التحالف بين السحرة والشيطان



الاعتقاد بالسحر كان منتشرا منذ وعي الانسان، وقد اتخذ العديد من المعاني والاشكال، ولازال الاعتقاد فيه منتشرا في العالم العربي والاسلامي بقوة مختلفة، الى درجة ان السعودية تعتبره جريمة وتعاقب عليه الى حد الموت.. ووآثار الاعتقاد فيه لازالت توجد حتى في اوروبا، وقتل السحرة والساحرات وحتى حرقهم يجري في افريقيا حتى اليوم.

منذ البدايات المبكرة لظهور الوعي بالذات كان الانسان يلجأ الى السحر والسحرة من اجل الشفاء ومعالجة وجع الاسنان او لشراء الحب والحظ او من اجل الحاق اللعنة على جار له او منافس وحتى من إجل رشوة الارواح والقوى العليا وشراء رضاها. وعلى الرغم من قدم السحر والانتشار الواسع له، الا ان السحرة القدماء تركوا اثارا قليلة تدل عليهم، وهو امر ليس بغريب ، ونحن نرى كيف يجري إجتزازهم بصمت وعنف. لهذا السبب كان من المُدهش ان تقوم الاركالوجية Jacqui Wood بالعثور على بقايا التضحيات والاضاحي التي لايمكن تفسيرها الا في سياق فن السحر، وهي اشياء قد عثر عليها في حفر عديدة لمنطقة قديمة تعود الى ماقبل 8500 سنة.

الحفرة الواحدة مساحتها 25×35 سم، وفي البداية اعتقد الباحثين انه حفرة لاعمدة البيت، ولكن بعض الحفر كانت مملوئة بريش ابيض من اذيال الطيور. الريش لازال ملتصق ببقايا جلد الطيور. فوق الريش نجد كومة من احجار صفيحية حادة مجلوبة من منطقة قرب الشاطئ تبعد 25 كيلومتر، تسمى Swan Pool. في الحفرة كان يوجد ايضا بضعة مخالب تعود لعدة انواع من الطيور. في البداية عثرت الباحثة ومساعديها على ثمانية حفر منهم اثنتين تحتويان على الكثير من اجزاء اجسام الطيور، في حين بقية الحفر جرى افراغها ولم يبقى فيها الا بقايا من الريش تخبرنا ان بقية الحفر كانت ايضا لنفس الغرض.

عام 2005 جرى العثور على المزيد من الحفر، واحداهم كانت دائرية وتحتوي على 55 بيضة من مختلف الاحجام اضافة الى ريش ذنب الغربان. قشور البيض لم تكن باقية في حين بقي غشاء البيض محافظ على نفسه ومنكمشا بفعل البيئة الطينية الرطبة. في سبعة بيوض كانت هناك بقايا اجنة وصلت الى مراحل متقدمة من تطورها. على مختلف جهات كومة البيض توجد بقايا هياكل لمختلف انواع طيور عائلة الغربان ، وهي طيور تربطها الاساطير بالعديد من القصص والاساطير عن الطالع السئ والجيد.

عند القيام بتحقيق عمر اللقى، بواسطة فحص الكربون 14، ظهر ان الحفرة تعود الى منتصف القرن السادس عشر. ذلك الوقت كان يسوده الاضطراب في انكلترا، حيث كانت الحرب الاهلية وملاحقة الاشخاص الذين يحاولون بواسطة الطقوس والنذور والادعية والرقية والطلاسم تحسين حياتهم وتسعير حياة اعدائهم، حسب اعتقاد الجميع، الامر الذي كان يخيف السلطات.

ملاحقة السحرة والساحرات، وهم الاشخاص الذين يعيشون على خلاف الدوجما التي يسوقها رجال الدين، وتستخدم موروث الديانة القديمة، وصلت الى قمتها في شمال اوروبا في القرن السادس عشر. احد التفاسير المحتملة لهذه الحفر ان يكون لهم علاقة بسانت برايد St Bride of Irland, والذي كان قدس حامي للاطفال ومن المحتمل ان يكون له علاقة بإله وثني قديم هو بريجيد Brigid. من المحتمل انه كان مكان تقوم فيه العرائس الجدد بالتضحية على امل الحصول على اطفال بعد انتظار وقلق، لكون بريجيد هي الهة الخصب.

