّات بشريّة حيّة من عصر ما قبل التاريخ. وعلماء الأناسة يعرفون الآن أنّ للشعوب المسمّاة "بدائيّة" أيضا تاريخا. فالأقزام البيغمي دفعوا بلا شكّ نحو الغابات بعد وصول البانتو قبل بضع مئات من السنين (13)، ومن ثمّة كان عليهم التكيف مع نمط العيش الغابي. إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّهم كانوا يعيشون في اكتفاء ذاتي داخل معزل، فقد كانوا منذ العصور القديمة على اتّصال بـ"السّود الكبار" فتبادلوا معهم الأدوات المعدنيّة مقابل منتوجات الصيد. لذا فإنّه ليس من المستحيل أن تكون معتقدات الأقزام البيغمي في إله أعلى "مستوحاة" من البانتو (14). بالمثل، فإنّنا بصدد فهم أفضل لتاريخ البوشمن الطويل. فتاريخهم مصنوع من العديد من الهجرات والاتّصالات والصراعات مع الشعوب المجاورة (15). ومعتقداتهم هي بلا شكّ مطبوعة بتاثيرات الشعوب التي اعترضتهم خلال رحلاتهم (16). فلا ينبغي أن تؤخذ طوطميّة سكان أستراليا الأصليّين والنوير، ولا أرواحية الأقزام البيغمي، ولا شامانيّة البوشمن، على أنّها مجرّد بقايا بعيدة لدين ما قبل تاريخي.
وبالمقابل، فإنّ حقيقة أن ديانات السكان التقليديّين المنتشرين على هذا الكوكب منذ عشرات الآلاف من السنين، تتضمّن عناصر مشتركة، من شأنها الدّفع نحو اجتراح فرضيّة أخرى.
فأرواحيّة الأقزام البيغمي، وشامانيّة البوشمن، وطوطميّة النوير… لا تعكس مرحلة سابقة للمعتقدات البشريّة. ولكنّها تتضمّن جميعها كلّ العناصر المشتركة التي تشكّل أساس دين عالمي. وهذا البناء المشترك ليس حكرا على ديانات المجتمعات التقليديّة (مجتمعات الصيد والالتقاط أو المجتمعات الزراعيّة). فنحن نجدها كذلك في الديانات الشركيّة في العصور القديمة، كما نجدها أيضا في "الأديان الكبرى" المعاصرة (17). فالطوطميّة والشامانيّة هما ديانتا الصيّادين الملتقطين. ومع التحوّل إلى مجتمعات معقّدة، ونشوء القرى في العصر الحجري الحديث، ثمّ نشوء المدن/الدّول، والممالك والإمبراطوريّات، فإنّ الدين غدا ممأسسا (وهذا أيضا حال التعليم والحرب والاقتصاد)، وشهد انبثاق طبقاته الكهنوتيّة، ومنشآته المعماريّة (المعابد والكنائس)، وأديرته، ودقائقه اللاهوتيّة، ومتصوّفيه، وملوكه المقدّسين، وأنبيائه، وبدعه. لكن كلّ ذلك تمّ بناؤه داخل رحم مشتركة.


دين عالمي؟

في الأساس، ولدت الآلاف من الديانات منذ عصور ما قبل التاريخ وهي متضمّنة نفس المكوّنات: عالم أرواح، وطقوس عبور، ومأسسة، وتطبيب، وأخلاقيّة مشتركة تهدف إلى تنظيم العيش المشترك. وما يختلف من دين إلى آخر هو التركيز على مجال معيّن: الشكل الذي تتّخذه الصلوات (التضحية ليست كونيّة)، عدد الآلهة، أنواع المحرّمات والأوامر التي تنظم حياة كلّ مجتمع.
حين ينغمس أحدنا في الأدب النياسي وراء أساطير وطقوس المجتمعات التقليدية، فإنّه لا يسعه إلا الشعور بالحيرة. ففي مواجهة أساطير البانتو حول خلق العالم، وطقوس العبور أو الأرواح عند النوير، نشعر بأنّنا أمام ثقافة مختلفة جذريّا، أمام عالم أسطوري وديني غريب مليء بأرواح الأدغال، والأقنعة والتماثيل الخشبيّة، وطقوس الانتشاء، والتضحية بالحيوانات، والرقصات المحمومة.
ثم، وعبر قراءة دراسات نياسيّة مكرّسة لليوروبا والباولي والفانغ والدينكا، الخ، يبدأ الشعور بالغرابة في التبدّد ليضحي شعورا بالتكرار وحصول انطباع بتكرّر نفس المشهد في كلّ مكان. إنّها ألحان مختلفة دائما، ولكنّها متألّفة من ترانيم متشابهة. فمجمع الآلهة عند الباولي مثلا بإلهه نياميان (Nyamien)، وآلهته المتعدّدة الأخرى التي يتضرّع إليها عند الولادة أو في طقوس الزراعة، وتماثيله الخشبيّة، واحتفالاته الكبيرة – من أجل الزّواج، والجنازات، والمهرجانات السنويّة - ليس بعيدا البتّة عن الجهاز الديني الموجود في ديانة الشينتو اليابانيّة أو في البوذية الهنديّة، أو الهندوسيّة الشعبيّة، أو المسيحيّة الأوروبيّة. فالفروق التقليديّة بين الأرواحيّة والوثنيّة والشرك والتوحيد تمّحي عند النظر في بنيتها المشتركة: مجمع آلهة، وأشكال عبادة لاستجلاب رضاها، وإطار أخلاقي للسلوك وضمان العيش المشترك. ولا يعني هذا انتفاء الفروق بين هذه الأديان، ولكن الاختلافات لا تعدو اختلاف وجوه الآلهة، والتركيز على طقوس معيّنة، وإضفاء الطابع المؤسسي على شكل معين من أشكال العبادة، وتوزيع الأدوار بين مختلف المتخصصين في الشأن المقدّس (الشامان، الكاهن، العرّاف، المتطبّب). ولكن الأساس واحد والدعامة هي ذاتها.

حين أرسل البابا علماء النياسة إلى أعماق الغابات المطيرة الأفريقيّة، فإنّ ذلك كان بهدف تأكيد عالميّة التوحيد. وفي ذلك الزمان، باشر الأب فيلهلم شميدت (Wilhelm Schmidt) جمع المعتقدات من جميع أنحاء العالم، وبدأ في تحرير مؤّلف عظيم بعنوان "أصل فكرة الله" (20 مجلّدا، 1912-1918) بهدف بيان عالميّة التوحيد تجاه الأشكال الدينيّة الأخرى (18). وقد ظلّت تلك الأطروحة دائما مثار جدل، ولم يكن لها أبدا أيّ سلطان في عالم الأناسة. ولكنّ فكرة عالميّة الأشكال الدينيّة يمكنها أن تبعث اليوم من جديد على أسس أخرى مخالفة كلّ المخالفة. فالتوحيد ليس أوّل الأديان ولا أحدثها. وما هو إلاّ مجرّد شكل من أشكال بنية دينيّة واحدة اتّخذت على مدى التاريخ صورا متعدّدة.