حسب الاساطير الانكليزية القديمة، كان ذيل الطير يجلب الحظ، وايضا يؤدي الى نجاح الحياة الزوجية، لان الطيور تعيش مع شريك واحد مدى العمر. عندما تصبح المرأة حامل، عليها ان تفرغ الحفرة على الفور حتى لايشك احد بأنها حملت عن طريق السحر، لهذا السبب كانت الكثير من الحفر فارغة.

بالقرب من الحفر التي عُثر على الريش فيها وجد الباحثين حوضين مائيين كان الماء فيهم من مصدر خارجي وكانوا مكسيين بحجر الكفاست الابيض. في الحوضين كان يوجد 128 حزام قماشي، 6 ابر خياطة ، اجزاء من احذية، واغضان نبتة ليونغ والتي تعتبر جالبة للحظ، إضافة الى اظافر وشعر بشري وقدر كبير. اثنين من الاحزمة القماسية يحتويان على نسيج من الصوف والحرير مما يشير الى ان صاحبهم كان من اعالي القوم.

محتويات الحفر والحوضين يعودان الى عام 1640. الاحجار البللورية البيض جعلت الاحواض تضئ في الظلام وتضفي على المكان وهجا مقدسا. من المحتمل ان يكون في هذا المكان كان مركزا لتجمع الناس قبل 6 الاف سنة. هذا الوقت جرى تحديده من خلال تحليل عمر طبقة الارض التي جرى حفر الاحواض فيها. ولذلك يبدو ان المكان حافظ على قيمته الروحية المقدسة على مدى الزمان، ليصبح في النهاية مكان لاخفاء مايذكر بقناني وزجاجات السحرة في القرن السادس عشر. هذه الزجاجات كانت ممتلئة بالبول والشعر والاظافر وجرى طمرها من اجل رفع السحر عن احد ما بطريقة سحرية. بالترافق مع طمر الزجاجة في الارض تجري طقوس سحرية وقراءة التعاويذ واللعنات. رفع السحر جرى النضال من اجله، في القرن السادس عشر، بكافة الوسائل واستخدموا لذلك جميع المعتقدات والايمان والكتب المقدسة للوصول اليه وايقاف لعنات السحرة، إضافة الى حرق السحرة والساحرات. الامر نفسه نراه يحدث في منطقة كورنوال corn wall, الممتلئة بحفر التضحيات.

مابين الثمانينات من القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر جرت محاكمة 100 الف ساحرة وساحر في اوروبا، نصفهم انتهوا بأحكام الاعدام والاغلبية كانوا من النساء. في السابق كان الاعتقاد ان ملاحقة الساحرات يرجع الى فترة القرون الوسطى، ولكن دراسات الفترات الاخيرة نقلت التاريخ الى مابعد الاصلاحات في بداية القرن السادس عشر.

بعد فترة قصيرة من اعلان بابا الفاتيكان اينوسينتوس الثامن Innocentius VIII, بيانه بملاحقة السحرة عام 1484 نشر الرهبان الدومينيكان Heinrich Kramer & Jacob Sprenger, في المانيا كتابهم " مطرقة الساحرات" "Malleus Maleficarum", وهو كتاب يشرح كيفية التعرف على السحرة وملاحقتهم. في هذا الكتاب، جرى لاول المرة التأشير على العلاقة بين الشيطان والنساء " الذكيات" وبين الرجال الذين يحاولون ، حسب اعتقادات ماقبل المسيحية، جلب الضرر او العافية من خلال الطقوس القديمة، في التنافس مع المسيحية على إعتقادات الناس، الامر الذي يؤثر على سلطة ووصاية رجال الدين على اذهان وجيوب الناس.

سابقا كانت الكنيسة تكتفي بلعن هذه النشاطات المتجذرة في وعي الناس الموروث، وتتبه الى انها من بقايا الوثنية،ولكن منذ القرن الرابع عشر بعد ان اصبحت المسيحية اكثر ثباتا في وعي الناس، وبعد ان نشرت الكنيسة قصصا مختلقة عن ان الساحرات يقودهن الشيطان، في سعيه من اجل تضليل البشر وثنيهم عن الدين الصحيح، وتحويلهم الى عبادة اتباع الشيطان، وهي ذات المفردات التي يستخدمها رجال الدين حتى اليوم، تجرأت الكنيسة على إقامة عقوبات القتل بحق المخالفين.

حسب القناعات الشعبية في ذلك الوقت، كان يجري كسب النساء الى السحر من خلال اغراء الفقيرات بالدعوة الى حفلات، وهناك تقابل الشيطان شخصيا، الذي يتمثل لها على شكل بشر سويا، ويُطلب منها ان تنحني له وتطيعه، فتقبل المراة قدمه. الشيطان يقوم بوضع علامته على مكان ما في جسمها، وحول تلك العلامة يفقد الجلد احساسه. بذلك تكون المرأة قد تخلت عن روحها لصالح الشيطان، وفي المقابل تحصل على مكنستها السحرية الشهيرة.

عندما تضع المكنسة بين قدميها وتصيح " انطلقي على بركة الشيطان" تطير منطلقة في السماء الى اجتماع السحرة، الذي يعقد في اعالي الجبال او المناطق المعزولة. عند التحقيق معهن، كان النساء يعترفون انهم كانوا في ايام السبت يجتمعون ، يشربون الخمر ويرقصون ويقبلون مؤخرة الشيطان ويمارسون الجنس مع بعض. هذه الطقوس اساس العقد مابين الشيطان والساحرات. غالبا كانت الاعترافات تستحصل بدون تعذيب على الاطلاق، والذي كان اقل شيوعا مما كنا نعتقد. في العديد من البلدان جرى منع التعذيب بدون ادلة.

حرق الساحرات كان على الدوام يجري ربطه بالعصور الوسطى ومحاكم الغفران الكنسية، وهي محاكم بابوية جرى انشائها عام 1231. محاكم الغفران انشغلت بالسلوكيات التي تعتبر هرطقة وخروج عن الدين الصحيح. مثل حركة الغنوصية، في حين ان ملاحقة الساحرات كان جزء ضئيل من مهام هذه المحاكم.

بالنسبة للساحرات، كان من الافضل لهم ان تجري محاكمتهم من قبل المحاكم البابوية على ان تجري من قبل المحاكم البروتستانتية. محاكم الكنيسة الاسبانية والايطالية كانت اخف وطئة بكثير من المحاكم البروتستانتية. في اسبانيا صدرت احكام الاعدام على 2% فقط من مجموع 440 الف محكمة، وفي ايطاليا لم يجري اي حكم اعدام منذ عام 1550، ولكن في الواقع لم تكن لملاحقة السحرة والساحرات علاقة كبيرة مع المؤسسات الكنسية. العامل الحاسم في ملاحقة السحرة كان التغييرات الاجتماعية في اوروبا التي كان يُنظر اليها من قبل الكنيسة على انها خروج عن العادات والتقاليد الحميدة، والسلوكيات الجديدة كان ينظر اليها على انها تسعى لابعاد الانسان عن الدين، ولذلك كلما زادت الكنيسة نشاطها لجمع الناس حول الدين الصحيح كلما ازداد ربط السلوكيات الجديدة بالشيطان وارتفعت بذلك عقوبة المذنب.

تحريم التحالف مع الشيطان وفرض العقوبات القاسية عليها، يظهر انه لم يخيف سكان كورنوال في الفترات المتأخرة. عام 2008 عثر الباحثين على المزيد من الاضاحي. احدهم كان مغطى بجلد قطة اسود ويحتوي على 22 بيضة، وجميعهم كانوا يحتون على جنين كامل تقريبا. إضافة الى ذلك كانت توجد مخالب واسنان وشوارب قطط. هذه الضحايا تعود الى القرن السابع عشر. في حفرة اخرى كان يوجد جلد واسنان كلب، وحنك خنزير وجميعهم يعودون الى خمسينات القرن الماضي.

احدى الوصفات السحرية التي جرى العثور عليها في انكلترا نقرأ فيها التالي:
خذ قبضة من المسامير وقطعة من الجلد على شكل القلب وقسم من الحبل السري للوليد وعشرة اظافير مقصوصة وضعهم جميعا في زجاجة. اضف اليهم القليل من البول ثم اغلق الزجاجة بإحكام وادفنها في الارض مقابل المدخل الرئيسي. هذه الوصفة قادمة من القرن السادس عشر، حيث وصل الايمان بالسحر الى قمة ازدهاره، وقد تم العثور على 200 زجاجة مصنوعة خصيصة للاحتواء على الوصفات السحرية.

في احد المرات واثناء البناء تم العثور على قنينة مغلقة، لازالت تحتوي على عناصر سحرية. عند التحليل الكيماوي للمحتويات في مختبر جامعة loughborough ظهر ان القنينة الحجرية تحتوي على بول له من العمر 300 سنة. اضافة الى ذلك لاحظ الباحثين ان الاظافر محافظ عليها بعناية مما يعني ان صاحبها من الاغنياء الذي لم يكن يعمل يدويا. كمكا كانت القنينة تحتوي على قطعة من الجلد مقصوصة على شكل قلب ومطعونة بمسمار.

من الواضح ان الوصفة لاتهدف فقد الى دفع الشر وانما ايضا توجيهه الى صاحبه. الايمان بالسحر كان منتشرا في انكلترا حتى القرن الماضي، غير ان الباحثة تشك في ان هذه الممارسات قد انتهت وتعتقد ان الطقوس لاتزال تجري في السر حتى الان. والسحر لازال واسع الانتشار في بعض البلاد العربية مثل السعودية وموريتانيا والسودان. في بقية البلدان العربية اصبحت شدته اخف ولكنه لازال منتشرا بين الفقراء والاميين وبين الفئات الاصولية. في الفترة الاخيرة اعلن الشيخ الوهابي علي بن مشرف العمري تخليه عن الاعتقاد ان الجن تتلبس الانسان، وان كل ماكان يفعله من قراءة على الممسوسين كان تلاعب وان الطبقة التي تدعي انها  ملبوسة هي طبقة الساذجين، هذا على الرغم من انه بنى ثروتها على هذه الممارسات.  لمشاهدة اعتراف الشيخ هنا  

الإسلام ؛ عقلاني أم معقول ؟

الفرق بين قولنا أن الإسلام عقلاني أو أن الإسلام معقول ، كون العبارة الأولى تعني أن العقل هو منشئ للأحكام وعليه فلا ضرورة للاعتماد على النقل ولا الاتكاء أو الرجوع إليه مطلقاً ، وأما الثانية فتعني أن الأحكام الإسلامية تعرض على العقل فيحكم عليها بالإمكان ، أي أنه لا يجد فيها مخالفات منطقية تدعو لأن يحكم على الأمر بالاستحالة .

وبعد تفريقنا هذا ننتقل إلى بحث مكانة العقل في الإسلام ، وحتى لا نطيل الكلام فإن العقل في الإسلام هو أول الأدلة ، وهذه العبارة لم يختص بها المعتزلة كما هو شائع بل هي من المقررات عند عموم المذاهب الإسلامية – ما خلا الحشوية - فإن مبحث الإلهيات أو التوحيد هو أول مباحث علم الكلام في جميع المذاهب ، وأول الأبواب هو إثبات وجود الخالق واجب الوجود ، والدليل المعتمد في هذا المبحث هو العقل إذ أنه عمدة البراهين الدالة على وجود الله . وبذلك يظهر أن الإسلام لم يلغي العقل بل اعتمده في أول المباحث وأهمها وهو مبحث إثبات وجود الخالق ، ويمتد العقل ليثبت صفات الخالق ولكن هنا يتكئ العقل على أمر آخر وهو النص ، ويكون دور العقل رد المحال في حق الخالق ، فعلى سبيل المثال ، قد توهم بعض النصوص أن الخالق يشابه خلقه ، أو أنه في مكان أو زمان ، فيتدخل العقل حتى يحكم باستحالة مثل هذه الادعاءات .ويقوم بتأويلها بما يناسب المقام .

مما سبق يتضح بشكل لا يدع مكاناً للشك أن الإسلام معتمد بشكل كبير على العقل ، وكما قيل "العقل رسولُ كلِّ إنسان" إذ أنه لولاه لما أمكن الوصول إلى وجوب وجود الإله الخالق الموجد ، وإذا ما نظرنا في كتاب الله وجدنا عشرات الآيات تحض على استخدام العقل وتحكيمه ، وتعاتب الكفار أنهم غفلوا عن الأسئلة التي تطرحها عليهم عقولهم ، وفي ذلك قال الله {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} ، فعن مجاهد في تفسيرها أنه قال : (الصم البكم الذين لا يعقلون"، قال: الذين لا يتّبعون الحق) ، وعن الطبري أنه قال : (إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله، الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه، فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكُصون عنه إن نطقوا به) .

الآن نأتي لنناقش أصحابنا المطالبين بإلغاء النصوص إلغاء تاماً والاعتماد على العقل وحده ، وأول سؤال يعرض عليهم ، أن العقل إذا كان كافياً وحده ليكون رسولاً فما الضرورة من إرسال الرسالات والرسل ، علماً أنها (أي إرسال الرسل) في مقام الواجب على الله تعالى ، وهو يدخل ضمن باب العدل الذي يعده المعتزلة ضمن الأصول الخمسة عندهم ، وكون خطابي هذا موجه في المقام الأول للمسلمين ، فإن ذلك يلزم من ادعى ذلك منهم كون الرسالات عبثية وهذا محال في حق الله ، أو أن يكون الأنبياء كذبة وهذا كفر بما جاءوا به ، وإذا ما رجعنا لآيات الكتاب وجدنا أن السمع والعقل هما أدوات التكليف ، فلا يجب الإيمان على المجنون الذي فقد عقله والقاعدة الأصولية المعروفة تقول : (إذا سلب ما أوهب ، أسقط ما أوجب ) ، وفي نفس المقام فلا يجب الإيمان على من لم يصله نبي أو رسول ، وفي ذلك يقول الله { وَ مَا كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتى نَبْعَث رَسولاً } وحتى لا يشاغب علينا أحدهم فيقول أن الرسول هو العقل ، نورد الآية التي جمعت الشرطين وهي قول الله تعالى { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقد قال الزمخشري شيخ المعتزلة في ذلك السياق (قَالُواْ بلى : اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثه الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه ... وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل . ) فلا أدري من أين جاء من ينسبون أنفسهم إلى المعتزلة ببدعة الاكتفاء بالعقل فقط ! وهو ما اشتهر قديماً على لسان فرق بادت وانقرضت ! ولا أظن المعتزلة منهم !

نرجع الآن لننظر هل يوقف العقل أحكاماً فالإجابة على ذلك في القاعدة الأصولية :(الضرورات تبيح المحظورات ) والقاعدة الأخرى القائلة :(لا ضرر ولا ضرار ) وغيرها من القواعد التي تضع مصلحة الإنسان في المكان الأول ، وبذلك نرى ان القاعدة التي وضعناها في بداية المقال في تعريف كون الإسلام معقولاً ، وهي أن الأحكام تعرض على العقل ، نجد أن تطبيق بعض الأحكام قد يعرض الإنسان للوقوع بالضرر وعليه فالحكم عليها التحريم من منطلق عقلي-شرعي .

وننظر الآن هل ينشئ العقل أحكاماً ، والإجابة على ذلك جاءت في حديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم ) : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد . إذن العقل يقف مفتقراً للنص في مجال إنشاء الأحكام الشرعية ، ويمتد ذلك في مجال تعليل الأحكام الشرعية ، فكثير من الأحكام نعرف عللها كتحريم الزنا والخمر والسرقة وإلى ما هنالك ، لكن نقف عاجزين أمام قضايا أخرى كعدد الصلوات وعدد ركعاتها ووقت الصيام وما يشابه هذه القضايا .

إذن العقل لا يمكنه بحال أن يحكم بوجوب شيء دون نص منفرداً ، خصوصاً في القضايا التعبدية ، أما في القضايا العامة فإن ذلك يكون مندرجاً تحت قواعد كلية كحفظ النفس والعرض والمال وغيرها ، ويقف عاجزاً أمام التعليل التام لكافة التكليفات ، وقبل ذلك كله وأهم منه ، فهو يقف عاجزاً كل العجز عن معرفة عين الإله الخالق الموجد الذي يجب على المخلوق أن يتوجه له بالعبادة ، ولا أعرف هل يمكن لأصحابنا أن يعبدوا خالقاً مجهولاً دلته عليه عقولهم ، وهو يخالفون أمره باتباع ما أرسل لهم من البينات والهدى ؟!

وأزيد على ذلك أن القاضي عبد الجبار في أوائل صفحات كتابه شرح الأصول الخمسة ،حين تكلم عن الواجب وأقسامه ضرب الأمثلة تارة من الواجب العقلي وتارة من الواجب الشرعي ، ومن المعروف بالبداهة أن العقل لا يستقل بالحكم على أمر ما بالوجوب الشرعي !فكيف يمكن لهؤلاء أن يوفقوا بين كون هذه الأمور واجبة ، وفي ذات الوقت غير مذكورة بالنص ؟!


ختاماً ولا أريد أن أطيل أكثر ، ولا أجد أن هذا الموضوع يستحق كثيراً من البحث ، إلا أن آفة التقليد والتطبيل للمقابل وإتباع الأفكار والآراء الشاذة في محاولة صياغة الإسلام بقالب حضاري دون بحث أو تمحيص تفعل مثل ذلك بل وأكثر منه ، والله تعالى المستعان ، وأسأله التوفيق والسداد والرشاد .

المرأة والدين

ما إن ترفع المرأة صوتها مطالبة بحقوقها وبالمساواة مع الرجل، حتى تتحيز أصوات كثيرة ضدها، تطالبها بالعودة للبيت والإلتزام بالحدود التي رسمها الإسلام لها، بدأً من رجل الدين، مروراً بأوصياء المرأة من الأب للزوج للإبن والأخ والعم والجد، وانتهاءً بأصوات المحافظين يذكرونها بعواقب ـ متخيلة ومفتعلة ـ تحرر المرأة في المجتمعات الغربية، بإظهارها كامرأة مُهانة ومُستغلة جنسياً، وأنها سلعة تُباع وتُشترى وأنها تتعرض للإغتصاب والعنف، زاعمين أن الإسلام قد صانها كمسلمة وصان كرامتها وآدميتها، كما لم تفعل حضارة أو ديانة من قبل، ولن تفعل لاحقاً.
ويبدو الدفع بالدين بالذات في وجه المرأة، حين تتحدث عن حقوقها ومساواتها بالرجل، هو الأسلوب الأمثل لإخراسها، ولكفالة إسكات مشروعها الإنساني في أن تكون جزءاً من عملية التحديث والتنمية والدمقرطة في بلادها، والدفع بالدين تحديداً، هو العامل المعوق الأهم والأخطر أمام تحرر المرأة للأسباب الآتية:
أولاً: سمو الدين وعلويته على أي شيء آخر عداه في مجتمعاتنا، لصدوره عن الله المقدس، الذي هو أدرى بعباده وأعلم بهم منهم.
ثانياً: الإيمان بشمولية الإسلام لكل المسائل الدنيوية والأخروية، وبأنه جاء للبشرية جمعاء بآخر الرسالات السماوية وأكملها لتنظيم حياتهم بكل دقائقها، لذا فإن ما استنه الله ونبيه يظل على حاله حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ثالثاً: الإعتقاد بإن الله غني عن العباد وهم الفقراء إليه، يسن لهم ما يوافق مصالحهم ويدرأ المشقة والفساد عنهم، لذا فأحكامه وشريعته ليست اعتباطية بحال، بل من واقع معرفته بهم وبما يصلحهم، ومن هذا المنطلق فهو الأدرى بالمرأة وبما يناسبها وبما يلائم حالها وطبيعتها.
رابعاً: طالما أن الأمر كذلك، فإن لطف أحكام الله بعباده يتأتى من قصورهم العقلي والمعرفي، فالعقل البشري عاجز عن إدراك ما ينفعه وما يضره، لذا اختص الله نفسه بالتشريع لهم وعنهم، ومن ذلك الأحكام التي تخص المرأة.
خامساً: المرأة في المخيال الإسلامي، من واقع القرآن، ومنظومة الحديث النبوي، وفي تفاسير الفقه وفي فتاوى الفقهاء هي عورة، رديف للشيطان، وفتنة ليس أضيّع منها على لأمة، وأنها خُلقت من ضلع أعوج مهما حاولت تقويمه فسيظل على حاله أعوجاً ميؤوساً من إصلاحه، لذا توجب أن تكون دائماً في رعاية أحدهم منذ ولادتها حتى يتوفاها الأجل، يُوكل إليه أمرها ومعاشها، ولا يُترك لها هذا طرفة عين، فهي غير قادرة على ضبط نفسها، ومن باب أولى ستكون غير قادرة على ضبط من قد يكون بمعيتها كالأبن مثلاً، لذا لا يُعهد إليها بتربية ولا بتهذيب، لدى معظم الفقهاء في الحضانة في حال طلاقها من بعلها، بل هي التي تُربى وتُهذب ـ حتى حين تشيخ ـ بالهجر في الفراش وبالضرب إن لزم الأمر، ولذا لا تجوز لها قوامة ولا إمامة ولا ولاية، وخروجها من البيت وحدها محفوف بالمخاطر، ووجودها مع رجل لا يحرُم عليها هو طامة كبرى لا يعدلها غير إنطباق السماء على الأرض، محكومة على الدوم بوجوب الطاعة لزوجها، لا بالشراكة معه على أساس العقد الذي ارتبطت معه به في علاقة الزوجية، فالعقد أصلاً يعتبرها موطوءة ويعتبر مهرها ثمناً لبضعها الذي هو فرجها للإستمتاع به، ومجرد غضب هذا الزوج عليها سيُدخلها جهنم من أوسع أبوابها ولو أتت بجبل من حسنات، فهي غير مؤهلة لفهم ما يعنيها من أحكام، ولو فهمتها فهي ليست مؤهلة لتطبيقها لأنها أولى بالإطباق عليها.
كل هذه الأحكام التي تجد سنداً لها في القرآن والسنُة وأقول الفقهاء، تلق قبولاً وترحيباً بقوة في المجتمع الذي تعيش فيه، وهي اليوم العامل الأخطر الذي يحول بين المرأة وبين أن تأخذ المكانة اللائقة بها، بعد أن نالت تعليماً يضاهي تعليم الرجل، ونالت وظائف عالية في دول عربية وإسلامية كثيرة، وبعد أن ساهمت في مسيرة الإبداع والتأليف والكتابة والقيادة، وبعد أن قدمت بالذات الكثير من العمل والتضحيات في مسيرة الحراك السلمي أو المسلح في دول ما يسمى بالربيع العربي، بليبيا ومصر وتونس واليمن وسوريا، وفي دول أخرى كالعراق والمغرب والسعودية ... الخ.
والمرأة اليوم في مجتمعاتنا، باتت تُدرك أهميتها في التنمية وفي الديموقراطية وفي نهضة المجتمع ككل، وقد أُتيح لها أن تطّلع وتستفيد من تجارب حركات نسائية سبقتها في دول كثيرة، وتعرف أن التأسيس لحالة مدنية عقلانية في المجتمع بالشراكة مع الرجل، ومحاربة الثقافة العامة التي تسود المجتمع ككل ـ رجال ونساء ومؤسسات ـ هي التي ستكفل لها الوصول لأهدافها في نيل الكرامة والمساواة، هذه المرأة اليوم، تتعلم ببطء لكن بإصرار أن الدين هو عامل معوق لمسيرتها في التحرر، وأن هذا الدين يحرس هوانها ويكرس لتبعيتها بما انطوت عليه أحكامه وتفاسيره من تحجيم لها ولدورها، وأن هذا الدين يجب اليوم أن يُعاد قراءته من جديد، وبمفاهيم عصرية مدنية، في مبادرة تشملها هي بالذات لتجعل منها طرفاً في عملية إعادة القراءة، ليتوقف احتكار الدين وتفسيره من الأصوليين والذكوريين.
على المرأة في مجتمعاتنا العربية أن تواصل الحفر بأظافرها في صخرة المجتمع الصماء، وفي اللوح المقدس لمنظومة العادات والتقاليد، وأن تستعد لمجابهة الدين بالذات، لكونه الأكثر قداسة وتجذراً في الضمير الشعبي ككل، لتغزل قماشة تحررها، وهي رحلة ولا شك ستكلفها الكثير وستدفع بها لكثير من المواجهات العصيبة، وستُدخلها في صدامية مع منظومة مجتمعية كاملة، النساء المعاديات فيها أكثر من الرجال، الناس العاديون فيها أكثر رجال الدين، العادات فيها قبل القرآن والحديث النبوي.

وفاء البوعيسي
كاتبة ليبية مقيمة بهولندا